مفاتيح النفوس لإنجاز التغيير السياسي
بقلم: خالص جلبي
راهنت المعارضة العراقية على الساحر الأمريكي أن يخلصها، كما يفعل بهلوان السيرك فيخرج لهم من القبعات السوداء أرانب بيضاء. ويمنحهم من دمار العراق ديموقراطية لامعة بختم أمريكي. ولكن كلا من علم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس والفلسفة والقرآن، تقول إن التغيير عملية داخلية أكثر منها جراحة خارجية، وإن التخلص من الاستعمار هو بتصفية (القابلية للاستعمار)، وإن جذور الاستعمار تضرب في تربة الثقافة. وإن هذا المرض يعس في مفاصل الثقافة العربية مثل الروماتيزم الخبيث، منذ الانقلاب الأموي، وقتل العقل على يد تيار ما سمي (أهل السنة والجماعة) ولم يكن بسنة ولا جماعة. وإن العرب يؤمنون (بالعضل)، لأنه (لا عقل) لهم. وكما يقول (مالك بن نبي) في كتابه «شروط النهضة» إن «الحكومة آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه، فإذا كان الوسط نظيفا حرا فلن تستطيع أن تواجهه بما ليس فيه، وإذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلا بد أن تكون حكومته استعمارية». ويجب أن نفرق بين (الاحتلال) و(الاستعمار)، فأمريكا (احتلت) اليابان وألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن (هولندا) استعمرت (أندونيسيا). وظاهرة (القابلية للاستعمار) تشكلت عندنا تحت قباب القيروان وبغداد والقاهرة، قبل مجيء العسكر الأجنبي بوقت طويل. فهي (حالة ذهنية) و(وضع نفسي) يتسم بالعجز الداخلي، وتشظي المجتمع، وفقدان (تقرير المصير). وهنا يصبح البلد في حالة (تهيؤ) للاستعمار ولو لم يجئ (الاستعمار). وإذا كانت (اليمن) قد بقيت بدون احتلال خارجي، فلأنها كانت بلدا (مستعمرا) بيد الإمام الداخلي. ونحن اليوم لم نتحرر من فرنسا وبريطانيا، ولذا فأمريكا جاءت إلينا، بسبب الفراغ الذي تكرهه المادة. وعندما نقول عن القدح إنه فارغ فهذا خطأ علمي، فهو مملوء بالهواء والطبيعة تأبى الفراغ. ونظرا لأن العرب (يؤلهون) القوة، فهم يخضعون للأشد بأسا وتنكيلا. ولذا خضعت رقابهم للمغامرين العسكريين المحليين من فصيلة الطواغيت الصغار في الغابة العالمية. وفي الوقت الذي يأتي من هو أقوى يخطفهم ويغتصبهم. وتصفق الشعوب المخدرة المغفلة للأقوى، كما فعل أعيان البصرة بالترحيب بالجنرال البريطاني (باريت) عام 1914 م. ونحن اليوم في العالم العربي نظن أننا حققنا الاستقلال، ولكن الناس في واقع الأمر يعيشون حالة (استعمار) داخلية بئيسة، بيد أقليات إثنية ودينية وعائلات إقطاعية مسلحة، بما يترحم عليه من عاش فترة الاستعمار الأوروبي. وهذا يعني بكلمة أخرى أن (المرض النفسي) الذي هيأ لهذه الظاهرة المشؤومة لم يتعاف منه المواطن العربي بعد، سواء حضر الأمريكيون أم لم يحضروا، لأنه علة داخلية. ولو خسف الله الأرض بإسرائيل، فلن تحل مشاكلهم الداخلية. وكل من ظن أن قدوم الأمريكيين سوف يمنحهم التخلص من (القابلية للاستعمار)، فهو كمن يتصور الحمل الكاذب بانتفاخ بطن العقيم بدون حمل. وهي ظاهرة معروفة في الطب وعلاجها نفسي وليس عضويا. ويعود تعقد الأزمة السياسية الراهنة إلى أننا نجهل «القوانين الأساسية» التي تقوم عليها الظاهرة السياسية، عن صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي، أنها آلة تؤثر فيه وتتأثر منه على نحو تبادلي. وكما يقول عالم الاجتماع (بورك): «إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية، لا تستطيع أن تحتفظ ببقائها»، وبذلك نشأت عندنا (دروشة) جديدة استبدلنا فيها التمائم والأيقونات والحرز بأوراق الانتخابات ومجالس الشعب والشورى، ونحن نظن أننا نقيم جمهوريات ونبني ديموقراطيات، في الوقت الذي احتل الحاكم مكان شيخ الطريقة الصوفية، فيبايع إلى الأبد. وهل يمكن تنحية البابا من الفاتيكان، أو شيخ الطريقة من الحلقة.
في شتنبر من عام 1850 م وجه (كارل ماركس) خطابا إلى (فينيش) لمن أطلق عليهم (أدعياء الكيمياء الثورية) يقول فيه: «إن هؤلاء الأدعياء يعتبرون أن الرغبة هي الدافع إلى الثورة دون أن ينظروا إلى ما يجب توافره فعلا. أما نحن فنقول للعمال: لسوف تقضون خمسة عشر عاما أو عشرين أو خمسين في الحروب الأهلية والدولية لا من أجل تبديل الأوضاع الخارجية فحسب، ولكن من أجل تغيير أنفسكم». وهذه العبارة الماركسية تصب في خانة الآية القرآنية، التي اعتبرت أن تغيير الله معلق بعمل البشر، فهو لا يغير حتى ينطلق البشر فيغيرون. وهذه نقلة نوعية في التفكير فبدلا من تقليب النظر في السماء يتحول التغيير إلى علم الاجتماع. وبدل الضياع في علم الكلام يصبح اللاهوت في علم السياسة كما عنون الفيلسوف سبينوزا كتابه «في اللاهوت والسياسة». و«إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
أما (علي الوردي) فنظر إلى المسألة من زاوية علم الاجتماع، فرأى في كتابه «تاريخ العراق الحديث» أن الفقر والظلم لا يفجران الثورات، فالشعوب على حد قوله «قد ذاقت في العصور القديمة والوسطى أبشع أنواع الظلم والاستعباد، دون أن تقوم بالثورة على حكامها»، لينتهي إلى تقرير أن «هناك رأيا تأخذ به طائفة من علماء الاجتماع، مؤداه أن الظلم وحده لا يكفي لقيام الشعوب بالثورات على حكامها، بل يجب أن يكون في الشعوب شعور بالظلم وحافز يحركها للثورة، وهو ما نسميه الوعي الثوري».
يحكى أن عملاقا في منطقة سمع بعملاق آخر ينافسه على الزعامة، فخاف منه وأرسل يخطب وده، فما كان من الأول إلا أن شتم الرسول ورد الهدية. فغضب الثاني وحمل هراوته وأسرع باتجاه العملاق الأول، فاهتزت الأرض من خببه وغضبه. فلما وصلت الأخبار إلى العملاق الأول أصيب بالرعب، فظهر ذلك على محياه. قالت له زوجته: «لا تخف يا عزيزي، واستلق في السرير واترك الباقي لي»، ثم إن المرأة الذكية عمدت إلى تغطية زوجها عدا رجليه. ولما وصل العملاق الثاني وهو يتوعد، نظرت إليه المرأة الحكيمة بهدوء ورفعت أصبعها إلى شفتيها فقالت له: «صه .. لا توقظ الغلام»، نظر الرجل إلى القدمين العملاقتين خارج الغطاء، فاصطكت مفاصله وقال في نفسه: «إذا كان هذا حجم الغلام، فكم يكون الأب؟»، ثم أطلق ساقيه للريح لا يلوي على شيء.