عندما ألقت فرنسا القنابل على فاس واعدمت المحتجين
فاس بعيون كولونيل أراق دماء ابنائها
جُمعت القوات الفرنسية، ومعها تشكيلة من «الگوم» المغاربة، في بوزنيقة والرباط، ثم توجهوا في مسيرة إلى فاس بالضبط يوم 11 ماي 1911، وعبروا وادي سبو، وكان هذا يعني أنهم صاروا في نفوذ قبيلة الشراردة.
لكن ما وقع أن بعض القبائل اختارت ألا تقاتل الجيش الفرنسي المطعم بـ«الگوم» المغاربة، وفضلت الانتظار إلى أن وصلت القوات الفرنسية إلى مشارف مدينة فاس، بعد مسير عشرة أيام.
وحسب الأرشيف الفرنسي دائما، فإن أول اشتباك مع القبائل المغربية بعد الوصول إلى مشارف فاس، كان مع قبيلة بني مطير، في الخامس من يونيو، حيث قام رجالها بمهاجمة الجيش الفرنسي الذي بنى مخيما مؤقتا على مشارف فاس لفرض السيطرة على المدينة، وسرعان ما انضم مقاتلو قرية «أگوراي» إلى بني مطير، بالإضافة إلى قوات أخرى من منطقة الحاجب، لكي يشنوا هجوما على المخيمات الفرنسية.
كانت هذه بداية الحرب.
يونس جنوحي:
قبيلة بني مطير التي وصف الكولونيل «شابيل» رجالها بالمتوحشين
اسمه الكامل، الكولونيل «سانت شابيل»، وقد كتب مذكرات أطلق عليها «La conquête du Maroc». توظيفه لمصطلح «الغزو» حمل رسالة واضحة، خصوصا عند الاطلاع على الأحداث التي عرفتها البلاد ووثق لها هذا الكولونيل. إذ إن الأمر كان يتعلق فعلا بغزو كبير، استعملت فيه فرنسا كل الوسائل.
في هذه المذكرات، غطى الكولونيل أحداث ما وقع في المغرب ما بين ماي 1911 ومارس 1913، من منظور فرنسي بطبيعة الحال.
وما أكثر ما جرى في تلك الفترة من أحداث دامية تسبب فيها الجيش الفرنسي عند تنفيذ مخطط إخضاع المدن الكبرى للمغرب عسكريا، والسيطرة على الطرق الرئيسية وأهم منافذ البلاد.
عندما وصلت وحدات الجيش الفرنسي في بداية شهر ماي 1911 إلى ميناء الدار البيضاء، الذي كان وقتها يسيطر عليه الفرنسيون ويشرفون على إنجازه قبل حتى أن تُوقع معاهدة الحماية في مارس 1912، اختيرت مساحة واسعة على مشارف الدار البيضاء لكي تستقبل القوات الفرنسية.
سرى الخبر في المغرب، لكن لم يكن متوقعا أن تتجه هذه القوات الفرنسية إلى فاس ومكناس.
الكولونيل «شابيل» كان يعمل تحت إمرة الجنرال الفرنسي «كورو» الذي قاد الهجوم على فاس، بينما كان جنرال آخر اسمه «موانيي» يقود عملية إخضاع مكناس.
الجنرال «كورو» هندس وصول القوات الفرنسية لتطويق فاس، لكنه لم يتوقع أن يلقى مقاومة شرسة من القبائل المحيطة بالمدينة. إذ فوجئ الجيش الفرنسي بوصول فروع من قبيلة بني مطير، من نواحي منطقة الحاجب والقرى الواقعة بين فاس ومكناس، وخاضوا معارك دامية ضد الجيش الفرنسي، إلى درجة أن حسابات الجنرال أربكت واضطر إلى تقسيم قواته والانسحاب تدريجيا إلى أسوار مكناس لكي يشكل بها درعا عاليا للاحتماء من هجمات القبائل، والاستعداد لشن هجوم مضاد على فاس.
وهنا برز دور الجنرال «موانيي» الذي حاصر مكناس، وفاوض أعيان المدينة في يونيو 1911، لكي يعلنوا استسلامهم للقوات الفرنسية، دون أن تُسجل خسائر كبيرة في صفوف سكان المدينة.
وإذا كان الأمر في مكناس قد انتهى بإعلان سيطرة فرنسا على المدينة يوم 11 يونيو، بقيام الجنرال موانيي بجولة داخل أزقتها قبل أن يغادرها في اتجاه فاس التي كانت تشهد حالة غليان، فإن قبيلة بني مطير كانت تترصد قوات الجيش الفرنسي وتشن هجومات متتالية على وحدات الجيش التي كانت متبقية لحصار فاس.
إلى درجة أن هذا الكولونيل الفرنسي – شابيل- كتب في مذكراته أن مقاتلي قبيلة بني مطير من أشرس الرجال الذين رآهم في حياته، ووصفهم في بعض تقاريره العسكرية التي بنى عليها مذكراته لاحقا بالمتوحشين، بحكم أنه اختبر قدرتهم على القتال واستعدادهم للموت، مقابل إلحاق الأذى بأفراد المعسكر الفرنسي.
كان الأمر أكبر من انتقام قبلي قاده رجال بني مطير ضد فيالق «الگوم» المغاربة الذين قاتلوا لصالح فرنسا، بل كان الأمر تنفيذا للخطابات الحماسية التي تلاها علماء القرويين على السكان، وحثوهم على مواجهة الجيش الفرنسي.
هذه التعبئة النفسية، لعبت دورا كبيرا في صمود مقاتلي «بني مطير» أمام فرنسا، خصوصا وأنهم ألحقوا أضرارا كبيرة بالجيش الفرنسي، وهو ما جعل الجنرال «كورو» يرسل إلى باريس لطلب الدعم والمؤازرة. وهو ما جعل أعيان فاس يختارون فتح باب الحوار- سيما وأن ضحايا سقطوا في المدينة، بسبب المواجهات- لجعل الأمر ينتهي سياسيا.
لكن هذا لم يكن يعني أن فاس تقبلت وجود الجيش الفرنسي، بل كان أعيان المدينة يراهنون على انسحاب الجيش الفرنسي من فاس وعودته إلى الدار البيضاء. إذ إن المكانة الروحية لفاس، بسبب وجود جامع القرويين بها، جعلت تصور خضوعها للجيش الفرنسي أمرا محرجا.
وهذه النقطة بالذات كانت محركا لمقاتلي «بني مطير»، الذين قاتلوا فرنسا ببنادق تقليدية جدا، حيث استعملوا البارود في مواجهة رصاص فرنسا وقنابلها.
عندما قُصفت أضرحة فاس وحوصرت في عز صيف يونيو
بحسب شهادة الكولونيل «شابيل»، فإن سكان فاس كانوا يعلمون بخبر مجيء الجيش الفرنسي للسيطرة على المدينة، وهكذا فكر المحليون في تطويق المدينة لحمايتها من الجيش الفرنسي. لكن «شابيل» في مذكراته يؤكد أن الحشود التي كانت متجمهرة حول فاس، تفرقت بسرعة بمجرد أن لمحت الصفوف الطويلة لوحدات الجيش الفرنسي تقترب من المدينة.
وهكذا لم تسجل أي خسائر في الأرواح عند اليوم الأول لوصول الجيش الفرنسي إلى مشارف فاس، لكن قبيلة بني مطير كان لها رأي آخر، وهبت لإنقاذ فاس من المخطط الفرنسي، وخاضت حربا ضروسا ضد وحدات الجيش الفرنسي المعززة بفيالق من الگوم المغاربة.
هذا الأمر جعل علماء القرويين يدخلون في سجال كبير عن حكم قتل المغاربة الموالين للجيش الفرنسي.
قبيلة بني مطير هاجمت الجيش الفرنسي في مرحلتين، الأولى في الخامس من يونيو بعد أيام قلائل على وصول وحداته إلى فاس، وألحقت به خسائر مهمة. والمرة الثانية كانت يوم الثامن من يونيو سنة 1911، في وادي ويسلان، وقد تحدث الجنرال كورو في مذكراته عن الهزيمة التي تجرعها على يد قبيلة بني مطير. وحكى أيضا الكولونيل «شابيل» عن الجرحى الفرنسيين الذين سقطوا في وادي ويسلان.
لكن الرواية الفرنسية، رغم المسحة البطولية التي اكتسبها مقاتلو قبيلة بني مطير، تؤكد أن فرنسا كانت تمسك بزمام الأمور. والدليل أن وحدات الجيش الفرنسي بقيت متمسكة بضرورة احتلال فاس، واستغرق منها الأمر عاما كاملا لتنفيذ المخطط كاملا وإخضاع المدينة عسكريا، رغم كل المقاومة الشرسة التي واجهتها فرنسا في البداية.
في هذا الملف سوف نتطرق إلى جوانب أخرى، بغض النظر عما أورده الكولونيل «شابيل» أو الجنرال «كورو». إذ إن الأحداث التي عرفتها فاس، جعلت المغرب يدخل في مرحلة تفاوض سياسي مبكر، رغم أن البلاد وقتها لم تكن تتوفر على أحزاب سياسية ولا تمثيليات وزارية لمفاوضة فرنسا.
لكن الأعيان المغاربة النافذين، استعملوا علاقاتهم للتفاوض حتى يتم حل الأزمة سياسيا وليس عسكريا، مخافة أن تتكرر مأساة الدار البيضاء سنة 1907. المثير أيضا أن أعيان فاس الذين كان منتظرا منهم أن يدافعوا عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية، اختفوا ومنهم من رحل إلى طنجة الدولية، خصوصا وأن أغلبهم كانوا «محميين» يحملون جوازات سفر أجنبية.
عندما رمت فرنسا القنابل على فاس وأعدمت المحتجين
رغم أن المحتجين ضد فرنسا في فاس كان بينهم أطفال نزلوا إلى الأزقة للتظاهر ضد فرنسا، إلا أن الجيش الفرنسي لم يتردد في إلقاء القنابل ومحاصرة المدينة وتطويقها، ومنع الدخول إليها أو مغادرتها، واستمرت وحداته في شن هجومات لإخضاع المدينة عسكريا وإيقاع الهجومات التي شنتها القبائل المجاورة لفاس، لطرد فرنسا من المنطقة.
لفهم سياق هذه الأحداث الدامية التي عرفتها فاس في ماي ويونيو 1911، خصوصا وأن الأمر تكرر سنة واحدة فقط بعد ذلك، وتكررت معه التفاصيل والأحداث نفسها، نورد هنا توثيقا مهما للباحث في تاريخ مدينة فاس، ذ. عبد العزيز بن عبد الله، والذي سبق أن أعد دراسة وضع فيها أحداث فاس الدامية في سياق تطورات الأحداث التي عرفها المغرب عموما ما بين سنتي 1911 إلى 1914. وشملت الدراسة أيضا توثيقا لأهم الأحداث التي عرفها المغرب، وصولا إلى منتصف خمسينيات القرن الماضي.
يقول: «وأسفرت الدسائس الموصولة المنسقة بين بعض دول أوروبا عن تشديد الضغط على المغرب، بواسطة القروض الإجبارية، وحركات التهدئة المتعللة بحماية الرعايا الغربيين والتخوم الشرقية، عن فرض الحماية على السلطان مولاي عبد الحفيظ، الذي كانت انتفاضته في الجنوب تهدف إلى صون السيادة بجيوش استنفرت من الصحراء وأقصى الجنوب وتجمعت حشودها في الساقية الحمراء، بزعامة الشيخ ماء العينين وولده (الهيبة) وانضمام المجاهدين من الأطلس والسهول. وما كاد نبأ توقيع المعاهدة بفاس يطرق الأسماع، حتى انتفض السكان والقبائل المجاورة وطوقت المدينة وامتلأت الأسوار بآلاف المجاهدين، بزعامة الحجام. وثار الجيش السلطاني على ضباطه الفرنسيين، وكانت ملحمة دامية قتل فيها عدد من الفرنسيين، وشارك في الحملة الجماعية ضد الوجود الفرنسي العلماء والتجار والنساء والأطفال، فألقت فرنسا القنابل على جانب من المدينة وأعدمت عشرات السكان. وتجمعت السلطات في يد شخصية عسكرية هي الجنرال ليوطي، الذي ورد على فاس يوم 28 ماي في خضم من الاضطرابات الشعبية، ما لبثت أن شملت المغرب عن بكرة أبيه، فثار بنو مطير وكروان وزعير وتادلة، وزحف (الهيبة) على مراكش، ونقل السلطان بمد تنازله عن العرش إلى فرنسا، فبويع آخوه مولاي يوسف من الغد، وسيّر ليوطي خمسة آلاف جندي لصد (الهيبة) وجيشه الزاحف نحو الشاوية، وحصل منذ 1914 من فرنسا على قرض بلغ مائتي مليون فرنك، لتصفية الماضي وشراء بعض الضمائر وتركيز القواد الإقطاعيين في الجنوب، وفي طليعتهم (التهامي الكلاوي)، ومحاولة قمع شعاب الأطلس الكبير في حركة عسكرية من مراكش إلى الصويرة ودمنات بمعونة جهاز إقطاعي عملت فرنسا على مساندة تعسفاته، وواصل الجنرالان مانجان وكورو حركة الإبادة في الشمال والشرق».
شهادة ملحق عسكري تباهى بأحداث فاس
«هذا النشاط الذي كنا نقوم به كان مثيرا حقا، ذكرني بما وقع سنة 1911، وكنت وقتها في بداية سفري الأول إلى المغرب. وكانت وقتها أعمدة التلغراف الأولى من نوعها قد بدأت تُزرع في الأفق، عند الخروج من منطقة النفوذ الإسباني. كان هناك فراغ قاتل وانعدام للحياة».
الكلام هنا للملحق العسكري «غوستاف بابين»، الذي شارك في احتلال فرنسا لمنطقة الأطلس أواخر سنة 1922، بمساعدة بعض القبائل ضد قبائل أخرى. وهنا، في هذه الشهادة القصيرة أعلاه، يعترف بأنه شارك أيضا في عمليات 1911 في المنطقة الوسطى بين فاس والريف، حيث كان الصراع بين فرنسا وإسبانيا على وضع معالم حدود نفوذ قواتهما العسكرية.
هذا العسكري الذي شارك في مرحلة احتلال فرنسا لوسط المغرب قبل معاهدة الحماية بسنة واحدة، شهد أحداث يونيو الأليمة.
ولأنه كان في السابق صحافيا قبل أن يعين ملحقا عسكريا لدى الجنرال «داماد»، فقد شارك في نشر مقالات عما كان يقع في نواحي فاس ومكناس في ذلك الوقت.
لكنه لم ينقل حقيقة ما كان يقع في الميدان، بل كان أحد أوائل الذين روجوا للآلة الإعلامية العسكرية الفرنسية، على أساس أنها تحصد الانتصارات تلو الأخرى في المغرب، وأنها كانت في مهمة سامية لإعلاء العلم الفرنسي في وسط المغرب، وفرض حدود على التوسع الإسباني في منطقة الريف.
تقزيم دور إسبانيا في حرب الريف، كان أحد الأدوار التي قام بها هذا الملحق العسكري، رفقة صحافيين وملحقين آخرين بطبيعة الحال. إذ إن الرأي العام في فرنسا لم يكن راضيا عن منافسة إسبانيا لفرنسا على المغرب، لذلك اضطلع هؤلاء الملحقون بمهمة تذكير الرأي العام الفرنسي بما وقع في فاس ومكناس سنة 1911، لتقديم فرنسا على أنها دولة حامية بذلت مجهودات عسكرية جبارة لوضع نفوذها في المغرب قبل الإسبان بسنوات.
ولهذا الغرض، لم يجد هؤلاء الملحقون أي حرج في التباهي بما قامت به القوات الفرنسية في نواحي فاس ومكناس، وهو ما تسبب في الأخير بزوال سلطة السلطان المولى عبد الحفيظ، مباشرة بعد توقيعه معاهدة الحماية التي لم تكن إلا نتيجة لما خططت له فرنسا عن طريق الضغط على المغاربة بأحداث فاس.
منذ 1907، والمغرب يعيش على إيقاع مواجهات بين الجيش الفرنسي وقبائل الشاوية، وقبائل الشراردة وزمور، وغيرها من القبائل التي كانت مفتاح وسط المغرب.
وبدون احتلالها لم يكن الوصول إلى الأطلس ممكنا. ولهذا السبب بالذات، ركزت فرنسا على منطقة فاس لكي تكون مسرحا لعملياتها العسكرية الأولى، وزرعت خطوط الهاتف وأقامت وحدات من الجيش الفرنسي لحراستها.
أنزلت مئات الوحدات العسكرية الفرنسية في نواحي فاس، حتى أن العبور بين القبائل المجاورة للمدينة العلمية لم يكن ممكنا بدون تصريح خاص تمنحه وحدات الجيش، لضبط تحركات القبائل في المنطقة.
هذه القبائل التي واجهت فرنسا استهدفت خطوط الهاتف، رغم أن السكان المحليين وقتها لم يكونوا يعرفون أي تفاصيل عن دور تلك الأعمدة الخشبية التي وضعها الفرنسيون على طول كيلومترات متواصلة، لكنهم عمدوا إلى تخريبها، وهو ما جعل قوات الجيش الفرنسي ترد بعنف.
«الگوم».. قصة فيالق حارب بها الجنرال موانيي المغاربة
عندما يتعلق الأمر بأحداث ماي ويونيو في فاس ومكناس سنة 1911، فإن ملفا منسيا لم يسلط عليه الضوء يفرض نفسه بقوة، سيما وأن الفرنسيين أشاروا إليه بوضوح في وثائق الأرشيف.
ويتعلق الأمر بمشاركة مقاتلين مغاربة في صفوف الجيش الفرنسي في المواجهات مع قبائل منطقة فاس وصولا إلى الرباط.
العسكري الذي هندس لهذا الموضوع، هو الجنرال موانيي، الذي سبق له أن قاد حربا ضد قبائل زعير.
أطلق لقب «الگوم» لأول مرة على هؤلاء المغاربة الذين قسموا إلى ستة فيالق، بحسب ما أورده الباحث الفرنسي « جون سولاي»، والذي اطلع على أرشيف واسع من المراسلات العسكرية الفرنسية التي تعود إلى فترة ماي 1911.
هؤلاء الگوم الذين وُصفوا بالقساة عديمي الرحمة، انخرطوا في صفوف الجيش الفرنسي بدون أي تدريب ميداني عصري، بل تمت الاستعانة بهم نظرا إلى قوتهم البدنية ومعرفتهم بتضاريس الطريق من الرباط إلى فاس.
إذ إن هذه القوات جُمعت في بوزنيقة والرباط، ثم توجهت في مسيرة إلى فاس بالضبط يوم 11 ماي، وعبرت وادي سبو. وكان هذا يعني أنها صارت في نفوذ قبيلة الشراردة.
لكن ما وقع أن بعض القبائل اختارت ألا تقاتل الجيش الفرنسي المطعم بـ«الگوم» المغاربة وفضلت الانتظار إلى أن وصلت القوات الفرنسية إلى مشارف مدينة فاس، بعد مسير عشرة أيام.
وحسب الأرشيف الفرنسي دائما، فإن أول اشتباك مع القبائل المغربية بعد الوصول إلى مشارف فاس كان مع قبيلة بني مطير، في الخامس من يونيو، حيث قام رجالها بمهاجمة الجيش الفرنسي الذي بنى مخيما مؤقتا على مشارف فاس لفرض السيطرة على المدينة، وسرعان ما انضم مقاتلو قرية «أگوراي» إلى بني مطير، بالإضافة إلى قوات أخرى من منطقة الحاجب، لكي يشنوا هجوما على المخيمات الفرنسية. وحسب التقارير الفرنسية، فإن خسائر فرنسا كانت فادحة.
سرى الحماس بين القبائل المجاورة لفاس، إلى درجة أن بعض الأهالي هاجموا القوات الفرنسية التي سحبت بعض وحداتها إلى نواحي مكناس.
هذه الهجومات جعلت فرنسا تتراجع لكي تعيد تشكيل صفوفها في مكناس، حيث كانت أسوار المدينة درعا احتمت به قوات الجنرال لأيام، لإعادة تشكيل القوات وتنظيمها.
إذ كان ملاحظا أن الگوم كانوا يقاتلون عشوائيا رغم معرفتهم بالمنطقة، في حين أن قوات الجيش الفرنسي كانت تتراجع تاركة مساحة لفيالق الگوم، حتى لا تسجل خسائر فادحة في صفوف الجنود الفرنسيين.
وقد حكى المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان عن وصول الجيش الفرنسي إلى أسوار مكناس في يونيو 1911، وقال في مذكراته إن وصول فرنسا إلى المدينة كان حدثا قامت له مكناس، حيث احتمى أعيان المدينة وكبارها بالضريح الإسماعيلي، وتلوا الأدعية وتشاوروا في ما يجب فعله، خصوصا وأن مكناس وقتها كانت تحت سلطة قبيلة بني مطير التي دخلت حربا ضروسا ضد فرنسا.
كان هناك تخوف في أوساط الأعيان المغاربة من أن يتسبب مقاتلو بني مطير في إحراق مكناس على يد القوات الفرنسية، سيما وأن الجيش الفرنسي وقتها لم يكن قد استعمل المعدات الثقيلة بعد.
وكان حكماء مكناس يُذكرون الناس بما وقع في الدار البيضاء سنة 1907، عندما اعتقدت قبائل الشاوية أن رجالها هزموا جيش فرنسا، ليتراجع الجيش الفرنسي وتشرع فرنسا في دك الدار البيضاء بمدافع البواخر العسكرية.
تكرار سيناريو الدار البيضاء في فاس ومكناس كان واردا بقوة، لكن فرنسا هذه المرة استعملت حيلا أخرى، أقل تكلفة لإخضاع كل من فاس ومكناس.
الحاج محمد مكوار.. ثري مغربي حاول «التفاوض» لإنهاء حصار فاس
هذا الثري المغربي كان سنة 1911، يراكم ثروة كبيرة مصدرها العلاقات الاقتصادية التي ربطها شخصيا مع شركات بريطانية كانت تنشط بالمغرب.
وهو وريث أسرة فاسية عريقة استثمرت في الاتفاقيات التي جمعت المغرب ببريطانيا لعقود طويلة، واستطاع أن يقنع رجال أعمال بريطانيين بالتعامل معه عن طريق فروع شركاتهم التي كانت توجد في موانئ المغرب.
هذا الثري الفاسي كان من كبار المتضررين من حصار مدينة فاس، التي وصلت إليها القوات الفرنسية في منتصف ماي 1911.
إذ رغم المقاومة الشرسة التي واجهت بها القبائل وحدات الجيش الفرنسي، إلا أن وصول التعزيزات وانتشار الجيش الفرنسي قرب أسوار مكناس كانا في صالح فرنسا التي استمرت في محاصرة فاس، رغم حيل القبائل لفك العزلة عن داخل مدينة فاس.
الحاج محمد مكوار، الذي كان صديقا للبريطانيين، حاول استثمار علاقاته بموظفي المفوضية البريطانية في مدينة طنجة، وأرسل إليهم يعرض تطورات الأحداث في فاس ونواحيها، ولم يخف أن مصالحه التجارية باتت مهددة، وبالتالي فإن مصالح رجال الأعمال البريطانيين الذين يتعاملون معه باتت مهددة أيضا.
لكن المثير أن الحاج مكوار كان يحظى بشعبية كبيرة بفاس، وقد تجمع الفاسيون حول بيته لحثه على تمثيل سكان المدينة في المطالبة وقتها بتنحية السلطان مولاي عبد الحفيظ.
إذ إن الغضب الشعبي في فاس بسبب تطويق الجيش الفرنسي للمدينة كان على أشده، ولعب علماء القرويين دورا كبيرا في تجييش الأهالي، واستجابت لهم القبائل المحيطة بفاس، لكي يشنوا هجومات على وحدات الجيش الفرنسي التي كانت تطوق المدينة.
واللجوء إلى الحاج مكوار كان يعني ضمان المؤونة في فاس، حتى لا يموت الأهالي المحاصرون جوعا، وهو ما جعل مكوار يصبح على رأس الأعيان الذين رغب الفرنسيون في الجلوس معهم للتفاوض.
لكن لا توجد أي إشارات في الأرشيف لقيام الحاج محمد مكوار بهذا الدور، باستثناء مراسلاته مع البريطانيين الذين كانوا يتابعون ما كان يقع في فاس بقلق.
انضم إلى محمد مكوار أحد أقوى الأعيان وأكثرهم تأثيرا وهو زعيم قبائل نواحي فاس، واسمه «عقا بومدياني»، وشكلا معا قوة سياسية ممانعة، وطالبا علانية بفك الحصار عن فاس وإعادة تنصيب سلطان جديد للمغرب.
محمد مكوار كان صاحب نظرية التحذير مما وقع في الدار البيضاء سنة 1907، وكان يخطب في الفاسيين من أعيان المدينة ويطلب منهم دعم مقترح تنصيب سلطان جديد للمغرب، قبل أن تُقصف فاس مثل الدار البيضاء، وتدمر تماما.
حضور مكوار في المشهد السياسي المغربي جعل بعض الأسماء المخزنية تتوارى إلى الخلف، خصوصا وزراء المولى عبد الحفيظ الذين فضل أغلبهم متابعة ما يقع من بعيد، ومنهم من غادر فاس فور وصول أخبار مسيرة الجيش الفرنسي من الرباط لحصار المدينة. وهؤلاء الوزراء غادروا إلى طنجة الدولية لحماية مصالحهم.
بعض الأعيان الفاسيين، خصوصا التجار الأثرياء لم يغادروا فاس وبقوا مرابطين في المدينة، رغم أن تجارتهم كانت مهددة، وهو الموقف الذي جعل شعبيتهم وسط الأهالي تزداد، رغم أن أغلبهم لم يلعبوا أي دور في المفاوضات الداخلية التي كان يقودها الحاج محمد مكوار، الذي لم يكن يتورع عن إعلان صداقته مع الإنجليز.
وما كان غير مفهوم، أن حصار فاس تسبب في حقد كبير على فرنسا، بين الأهالي، وكان كُره «النصارى» فتيلا أشعل الأحداث، لكن المحميين المغاربة، وكان بعضهم يعيشون في فاس منذ 1907، لم يمسهم أي سوء.