مغاربة فُقدوا في الحج وآخرون سجلوا رحلات تاريخية
قصص تعود لأربعة قرون وأخرى سجلت مشاهدات نادرة
يونس جنوحي:
عندما أمر الملك الراحل الحسن الثاني في منتصف ستينيات القرن الماضي أن يتم توزيع مساعدات مالية على بعض الحجاج المغاربة الذين استقروا في الحج، فقد كان يدرك جيدا أن هناك مغاربة غير الحج حياتهم، وأن رحلتهم لم تكن مجرد ذهاب وإياب من الأراضي المقدسة.
ففي عهد والده الملك الراحل محمد الخامس، فُقد أحد الحجاج الذي كان صديقا للعلامة عبد الحي الكتاني، وبالضبط سنة 1947. إذ تطورت إمكانيات الحج وقتها وصار السفر عبر البواخر الأجنبية أمرا ممكنا للحجاج المغاربة.
لكن قبل هذا التاريخ بقرون، كانت رحلة الحج تعني إمكانية عدم العودة نهائيا، لتُطرح تساؤلات كثيرة عن مصير رحلات حج كثيرة.
أما الرحلات التي تم التوثيق لها، فقد كشفت عن «نبوغ» مغربي كبير، سبق عصره بكثير، إذ كان المغاربة من أوائل من وثقوا لرحلات الحج، وما زالت مخطوطات كثيرة شاهدة على هذه «المغامرات».
عندما طلب الكتاني من محمد الخامس البحث عن حاج مفقود
في سنة 1947، طلب العلامة المغربي عبد الحي الكتاني من الملك الراحل محمد الخامس أن يتدخل لكي يراسل السلطات السعودية، ويبحث عن مغاربة فقدوا أثناء موسم الحج، ولم يعودوا في الباخرة التي أقلتهم من ميناء الدار البيضاء. وكان من بين هؤلاء الحجاج أصدقاء للعلامة عبد الحي الكتاني.
أحد هؤلاء الحجاج هو العالم المغربي محمد بن أحمد الدرقاوي، والذي كان يشتغل في العدلية، وكان صديقا مقربا لعبد الحي الكتاني. ورغم أن بعض الحجاج الذين عادوا شاهدوه وهو يغادر معهم صوب الباخرة، إلا أنهم لم يروه على متنها.
وحسب المعلومات المتوفرة، فإن الحجاج حاولوا تنبيه طاقم الباخرة، إلا أن الربان الفرنسي الجنسية ومساعديه، رفضوا الانتظار والبحث عن الدرقاوي المفقود، وغادرت الباخرة بدونه.
لكن مفاجأة الحجاج كانت عظيمة عندما وصلوا إلى ميناء الدار البيضاء، ومضت أيام من الانتظار تحولت إلى أسابيع دون أن يظهر أي أثر للدرقاوي.
كان الحجاج في البداية يعتقدون أنه تخلف فقط عن الباخرة، وأنه سوف يركب غيرها، لكن غيابه بتلك الطريقة طرح الكثير من التساؤلات، وجعل عبد الحي الكتاني يخبر الملك الراحل محمد الخامس بما وقع، ويطلب منه أن يتدخل لدى أصدقائه في المملكة العربية السعودية.
لكن رغم تدخل الملك الراحل محمد الخامس، إلا أن مصير الدرقاوي صديق عبد الحي الكتاني لم يُعرف أبدا، خصوصا وأن ظروف الحج في ذلك الوقت لم تكن متطورة، وكان أغلب الحجاج لا يزالون يحجون بالطريقة التقليدية على الخيول والإبل ولم يكونوا جميعا يملكون جوازات سفر. حتى أن السلطات السعودية وقتها لم تكن تملك أي سجلات بأسماء كل الحجاج الوافدين إليها، وكان ممكنا في ذلك الوقت أن يُفقد أي حاج دون أن تتوفر معلومات عن آخر مكان ظهر فيه، وما إن كان قد غادر المملكة العربية السعودية، أم أنه لا يزال فيها.
جرت العادة أن تتكرر بين الفينة والأخرى حوادث يُفقد فيها الحجاج، مثل ما وقع أيام المولى إسماعيل بعد سنة 1672. إذ إن باخرة مغربية كانت في طريقها إلى الحج، لكن التيار جرفها بعيدا عن مسارها، وكان ربانها أجنبيا، فامتثل لأوامر بحارة فرنسيين قاموا باحتجاز السفينة، واستولوا عليها وسجنوا كل ركابها الذين كانوا في طريقهم إلى الحج.
واستمرت معاناة هؤلاء الحجاج المغاربة لسنوات إلى أن أصبح أحد أعيان مدينة سلا مسؤولا لدى المولى إسماعيل، فطلب منه أن يراسل ملك فرنسا في شأن هؤلاء الحجاج المحتجزين، بعد أن نجح أحدهم في إرسال رسالة إلى سلا لإخبار عائلته بما وقع.
وهكذا تدخل المولى إسماعيل وأقام صفقة تبادل أسرى، عاد على إثرها هؤلاء الحجاج.
لكن مصير حُجاج آخرين لم يكن دائما بهذه الطريقة. إذ إن بعض الحجاج فقدوا ولم يظهر لهم أي أثر، واستمر لغز اختفائهم لسنوات طويلة، قبل أن يقتنع من كانوا يبحثون عنهم، أنهم ماتوا أثناء الرحلة أو في طريق العودة.
حُجاج مغاربة تحولت رحلاتهم إلى مغامرات
عندما تطالعون رفوف المكتبة الوطنية في الرباط، أو الخزانة الملكية، لا بد أن أعداد مخطوطات رحلات الحج سوف تثير انتباهكم إلى حقيقة مفادها أن أجدادنا حققوا سبقا كبيرا في التوثيق لرحلات حجهم منذ مئات السنين.
لكن المثير أن بعض الرحلات المسجلة لم تكن عادية، بل دون أصحابها مشاهدات، كشفت عن فضول كبير كان يتملكهم أثناء الرحلة، ووثقوا لتفاصيل قد تغيب اليوم عن بعض الحجاج، رغم تقدم وسائل النقل والرفاهية في الخدمات.
من بين الرحلات المثيرة فعلا، والتي تم التوثيق لها، ما ذكره الباحث المغربي عبد العزيز بن عبد الله، في بحث له بعنوان: «الرحلات الحجازية المغربية كشفٌ لأمجاد الجزيرة العربية»، وهو البحث الذي نُشر سنة 1986، حيث جاء فيه: «ويبذل الآن معهد المخطوطات التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم قصارى الجهد لتصوير التراث وجعله في متناول الدارسين والباحثين من أجل تحقيقه وطبعه، ولنضرب أمثلة بمدى تنوع مجالات ومجالي جوانب من تراثنا لم نتمكن بعد من تقييمها، وبعضها منتشر في مخطوطات التراث، فإذا اقتصرنا على من رحل من المغاربة إلى الشرق للحج دون تصنيف رحلات خاصة عن أسفارهم، وجدنا كثيرا من هؤلاء قاموا بدور طلائعي في بلورة التبادل بين أجزاء العالم الإسلامي، وقد كتبت بحثا بعنوان «رسل الفكر بين المشرق والمغرب» لمحت فيه إلى أهمية هذه الجوانب.
ومن هؤلاء: أحمد بن عبد الله الغربي الرباطي الدكالي (1178هـ/1764م) رحل إلى المشرق عام 1140هـ/1727م، وأخذ عن شيوخ مصر والحرمين وطار صيته في الحجاز، فأصبح أحد سفراء الشرق لا في المغرب الأقصى وحده، بل من فاس إلى (داكار) نظرا إلى الدور الذي كانت تقوم به جامعة القرويين وعلماؤها بين الشناقطة وأهل السينغال، من خلال مذهب واحد تغلغلت جذوره في قلب الحواضر والصحاري، وهو مذهب إمام المدينة مالك بن أنس، ويكفي أن نلاحظ أن المسمى علي بن عبد القادر الشرقي، باشا السودان، (أي السودان الغربي أو السينغال الحالية)، هو الذي ترأس ركب حجيج السودان عام 1040هـ/1630م، صحبة الرحالة المغربي ابن المليح الذي أشرنا آنفا إلى رحلته، حيث كانت مواكب الحجيج من (داكار) إلى فاس تتجمع تأليف قوافل ما يمكن أن نسميه اليوم بإفريقيا الشمالية الغربية.. وهناك مثلا رحلات سوسية كثيرة، منها في خصوص القرن الثاني عشر فقط علاوة على ما ذكرنا رحلة أبي مدين، ورحلة اليبوركي، ورحلتا أحمد أحوزي الكبرى والصغرى، ورحلة عبد الواحد بن الحسن الصنهاجي وغيرهم.
ولا توجد في جغرافية «المسالك والممالك» قطعة من الأرض حظيت بعناية الرحالين والمؤرخين، مثل الطرق الكبرى المؤدية إلى الحجاز التي صنفت فيها مئات الكتب المختلفة المنازع والأساليب ومئات القصائد الحافلة بوصف المنازل والمراحل، علاوة على ما تطفح به من مشاعر الحنين التي جعلت من هذه الطرق لا متعبدات فقط، بل مجمعات استوثقت عبرها الصلات بين الشعوب الإسلامية ومبادلة الإجازات بين العلماء وتلاقح معطيات الفكر العربي والإسلامي، مما لم يعرف له نظير حتى بعد عصر النهضة وما طرأ من سهولة وسرعة على المواصلات.
بل إن طرقا صوفية سنية كطريق أبي محمد صالح، دفين آسفي، (وهو من رجالات القرن الثامن امتدحه شعراء الشرق مثل البوصيري)، اقتصر شعارها الصوفي على ترحيل الحجيج من المغرب إلى الحجاز وتوفير النزلات ومتطلبات السفر على طول المراحل، وخاصة في الصحراء، وكان هؤلاء الحجيج الذين لم تكن تخلو منهم الجادات والسبل الكبرى طوال السنة يتواكبون في ركب موصول يسمى «الركب الصالحي»، يستهدف بالإضافة إلى أداء فريضة الحج، توثيق الرباط بين الشعوب الإسلامية، وكانت لأفواج الحجيج قوافل تنحدر من شنقيط وكبريات عواصم المغرب لتتجمع بسجلماسة أو مراكش أو فاس، ومنها تتخذ طريقها متكاثفة عبر ما سماه الرحالة ابن المليح بطريق الفقهاء، أي فقهاء المذهب المالكي الذين كانوا ينحازون عن متجمعات الخوارج في بعض مناطق المغربين الأوسط والأدنى للانسلال من بلاد (فزان) إلى أرض الكنانة».
القصة المنسية لرحلة حج تعود لسنة 1715 وسجلت في مخطوط
من بين أهم من وثقوا لأرشيف الرحلات المغربية إلى الحج، نجد الكاتب والباحث المغربي، محمد بن عبد العزيز الدباغ، وهو أحد المؤرخين المغاربة الأوائل الذين حققوا وثائق تعود إلى عهد الدولة المرينية.
وإلى جانب أنه فقيه عاصر كبار علماء الحركة الوطنية، بحكم أنه وُلد سنة 1928، فقد أثر ذلك كثيرا على وعيه الوطني، وكان أحد الكتاب المغاربة الذين ساهموا في ترتيب المكتبة الوطنية بعد الاستقلال. وبقيت مكتبته القيمة رهن إشارة الباحثين، خصوصا في تخصص التاريخ، إلى أن توفي سنة 2008.
وهنا نورد مقتطفا من مقالة له، تناول فيها مخطوطا لرحلة حج مغربية تعود إلى سنة 1715 ميلادية، وهي فترة كانت الكتابات فيها من هذا النوع، نادرة جدا.
المقالة تسجيل لمحاضرة ألقاها د. الدباغ ألقاها سنة 1998، جاء فيها:
«جرت عادة بعض الذين يدونون رحلاتهم أنهم يولون عنايتهم لوصف الأماكن التي يمرون عليها، ولوصف بعض المشاهد والمعاهد، ولذكر أحوال بعض العلماء والصلحاء، ولتسجيل بعض الأحداث السياسية والظواهر الاجتماعية.
كان هذا النظام معهودا لدى المغاربة قبل زمن هذه الرحلة، فقد اشتهرت بعض الفرق الصوفية بتعهده كما هو الحال بالنسبة إلى أبناء أبي محمد صالح الماجري الآسفي، الذين كانوا يتولون رعاية الحجاج ويتعهدونهم طوال الطريق، وذلك بإقامة مراحل رسمية يتكلفون برعايتها وحراستها، وضمان الأمن للسائرين بها، تيسيرا لاستمرار إقامة هذا الركن الذي هو فرض على من استطاع إليه سبيلا، فهم كانوا يرون أن تيسير الأمن للحجاج طوال الطريق يعد من أعظم القربات إلى الله ليلا يتعطل القيام بهذا الفرض الديني المرتبط بالاستطاعة، قائلين بأن الإعانة على الاستطاعة تدخل في باب نصرة الدين والعمل على تطبيق أركانه.
ولذلك كان من أعمالهم المشهورة الإشراف على الركب الحجازي الذي كان يخرج من المغرب إلى أن يصلوا إلى مكة المكرمة.
ويمكن اعتبار «رحلة ابن جبير» و«رحلة ابن بطوطة» و«رحلة العبدري» و«رحلة العياشي» و«رحلة الإسحاقي» من هذا النوع، لكن هذه الرحلة التي نتحدث عنها اليوم المسجلة بالخروم الجديدة من خزانة القرويين تحت رقم 32 لا تمثل هذا النوع المسهب، وإنما نراها تعنى بذكر مراحل السفر، والإشارة إلى المدن الموجودة من بلاد المغرب إلى الحجاز، مع إظهار طبيعة أرضها ومناخها وحالات أمنها ليستفيد من معلوماتها من يريد التوجه إلى تلك الديار، فيحتاط لنفسه، وفيها إشارات قليلة إلى بعض الجوانب التاريخية، أو إلى ذكر بعض المراكز العلمية، زيادة على إظهار طبيعة المناسك التي لا يتم الحج إلا بها».
وهنا نورد مقطعا من المخطوط نفسه، والذي يعود فضل اكتشافه وتنقيحه إلى الباحث محمد الدباغ. ومما جاء في المخطوط:
«الحمد لله خرجنا بحول الله وقوته قاصدين الحج إن شاء الله من مدينة محروسة فاس، مع شيخ الحجيج السيد الحاج علي بن محمد الذيب، يوم الأربعاء تاسع رجب عام ستة ومائة وألف، وخرج معنا وقتئد ركب كبير لا حد له، ونزلنا عشية اليوم المذكور قرب عين السمار، لأن الخروج لم يكن على طريق تازة لكثرة المطر والطين والزلق.
وقد خرج أهل البلد من الرجال والصبيان للتلقي، وفرحوا فرحا كبيرا، وارتقوا على سطوح دورهم، ثم خرج ركب الحجيج مع أشياخ الحاج الحسيني والد كروج للتلقي، وكان يوما عظيما، ومشهدا كريما، ونزل كل منا بدار، ومررنا بسوقها وقيساريتها فلم نر شيئا أحسن من ذلك، والبحر مع سورها، وبه سفن كثيرة، والبحر أيضا مستو مع أرضها.
وبعد خروجهم من طرابلس ببعض أراضي ليبيا، ذكر أنه لما وصل الركب في الخامس عشر من رمضان من هذه السنة إلى المكان المعروف بالزعفراني، غارت فرقة من العرب المعروفين بأولاد زيان على خيلهم، واستولوا على تسعة عشر من الإبل الحاملين المركب، ولكنه ذكر أن رئيس الركب مع بعض التجار أخذوا أسلحتهم، وتوجهوا إلى دوار شيخ أولئك الذين غاروا عليهم، فما هو إلا يوم واحد حتى رجع الرئيس بأربعة عشر من الإبل المغتصبة، وترك بعض أعوانه ليعودوا بالخمسة الباقية».
عندما أرسل الحسن الثاني هدايا لحجاج استقروا ببلاد الحرمين
أواخر سنة 1965، بلغ إلى علم الملك الراحل الحسن الثاني أن عددا من الحجاج المغاربة الذين ذهبوا إلى الحج سنة 1942 وما قبلها بقليل، قرروا الاستقرار النهائي في البقاع المقدسة. وطلب من بعض الفقهاء الذين أشاروا إلى المعلومة أمامه، أن يُعدوا له لائحة بأسماء هؤلاء الحجاج، سيما وأن بينهم فقهاء مغاربة، ونساء مغربيات قررن بدورهن البقاء في مساكن إلى جوار المدينة المنورة.
كان القصد من هذا القرار، أن يبقى الحجاج بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، سيرا على عادة قديمة انتهجها علماء مغاربة منذ القديم.
وفعلا، أعدت لائحة بأسماء مغاربة ومغربيات قرروا الاستقرار النهائي في المملكة العربية السعودية، وأمر الملك الراحل الحسن الثاني أن تُعد لهم هدايا لائقة وهبات مالية من الملك الراحل الحسن الثاني، وأن يشرف موظفون من وزارة الخارجية المغربية وقتها، في عهد إشراف الوزير أحمد السنوسي، على إيصالها إلى أصحابها يدا بيد.
يروي امحمد الأبيض، وهو أحد أوائل موظفي وزارة الخارجية المغربية، واشتغل في سفارة المغرب في كل من روما وبيروت وتونس، أنه كان في فترة انتقالية عاد فيها من سفارة المغرب في روما سنة 1965، وتقرر أن يشتغل في مقر الإدارة في الرباط.. يقول إنه تلقى اتصالا هاتفيا واستقبله أحمد السنوسي، وأخبره أن هناك مهمة عاجلة تنتظره رفقة زميل له، في القصر الملكي بالرباط.
وعند انتقال امحمد الأبيض إلى القصر الملكي، اكتشف أن الملك الراحل الحسن الثاني يشرف بنفسه على المهمة التي تم استدعاؤه من أجلها. وهكذا، بعد انتظار في أروقة القصر، دخل إلى غرفة ليجد الملك الراحل الحسن الثاني حاملا في يده لائحة من الأسماء لمواطنين مغاربة قرروا الاستقرار النهائي في المملكة العربية السعودية، قدمها له وشرح له التكليف الذي ينتظره. وهو أن يوصل هبات ملكية عبارة عن أموال، إلى كل الأسماء الواردة في اللائحة، يدا بيد، هدية من الملك الراحل الحسن الثاني إليهم.
أمر الملك الراحل الحسن الثاني، الأبيض وزميله في الخارجية أن يستعدا لمرافقة الوفد المغربي الرسمي إلى الحج، وأن يتكلفا بإنجاز المهمة فور وصولهما إلى المملكة العربية السعودية.
يقول الأبيض وهو يستعيد هذه الذكرى، إن المهمة لم تكن سهلة نهائيا، خصوصا وأن موسم الحج في تلك السنة تزامن مع موجة حر شديدة في السعودية، بالإضافة إلى أن الحجاج المذكورين في اللائحة لم يكونوا جميعا يقطنون في جوار المدينة المنورة أو مكة، بل منهم من اختار أن يستقر في قرى نائية تماما، يحتاج الوصول إليها بالسيارة رحلة ساعات وسط الصحراء.
وهكذا فقد استغرق تنفيذ الأوامر الملكية مدة طويلة، وإجراء مكالمات هاتفية مطولة والتنسيق بين الرباط والسلطات في السعودية، لتسهيل الوصول إلى كل المذكورين في اللائحة، علما أن بعضهم غيروا عناوينهم، وهو ما جعل الوصول إليهم يستغرق مدة أطول.
بعض الأسماء المذكورة في اللائحة لم يكونوا ميسورين، بل كانوا يعيشون ظروفا عصيبة في المناطق النائية التي قرروا الاستقرار بها، وكان للهدية الملكية وقع كبير في نفوسهم.
صحافية أمريكية غطت رحلة الحج سنة 1953 وأضاعت أهم تغطية في حياتها
ما بين 1950 ونهاية 1953، اشتغلت الصحافية الأمريكية مارفين هاو في مدينة الرباط، وعملت في «راديو ماروك» الذي كانت تشرف عليه الإدارة الفرنسية.
وعندما قررت أن تذهب رفقة صحافي أمريكي آخر في رحلة الحج وترافق الحجاج المغاربة عبر الباخرة من ميناء الدار البيضاء، وتكتب لمجلة أمريكية عن رحلتهم، فوجئت بأن الأسرة الملكية قد نُفيت إلى خارج المغرب، وهو ما جعلها معزولة تماما عن مصادرها وأضاعت على نفسها تغطية أحد أهم الأحداث التي تزامن وقوعها مع فترة اشتغالها على القضايا المغربية.
وتروي «مارفين هاو» في حوار سابق مع «الأخبار» أنها هرعت تجري من الباخرة فور وصولها إلى ميناء بيروت، لكي تجمع أكبر قدر من المعلومات وتُجري أكثر عدد من الاتصالات الهاتفية مع مصادرها في الرباط، لكي تعرف ما وقع بالضبط، خصوصا وأنها كانت على علاقة مع صديقات مغربيات تعرفت عليهن في الرباط، وهن مقربات كثيرا من الأميرات بنات الملك الراحل محمد الخامس.
تروي «مارفين هاو» أن ما وقع لم يُفقدها متعة تغطية رحلة الحجاج المغاربة عبر الباخرة. إذ إنها واكبت حزن هؤلاء الحجاج فور علمهم بخبر نفي الملك الراحل محمد الخامس، وهم يركبون البحر.
ومما نقلته هذه الصحفية بخصوص رحلة الحج تلك، أنه بعد مغادرة بعض الأسر التي كانت تحب السلطان محمد بن يوسف للمغرب مؤقتا، رفضا منها للسلطان الجديد ابن عرفة، كان أحد أصدقاء الملك الراحل قد تظاهر برغبته في التوجه إلى الحج، وفعلا بعد انتهاء الشعائر الدينية فضل أن يعرج من هناك إلى فرنسا عبر الباخرة، وأخبر بعض أصدقائه الفرنسيين في الرباط بأنه لن يعود إلى المغرب نهائيا، إلا بعد عودة السلطان محمد بن يوسف إلى العرش.
وكانت مارفين قد سمعت بهذه الواقعة من بعض الحجاج عند عودتهم إلى المغرب، ورددوا أن هذا الصديق المقرب من الملك الراحل، اختار أن يذهب إلى الحج حتى يُسمح له بمغادرة المغرب، ومن هناك توجه إلى فرنسا بدل أن يعود إلى الرباط. وفضل أن يقيم بين الفرنسيين على أن يعود إلى أجواء الاحتقان، بسبب وصول المعادين للملك الراحل محمد الخامس إلى السلطة، وانتقامهم ممن رفضوا التوقيع على وثيقة المطالبة بنفي محمد الخامس.
بعد تأكدها في بيروت من الأخبار المتعلقة بنفي الأسرة الملكية ومطالعة الصحف الناطقة بالفرنسية هناك، قررت «مارفين هاو» أن تواصل رحلتها إلى الأراضي المقدسة، لكي تنجز تقريرا من هناك حول موسم الحج إلى الصحافة الأمريكية، رغم أنه لم يكن مسموحا لها بطبيعة الحال بزيارة البقاع المقدسة أو مرافقة الحجاج، احتراما للقوانين التي تمنع غير المسلمين من دخول الأراضي المقدسة.
تحكي «مارفين» قائلة إن رحلتها إلى الشرق استمرت طيلة شهر شتنبر، وهو ما يعني أن مغادرتها الرباط تزامنت مع انفجار الأوضاع في المغرب، وكانت عندما غادرت الرباط قد قررت توديع المغرب بحثا عن أفق مهني آخر بعد انتهاء علاقتها بـ«راديو ماروك». لكن بسبب مطالعتها لتلك الأخبار قررت بعد انتهاء تغطيتها لوصول الحجاج المغاربة إلى الأراضي السعودية، العودة في الأسبوع الأخير من شهر شتنبر 1953 إلى الرباط، لكي تنقل إلى الصحافة الأمريكية تقارير عن الأوضاع في المغرب في ظل نفي الأسرة الملكية.
الوزير المنبهي.. أثار الجدل وزيرا وحاجا أيضا
الباحث المغربي الصديق الروندة، يبقى أول من وثق لحياة الوزير المغربي المهدي المنبهي. وقد أورد في كتابه: «المنبهي: الوزير الشاهد على الأزمة المغربية»، معلومات مهمة عن رحلة الحج التي قام بها هذا الوزير آخر حياته بعد أن انتهى من انشغالات الوزارة.
ورغم أن بعض المصادر التاريخية تصف المنبهي بأنه صار «إنجليزيا»، بسبب صداقاته المتينة مع الأجانب منذ لجوئه إلى طنجة هاربا من فاس ما بين سنتي 1902 و1903، إلا أنه حافظ على مظاهر تدينه، إلى درجة أن رحلة الحج التي قام بها على ظهر الخيل، والتي استغرقت منه شهورا من المسير، خلقت الحدث في أوساط أعيان تونس ومصر وليبيا، ومنهم من رافقوه خلال رحلة الحج، وتكلف المنبهي بمصاريف رحلة حج كل مرافقيه، وكانوا يقدرون بالعشرات.
يقول الباحث الروندة، نقلا عن حفيد المنبهي، نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إن الوزير حمل معه هدايا ثمينة في طريقه إلى الحج، وحرص على توزيعها هناك على وزراء وعلماء وشخصيات بارزة التقاهم جميعا في موسم الحج. إذ كان يحرص على التعريف بنفسه أولا، وزيرا مغربيا سابقا في دولة المولى عبد العزيز قبل تنحيه عن الحكم، ثم يمنح ضيفه ساعة ذهبية ثمينة، أو خناجر مغربية من الفضة، ويدعوه إلى تناول الطعام معه في خيمته.
والواضح أن المنبهي أسرف في محاكاة التقاليد المخزنية القديمة، إذ كان يحرص على أن تنصب الخيام خلال رحلته، سيرا على طريقة المخزن في نصب الخيام خلال الرحلات التفقدية التي كان يقوم بها سلاطين الدولة العلوية، سيما أيام المولى الحسن الأول ما بين سنتي 1890 و1894. وكان وقتها المنبهي لا يزال مخزنيا بسيطا في دار الوزير باحماد.
وعندما صار المنبهي وزيرا، راكم صداقات كثيرة مع الأعيان المغاربة، ولوحظ أنه راكم ثروة كبيرة جدا، رغم أنه كان ينحدر من أسرة فقيرة جدا من قبيلة «المنابهة».
وعندما تم التخلي عن المنبهي من الوزارة، بسبب ثورة بوحمارة وفشله في احتوائها سنة 1901، بصفته وزيرا للحرب، لجأ إلى طنجة وكان يتجرع مرارة الهزيمة وسخرية وزراء مثل الوزير التازي، منه بسبب فشله في الحفاظ على الوزارة.
وهكذا كانت رحلة الحج التي قام بها ما بين سنتي 1908 و1910، فرصة له لكي يعود إلى الواجهة، ويذكر خصومه بأنه ما زال يحتفظ بالجاه والسطوة، خصوصا وأن الحجاج من تونس ومصر وليبيا كانوا قد احتفوا به كثيرا، وحرص خلال مسار رحلته أثناء الذهاب، أن يُكرم أهالي المناطق التي تمر منها ركبان الحجاج المغاربة عبر التاريخ.
وما يفسر سلوكات المهدي المنبهي أثناء رحلة الحج، أنه كان لا يزال يعتبر نفسه وزيرا مغربيا وإحدى ركائز المخزن المغربي. وما يؤكد هذا المُعطى، وجود مراسلات بين المهدي المنبهي والقصر الملكي في فاس تعود إلى سنة 1908، إذ كان يوجه فيها بعض النصائح ويعلق على الأحداث، كما لو أنه ما زال وزيرا، رغم أنه في الحقيقة كان منفيا اختيارا إلى مدينة طنجة، ولم تعد له أي صلاحيات في السلطة.
وهذه الظاهرة استمرت مع المهدي المنبهي إلى أن وصل محمد بن يوسف إلى العرش، إذ كان يراسله في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، ويحرص على تهنئة السلطان في الأعياد الدينية، بصفته وزيرا مغربيا سابقا، وهي الصفة التي لم يرد المنبهي أن تسقط عنه، رغم أنها سقطت فعلا إلى آخر أيامه، حيث توفي سنة 1941.