عبد الإله بلقزيز
يـدرك معـظـم الباحثيـن والكـتـاب الذيـن يـتـنـاولـون المجـال السـياسي العـربي، الحديث والمعاصـر، صعـوبة تطبيـق مفاهيـم نظريـة الـدولـة الحديثـة لتحليل ظـواهـر ذلك المجـال وآليات السـياسـة فيه.
مرد تلك الصـعوبـة إلى عـاملـين متـرابطـين: إلى أن منـظومـة مفاهيـم النـظريـة السـياسـيـة ثـمرة لـواقـع سيـاسـي مطـابق هـو: وجـود دولـة وطنـيـة حديثـة اقـتضـت قيـام معـرفـة خاصـة بـها؛ ثـم إلى أن تـطـور المجـال السـياسي العـربي لم يبـلـغ بعـد الـدرجة التي تجـعلـه داخـلا في نمـوذج الـدولـة الوطنـيـة، على الرغـم مـن كـل مـا مَسـه من تحـديث تبين، مع الزمـن، أنـه طـال البنى والهيـاكـل – حـتى لا نـقـول القـشـور- مـن غيـر أن يـرمـي بتأثيـر كبير في نظـامـه الـداخـلي وعـلاقـاتـه.
هـذا ما يفـسـر لماذا يستـمر هـذا الامتـناع المعـرفي، ويستمـر معـه جـدل فـكـري مـواز يـدور على سـؤال الكـونيـة والخصوصيـة: هـل نظـريـة السـياسـة (نظـريـة الـدولـة الوطـنيـة) كـونـيـة، حـقـا، أم هـي خاصـة بنمـوذج للـدولـة قـام في بـلدان أوروبـا والغـرب واسـتـتب له الأمـر؟ وكيف يمكـن النـظـرية هـذه أن تكـون كـونيـة، فيما النـموذج السـياسي الذي تـتـناولـه (الـدولـة الوطـنيـة) ليس كـونـيـا؟ في المقابـل، إنْ سـلـمنا بأن لـكـل نمـوذج سياسي خصوصيته، وأن معـرفته لا تكـون – بالـتـالي- إلا تعبيـرا خـاصـا عن الخصوصيـة تلك، يستـتبـع ذلك القـول إن معـرفـة مطابِـقـة للمجـال السـياسـي العـربي هي، على التـحقيق، تلك التي لا تـدخـله في جسم نمـوذج أعلى منـه وأكثر تركيـبا، فـتـقـرأ معطـيـاتـه على مقتضى ذلك الإدخال القسري مسْـقِـطـة عليه، من عـل، تركيـبات ذهـنـيـة مجافـيـة أو غيـر مجافـية…، وإنـما هـي المعـرفـة التي تـبنى على حاكميـة المعطـى المـوضوعـي، أو معطـى موضوعهـا، وتـقـدم أجوبـة عن أسئلـة يطـرحـها تكويـنـه ونظـام اشتـغاله على نحـو ما هـو عليه أمـره في الواقـع.
والحـق أن المـرء، في مثـل هـذه الحـال، لا يستـطيـع أن يمنـع نفسـه من تـشبيـه حـال المـفـكـرين والباحثيـن العـرب مع مسائـل الـدولـة والسـلطـة والمجـال السـياسي اليـوم – خـاصـة إن كانـوا فلاسفـة وعـلمـاء اجتـمـاع – بحـال فلاسفـة الإسـلام أمام المعطـى السـياسي الماثـل أمـامـهم، في زمـنـهـم، وما كان مـتـاحـا بين أيـديـهم مـن مـوارد المعـرفـة لتحليلـه وفـهـمـه. كانـوا في وضـع يناظـر هـذا الذي نحـن فيـه إزاء المعـضـلـة عيـنها: تحـت تصـرفـهـم خـزيـن معـرفـي ومـفهـومـي ثـر مستـقـى مـن فلسفة سيـاسيـة يـونـانـيـة، تكـونـت في سيـاق تحـليـل واقـع الـدول والـدسـاتيـر وأنظمـة الحكـم في المـدن اليـونانـيـة، وأمـامـهـم – في الوقت عينه – نظـام سـياسـي وسلطـة مخـتلـفان في الطـبيـعة والمصادر عمـا تعـرفـوا إليه في فلسـفـة السـياسـة عنـد أفـلاطـون وأرسطـو، بحيث لا يَـقْـبـلان مـقاربتـهـما بمـفاهيـم تلك السـياسـة. ومع أنـهـم بـذلـوا أَنْـفَـسَ الجهد للـتـغـلب على هـذا الإعضـال: إمـا من طريـق البحـث عـن وشيـجة بين العـقـل والـنـبـوة (والعـقـل الفعـال ورسـول الوحـي) ونـقـد المـدن الضـالـة المضـادة للمـدينـة الفاضـلة وعـدهـا مـدنـا جاهـلـة وجاهـليـة (أي سابقـة في الوجـود للـنـبـوة وللـعـقـل مـعا)؛ أو مـن طـريق نـقـل مشـروع تـدبيـر المـدينـة بالعـقـل – الممـتـنـع على فـلاسـفـتـنا – إلى تـدبيـر النـفـس بـه…، إلا أنـهـم مـا أصـابـوا من ذلك حـظـا مـن الـنـجْـح كبيـرا؛ حيث ما بـارحـت فـلـسـفـتـهـم السياسيـة مكـان الهـامـش من الـفـكـر السـياسـي الإسـلامـي إنْ هـي ضوهيت بغـيرها مـن أنـمـاط الكـتابـة السـياسيـة العربيـة الكـلاسيـكيـة: فـقـه السـياسـة الشـرعيـة أو أدب كـتـاب الـدواويـن التي احـتـلـت المـركز مـن الـفـكـر الإسلامي عصرئـذ.
لـعـل ابـن خـلدون وحـده أفـلت من شـراك ذلك الامـتـنـاع، وظفر بـقـدر ملـحـوظ مـن التـحـرر مـن قيـود أي مـرجـعية فـكـريـة سابـقة لـه، ومـن الوعـي بحـدودهـا المعـرفـيـة وعـيـا أمـاط عنـه اللـثـام نـقده لـها جميـعها (الفـقـه السـياسـي، والكـلام، والأدب السـلطـاني، وفـلسـفـة السـياسـة). ومـا أحـرز العـلامـة نجـاحـا في ذلك، إلا لأنـه تـنـاول الـدولـة والاجتـمـاع السـياسـي العـربي في الواقـع التـاريـخـي والمـادي، واجـتـهـد في اشتـقـاق المـفاهيـم الـفكـريـة المـناسـبـة مـن غيـر أن يـقـطع، تمـاما، مع مصـادره الـفكـريـة الفـلسفـيـة والفـقـهيـة. وإذا كـانت مـقاربـة ابـن خـلدون للاجتـمـاع السـياسـي العـربي قـد ارتـفعـت فـوق معـدل المـعرفـة الإسلاميـة بمسائل السياسـة وشـدت اهتـمـام اللاحـقـيـن، مسـلمـيـن وغـربـيـيـن، وبـاتت عنـدهم مـرجعـيـة، فـما ذلك إلا لأن صاحبــها اهـتـدى إلى شـق طـريق المعـرفـة الصـحيحـة للمجـال السـياسـي كان مبـنـاه على الـنـظـرة الوضعانيـة، وعلى إحـسـان اخـتيـار أداة التـحليل المناسبـة أو- عنـد تـعـذر العـثـور عليـها جاهـزة – توليـدها من سابـقات أو إنـتـاجـها.
لا نـدحـة، إذن، عـن سلـوك هـذه السـبيل الخـلدونـيـة مـن قِـبَـل أهـل الـفـلسفـة والعـلوم الاجتماعيـة والسـياسيـة العـرب المعاصـرين، إنْ هـم أرادوا أن يعـثـروا على الحـل النـاجـع لهـذه المعادلـة القائمـة على مـفارقة صارخـة: مـعـرفة متـولـدة مـن الـتـفـكـير في ظـواهـر وأوضـاع مخـتلـفة، وواقـع محـلي غيـر عَـسِـي على الاستجـابـة لـمـوارد تبـدو وكـأنـها قـوالـب جـاهـزة لا تقـبـل الانـطـبـاق عليه. وليس معنـى ذلك أنـه مـا مـن صـلـة تربـط بين النـموذجيـن، الـتـقـليدي والحـديث، في الاجتـمـاع السياسي المعاصر، بـل إن اجـتـماعهـمـا في المجـال السـياسـي الواحـد وارد؛ وهـو مـا يفـرض، بالـتـبعـة، إلـمـامـا بالمعـرفـة الخاصـة بـكـل منـهـمـا مـن أجـل فـهـم تـركيـبـتـه.
نافذة:
لـعـل ابـن خـلدون وحـده أفـلت من شـراك ذلك الامـتـنـاع وظفر بـقـدر ملـحـوظ مـن التـحـرر مـن قيـود أي مـرجـعية فـكـريـة سابـقة لـه ومـن الوعـي بحـدودهـا المعـرفـيـة