مغاربة السنغال التاريخ المنسي للعلاقات بين الرباط وداكار منذ 70 عاما
عندما عين أول سفير مغربي في السنغال، كان الأمر يتعلق، خلال فترة حكم الملك الراحل محمد الخامس، بوضع سفارة للرباط في داكار للإشراف على شؤون المغاربة المقيمين هناك منذ بداية القرن الماضي، وقبله بقليل. كان الأمر يهم تسهيل الخدمات، ولم يكن يتعلق فقط بتأسيس علاقات دبلوماسية مع بلد خرج بدوره من تحت الوصاية الفرنسية. تاريخ قديم يجمع المغرب بالسنغال، نادرا ما سُلط عليه الضوء..
يونس جنوحي
++++++++++++++++++
تجار «فاس» الذين أعلنوا إفلاسهم في داكار
أسر مغربية هاجرت إلى السنغال، خلال القرن الماضي، وأسست حياة جديدة لها ولأبنائها واشتغلوا في أنشطة تجارية درت عليهم الملايين. ولأن بقاء الحال من المحال، فإن حياة هؤلاء انقلبت رأسا على عقب بعد تمتع السنغال بالاستقلال التام عن فرنسا سنة 1960 إثر سلسلة من الانسحابات الفرنسية التي ختمت بجعل داكار عاصمة للبلاد لتنفصل عن المستعمرات الغربية لفرنسا في إفريقيا.
من بين هذه العائلات، كما أشار إلى ذلك الدبلوماسي الراحل قاسم الزهيري، أول سفير مغربي في السنغال خلال عهد الملك الراحل محمد الخامس، أسر كانت في قمة الثراء ونجاح المشاريع المالية، لتنقلب حياتها وتصبح معزولة في داكار. وهكذا، كان ملف هذه العائلات أولى المهام الدبلوماسية التي اشتغل عليها قاسم الزهيري في السفارة المغربية هناك.
عائلة إدريس كنون، الذي كان مليونيرا خلال فترة الحماية الفرنسية، وتعود قصة وصوله للسنغال إلى بداية القرن الماضي. ففي الوقت الذي وصل فيه قاسم الزهيري إلى السنغال، كان إدريس كنون يعيش أياما عصيبة بعد تدهور تجارته بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية. إذ أصبح في خمسينيات القرن الماضي على حافة الإفلاس. يقول عنه قاسم الزهيري: «كان المرحوم إدريس كنون يتمتع بسمعة طيبة عند الخاص والعام. وقد عرفناه بعدما عينا في هذه البلاد. والكل كان يدعوه بابا ادريس. تقهقرت تجارته، منذ 15 عاما. ومع ذلك بقي على حاله في إكرام الضيف. وقد توفي منذ أربعة أشهر عن سن تقارب المئة. فقام المغاربة جزاهم الله خيرا بتجهيز جنازته».
قبل وفاة هذا التاجر المغربي في السنغال، كان خبر تدهور وضعه المالي وصل إلى المغرب مع حصول البلاد على الاستقلال، وانتشر الخبر بين التجار المغاربة في السنغال، حيث قاموا بمبادرات لمساعدته. وهنا يقول قاسم الزهيري إنه تعرف عليه عن قرب وهو سفير في داكار، وهو ما يعني أنه عاصر مأساته وعرفها عن قُرب، وسمع من تجار آخرين عن ماضيه في الكرم والإحسان إلى المغاربة والسنغاليين، وكان معروفا هناك أن تداعيات الحرب العالمية الثانية وتدهور قطاع الاستيراد والتصدير إلى الدول الأوربية كانا وراء إفلاس تجار من مختلف الجنسيات.
ومن أشهر التجار، أيضا، أحد أبناء عائلة بنجلون الذي غادر فاس في بداية القرن الماضي، وأسس تجارة مهمة في السنغال خلال ثلاثينيات القرن ذاته.
يقول السفير المغربي قاسم الزهيري إنه أحدث لجنة لمعرفة الأحوال المادية للتجار المغاربة ومطالبهم، وفوجئ عندما علم أن الحسن بن جلون، التاجر الذي كانت ثروته تقدر بالملايين، عانى، وهو في سن الثمانين وقتها، (أي خلال فترة اشتغال الزهيري في السنغال)، من العمى وفقد بصره ولم يعد قادرا على إعالة أسرته الكبيرة، حتى أنه لم يعد يتوفر على مسكن بسبب إفلاس مشاريعه، حيث تكلف أحد أصدقائه في «رفسك»، وهي مدينة أخرى بالسنغال، بتوفير مسكن له لينتقل إلى هناك ويعيش في ذلك المسكن إلى آخر أيام حياته هو وأسرته.
هناك، أيضا، أحد أبناء بنجلون، لكن ما يميز قصته أنه وُلد في السنغال ولم يأت إليها مثل البقية لتأسيس تجارته.
اسمه عبد الله بنجلون، ولد في السنغال سنة 1900، وكان يشتغل في التجارة، لكنه أصيب بمرض ألزمه الفراش، وهو ما أثر سلبا على أنشطته التجارية ليصبح مفلسا تقريبا في آخر أيامه، لولا أن لجنة من التجار المغاربة تكلفت به لتصرف له إعانات شهرية، بعد أن قضى شبابه وهو يساهم في تجمعات التجار، بل وكان وراء مجيء تجار مغاربة إلى السنغال حيث شجعهم على بداية مشاريع تجارية هناك.
قصص من زمن المد والجزر والزاوية التيجانية
كانت هناك حكاية قديمة تداولها أجدادنا المغاربة خلال القرن التاسع عشر، مفادها أن الجلد الذي يُدبغ مرة في فاس، يُدبغ مرات أخرى تحت الأقدام في طريقه إلى إفريقيا.
هذه المقولة الضاربة في القدم تحيل على العلاقات المغربية- السنغالية. إذ إن المصنوعات التقليدية المغربية كانت تباع في أسواق السنغال واعتاد عليها السنغاليون، خصوصا وأن أعدادا مهمة من السكان كانوا متأثرين جدا بالزوايا ومن أنصار الطريقة التيجانية، وهكذا فإن البلغة والطربوش المغربي والسبحة التقليدية، كانت كلها تجد رواجا كبيرا في أسواق السنغال.
كان هناك شارع في العاصمة يطلق عليه اسم «فانسان»، هو إرث من الاستعمار الفرنسي. وكان هذا الشارع تجمعا للتجار المغاربة حيث كانت به محلات لعائلات مغربية كونت ثروة وشكلت قصص نجاح وسط السنغال.
علاقة التجار المغاربة بأرض السنغال ضاربة في القدم، وكان من الطبيعي أن تتأثر بعدد من المحطات، خصوصا مع مجيء فرنسا، حيث مرت العلاقات بين البلدين من حالات مد وجزر، لكن سرعان ما تم احتواؤها خصوصا بعد إعلان استقلال البلدين وتشكيل الحكومات وتبادل الزيارات منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات. حيث كان الملك الراحل محمد الخامس حريصا على استقبال الوفد السنغالي خلال آخر سنوات حكمه. واستمر الأمر مع الملك الراحل الحسن الثاني الذي زار السنغال في أكثر من مناسبة، وفتح الأبواب أمام شخصيات سياسية ودبلوماسية من السنغال لزيارة المغرب.
أما الملك محمد السادس، فكانت أولى زياراته بعد أقل من سنتين من وصوله إلى الحكم، حيث كان صيف سنة 2001 يوما تاريخيا في السنغال، بعد برمجة الزيارة الملكية التي استغرقت عدة أيام، واعتبرتها الصحافة السنغالية الأطول في تاريخ الزيارات الملكية إلى بلادهم.
بالعودة إلى جذور العلاقات بين البلدين، يشهد الدبلوماسي والصحافي الراحل، قاسم الزهيري، باعتبار أنه مؤسس سفارة المغرب في داكار خلال عهد الملك الراحل محمد الخامس، بما يلي: «ونشير بالمناسبة إلى أن أحد حفدة الشيخ أحمد التجاني، واسمه السيد محمد الحبيب كان يسكن بدكار وكان محل اعتبار وتقدير من جميع الأوساط وخاصة من لدن أتباع جده، وكنا نزوره في المسجد الذي ابتناه ولا يفرغ من المؤمنين، وبعد استقلال السنغال أخذ السيد محمد الحبيب ينظم زيارات سنوية إلى ضريح الشيخ أحمد التجاني بفاس وإلى أهم معالم المغرب يشارك فيها عشرات السنغاليين، وقد تفضل الملك فأوقف بيتا كبيرا في مدينة فاس لإيواء هؤلاء الزوار. وكان لذلك وقعه الطيب في نفوس السنغاليين. ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن كثيرا من الحجاج السنغاليين كانوا يفدون على المغرب لزيارة ضريح الشيخ أحمد التجاني في طريق العودة من بيت الله الحرام وزيارة الكعبة المشرفة.
ومن الجمعيات السنغالية التي كنا متصلين بها جمعية الاتحاد والثقافة الإسلامية. وهي من أنشط الجمعيات الإسلامية في السنغال ولها عدة مدارس لتلقين مبادئ الإسلام والعربية وفي كل سنة كانت توجه المتخرجين من هذه المدارس إلى تونس والقاهرة ويعدون بالعشرات، وقد بدأت السفارة بطلب منح لعشرة من هؤلاء الطلبة لمتابعة دروسهم في المعاهد الإسلامية بالمغرب .
نشير كذلك، بهذه المناسبة، إلى دور المغرب في إنجاز المسجد الجامع بدكار. فقد فاتحنا السيد مامادو دجا، رئيس الحكومة السنغالية إذ ذاك، في وضع تصميم هذا المسجد وبنائه على أيدي مهندسين وعمال مغاربة، وتشييد منار مرتفع يرى من بعيد وبناء مركز ثقافي ومدرسة لتعليم مبادئ الدين واللغة العربية. وسبق أن أسست لجنة للقيام بهذا المشروع وتتألف كلها من المواطنين السنغاليين وجمعت تبرعات كافية للإنفاق، وقد تفضل جلالة الملك فلبى طلب الحكومة السنغالية وأوفد السيد المكي بادو رحمه الله، وكان إذ ذاك قائما بشؤون الأوقاف بالمغرب ومعه وفد من المهندسين وكبار النحاتين والعمال برئاسة المقاول المرحوم السيد ابن عمر من سلا. وأسهم جلالة الملك بقدر مهم من ماله الخاص لإنجاز المشروع. وقد تم وفق المرام بعد سنتين؛ وحضر جلالة الحسن الثاني بنفسه في تدشين المسجد في يوم مشهود ما تزال ذكراه عالقة بأذهان السنغاليين إلى يومنا هذا».
من الرباط إلى داكار..
عندما حصل المغرب على الاستقلال سنة 1956، كانت السنغال من بين الوجهات الأولى التي ركز عليها المغرب في ربط العلاقات مع الدول الإفريقية خلال فترة حكم الملك الراحل محمد الخامس. ففي بداية الستينيات، كان محمد الخامس قد عين سفيرا في داكار، وهو الاستقلالي قاسم الزهيري، أيام كان الوزير أحمد بلافريج وزيرا للخارجية، قبل أن يصبح رئيسا للحكومة سنة 1958.
كان اختيار قاسم الزهيري مدروسا بعناية، إذ إن هذا الصحافي الذي كان يشتغل في صحيفة “العلم”، وقع عليه الاختيار لكونه وقتها ينتمي إلى فريق كفاءات الحزب في التواصل، ثم لأن مهمته كانت ميدانية، إذ كان عليه ربط الاتصال مع السنغاليين والإشراف على ملفات العائلات المغربية التي كانت تمارس أنشطة تجارية في السنغال لأزيد من نصف قرن قبل استقلال المغرب. هذا لا يعني أن العلاقات بين المغاربة والسنغاليين بدأت وقتها للتو، وإنما تعود إلى قرون خلت منذ أزمنة القوافل التجارية التي ربطت إفريقيا بشمال إفريقيا، وتعززت أكثر أيام الدولة السعدية، حيث كان كبار تجار السنغال يعرفون مراكش أكثر مما يعرفون أي مدينة أخرى في القارة الإفريقية.
عندما تأسست وزارة الخارجية المغربية وهندس كل من أحمد بلافريج ومولاي أحمد العراقي، الذي كان في ديوانه في البداية قبل أن يعينه الملك الراحل الحسن الثاني في بداية عهده وزيرا للخارجية، بالإضافة إلى أحمد السنوسي، كان المغرب قد بدأ العلاقات الدبلوماسية مع السنغال، إذ كانت بعثة من التيجانيين من أوائل من هنؤوا الملك الراحل محمد الخامس على عودته من المنفى.
وقتها جاء الوفد إلى الرباط واحتفى بهم الملك الراحل محمد الخامس سنة 1955، حيث خصصت لهم إحدى الإقامات غير البعيدة عن القصر الملكي لكي تكون مقرا لإقامتهم المؤقتة لحضور الاحتفالات والاستقبالات التي عرفها القصر الملكي لأسابيع.
بالإضافة إلى أن عددا من الشخصيات الرباطية كانت لديها علاقات مع السنغاليين، خصوصا الذين يهتمون بالتصوف، حيث كان التيجانيون معروفين بطريقتهم في إحياء احتفالات عيد المولد النبوي، وبعضهم كانوا مُريدين لعلماء من المغرب، حيث كانت جامعة القرويين في فاس قبلة لمئات المهتمين بالزاوية التيجانية.
ينضاف إلى هؤلاء مواطنون مغاربة بقوا أوفياء لصداقات مع شخصيات سنغالية معروفة. ومن بين هؤلاء المغاربة نجد عائلات مغربية كونت ثروة مهمة في السنغال، من خلال الأنشطة التجارية، ثم عادت إلى الرباط، فأصبحت منازلها إقامات للزوار القادمين من السنغال إلى المغرب.
ومن بين هؤلاء المغاربة نجد عائلة مولاي إدريس العلوي، وهو أحد كبار المغاربة الذين اشتهروا بالتجارة في السنغال خلال فترة الحماية، حيث اتجه إلى الميدان المصرفي، وأيضا الراحل محمد العراقي الذي تولى رئاسة الخطوط الملكية المغربية بعد عودته من السنغال، فضلا عن الأخوين عبد الرحمن ومحمد بناني اللذين أشرفا على تجارة ناجحة جدا في داكار، ثم عادا إلى الرباط لكي يستثمرا في الخدمات وأسسا شركات كبرى.
ومن بين الملفات الأولى التي اشتغلت عليها سفارة المغرب في داكار، ملف أموال التجار المغاربة الذين أرادوا نقل تجارتهم إلى دول إفريقية أخرى. فقد كانت السفارة، في ذلك الوقت، صلة وصل بين رجال الأعمال المغاربة وسلطات السنغال.
ملف الأبناء مزدوجي الجنسية وهذه قصة مغاربة بين «كولخ» و«سان لوى»
جاء في مذكرات قاسم الزهيري، الذي كان أول سفير مغربي في السنغال بعد حصول المغرب على الاستقلال، حيث عينه الملك الراحل محمد الخامس سفيرا في داكار مباشرة بعد تأسيس وزارة الخارجية المغربية، ما يلي: «طالما اجتمعنا بهذه الجالية ودعوناهم لتكييف حالتهم بحسب الأوضاع السياسية والاقتصادية الجديدة حفاظا على بقائهم وتجارتهم. فالسنغاليون، بعد الاستقلال، أخذوا يتعاطون التجارة ويبحثون «سنغلة» المرافق الاقتصادية. ثم إن الدولة الناشئة أصبحت في حاجة إلى المداخيل، فلجأت إلى سن الضرائب. وكان على مواطنينا أن يتنبهوا إلى تبدل الأحوال فيشركوا معهم أبناء البلاد في رأس المال والربح، وبذلك يبقون على وجودهم وتجارتهم. والوحيد الذي تنبه إلى ذلك هو السيد محمد مكوار. أما الآخرون، فأغلبهم لم يتطوروا فاضطروا إما إلى العودة إلى بلادهم أو إلى الرحيل إلى أقطار إفريقية أخرى مثل ساحل العليم حيث كانت فرص العمل الحر أكثر والبلاد أغنى.
وبقي بعض المغاربة العجزة الذين تأهلوا من السنغال وأنجبوا أبناء يعتبرون سنغاليين. ومنهم من أقعدهم الدهر، فكانوا يتلقون الإسعاف من مواطنيهم أو من الدولة المغربية، وأكثر هؤلاء كانوا في «سان لوى» أو «كولخ» إلخ.. ومنهم من أدركته المنون فتركوا أسرة على بساط الفقر. وممن أدركنا بالخصوص وعلى سبيل المثال: المرحوم السيد إدريس كنون، قضى أزيد من أربعين سنة في السنغال وكانت له تجارة واسعة ودار مفتوحة في دكار. وكان يعرف بـ «بابا إدريس»، مات عن سن تناهز المائة. وترك أسرة تتألف من أرملة وأحد عشر ولداً. ومنهم الشيخ الحسن بن جلون، كان من التجار المشهورين في مدينة كولخ قبل أن يقعد به الدهر ويذهب بصره، وكانت عائلته متألفة من زوجة وثمانية بنين وستة حفدة. وسنه تناهز الثمانين. وقد آواه أحد السنغاليين ونقله إلى مدينة «روفسيك». ومن بين التجار المغاربة القدامى السيد عبد العزيز بوغربال له ثمانية أولاد وكان يسكن بمدينة «روسو». والسيد عبد الله جلون وقد أصيب بعاهة ألزمته البيت وله عيال كثر. والسيد عبد الكريم بوزكري وكان من التجار المعروفين. وقد اتخذ مدينة «دجور بيل» مسكنا له ولبناته الخمس، والسيد إدريس بنجلون وكان من التجار المعروفين في مدينة كولخ. وله أسرة تتألف من عشرة أبناء وأخت تحت كفالته، والسيدة خادي أرملة المرحوم الحاج محمد بنونة وكان من كبار التجار المغاربة في داكار، خلف خمسة أطفال صغار. والسيد عبد العزيز بوغالب وكانت له تجارة واسعة في «تييس» وأسرته مؤلفة من اثني عشر ولدا علاوة على زوجته. والسيد عبد القادر الشاوي وكان معروفا بكرمه لما كانت تجارته مزدهرة. وأسرته تتألف من أربعة عشر ولدا وزوجته. والسيد إدريس بوغالب له زوج وبنت. والسيد الكبير العلمي وله زوجة من أسرة بوعياد هجرها وترك لها أربعة أولاد. والسيد عثمان بوغالب وهو من وجهاء المغاربة في «سان لوى» وله سبعة أبناء. هؤلاء ممن عرفنا، ومنهم من لم تجمعنا بهم الأقدار وهم الأكثرية. وكان المواطنون في السنغال، جزاهم الله خيرا، يسعفونهم بما يستطيعون. وقدمت لهم السفارة بعض الإسعاف، كما طلبت من الدولة أن تعينهم، ففعلت».
قصة شارع محمد الخامس..
من علامات الصداقة بين المغرب والسنغال، إطلاق اسم الملك الراحل محمد الخامس على أحد أكبر شوارع داكار في بداية ستينيات القرن الماضي. إذ كانت في البلاد حركة تحررية تُشيد بالرموز الذين واجهوا فرنسا. وكان الملك الراحل محمد الخامس وقتها قد عاد لتوه من المنفى، لكي يتحول إلى أيقونة للنضال، حيث حصد تعاطف السنغاليين. إذ كما كان الأمر عليه في الرباط، حيث تم استقبال وفد رسمي من السنغال جاء خصيصا لتهنئة الملك الراحل محمد الخامس، كانت داكار أيضا تحتفل على طريقتها، خصوصا وأن نسبة مهمة من أعيان البلاد كانوا من أنصار الزاوية التيجانية. وهي الطائفة المرتبطة تاريخيا بالمغرب، حيث اعتنقوا الإسلام قبل قرون عندما وصل إليهم المغاربة، وبقي ذلك الاتصال وثيقا. إذ إن صور الأرشيف التي توثق لزيارات الوفود الرسمية للسنغال إلى المغرب، كان أغلبها مرتبطا بالمناسبات الدينية والأحداث الوطنية الكبرى. ولم يكن يطغى عليها أصحاب البذل الرسمية، بل كانت الغلبة فيها لأصحاب الجلابيب والسبحة، حيث إن هؤلاء لم يكونوا ينظرون إلى المغرب على أنه دولة إفريقية يربطون معها علاقات دبلوماسية، بل كانوا يرون في القصر الملكي بالرباط رمزا لاستقرارهم الديني، وهو ما ظهر بوضوح عندما توفي الملك الراحل محمد الخامس، حيث كان وفد من التيجانيين قد توجهوا إلى القصر الملكي لتقديم واجب العزاء، وجاؤوا ممثلين لآلاف أنصار الزاوية التيجانية في السنغال، وأحيوا ليالي من الأذكار على روح الملك الراحل محمد الخامس.
لكن خلال حياة الملك الراحل، كان السنغاليون قد أبانوا عن تقديرهم لشخصه بعد عودته من المنفى، وأطلقوا اسمه على أحد أهم شوارع البلاد.
وتعود القصة إلى أن عددا من أنصار الزاوية التيجانية قرروا، بداية الستينيات، أن يقدموا للملك الراحل محمد الخامس هدية كانت عبارة عن مخطوط قديم يعود إلى بداية عهد الدولة العلوية، أيام مولاي علي الشريف، وكان المخطوط يتعلق بمساعي الدولة العلوية لنشر الإسلام في بعض الدول الإفريقية.
وعندما قُدم المخطوط للملك الراحل محمد الخامس، أمر وقتها بتقديم مساعدة للزاوية التيجانية لإنشاء مسجد في داكار، كما وُجهت الدعوة إلى بعض رموز الزاوية التيجانية في السنغال لكي يزوروا المغرب برعاية من الملك الراحل محمد الخامس لإحياء احتفالات بعض الطرق الصوفية. واتخذ السنغاليون مبادرة بعد عودتهم من تلك الجولة التي حظيت برعاية ملكية، وقرروا إطلاق اسم الملك الراحل محمد الخامس على شارع في داكار.
كانت البلاد وقتها تتوفر على زوايا للطريقة التيجانية، وكانت تحظى، ولا تزال، بشعبية كبيرة. وكان التيجانيون يعتبرون فاس، على وجه الخصوص، عاصمة أخرى لهم، وهو ما جعل العلاقات بين البلدين تصبح متقدمة بمجرد اعتبار داكار عاصمة للسنغال سنة 1960، حيث اعتُمد السفير المغربي هناك فترة قصيرة جدا بعد إعلان تغيير السياسة الفرنسية التي خططت لجعل داكار عاصمة للشق الفرنسي من غرب إفريقيا منذ 1902.
ملف «ساليغان» المغرب أحرج فرنسا ولا زال يحيطه الغموض
منذ نهاية الحرب العالمية، وسنوات بعدها خلال حرب الفيتنام سنة 1954، وقبلها خلال الحرب العالمية الثانية، كان سكان الدار البيضاء، على وجه الخصوص، يلمحون جنودا منحدرين من السنغال كانوا مجندين في الجيش الفرنسي وكانت هناك ثكنات عسكرية خصصت لهم.
وحسب أرشيف الإدارة الفرنسية في الدار البيضاء، فإن شتاء سنة 1954 شهد حادثة دموية بعد افتعال صراع بين جندي سنغالي مع شبان مغاربة من منطقة درب السلطان.
وحسب بعض الشهادات التي أدلى بها قدماء المقاومة في الدار البيضاء، فإن البوليس الفرنسي لعب دورا كبيرا في إذكاء المواجهات بين الجنود السنغاليين الذين انبروا للدفاع عن زميلهم، وبين المغاربة الذين أرادوا الانتقام لمواطنهم. وتطور المشكل إلى درجة تسجيل البوليس لأعمال شغب وإفشال محاولة لإضرام النار في حافلة للنقل العمومي بالدار البيضاء.
الأرشيف العسكري الفرنسي يحتفظ بوثائق تؤرخ لوجود مئات الجنود السنغاليين في المغرب، ما بين ثكنة الدار البيضاء وثكنة مكناس العسكرية حيث جرى تدريبهم لاستعمالهم خطوط دفاع أولية خلال الحرب العالمية الثانية، ولا يزال السنغال اليوم يطالب فرنسا بالاعتراف بالدور الذي لعبه الجنود السنغاليون في الجيش الفرنسي.
المثير، أيضا، أن الإقامة العامة الفرنسية في الرباط حاولت إقحام الجنود القادمين من السنغال في حرب عرقية مع المغاربة، باستعمالهم في مواجهة مظاهرات غشت سنة 1953 عند نفي الملك الراحل محمد الخامس. إذ كانت فيالق العسكريين السنغاليين تفرض حظر التجول وتعمل على قمع المظاهرات خصوصا في الدار البيضاء، وهو ما جعل هؤلاء الجنود أهدافا للخلايا السرية للمقاومة المغربية المسلحة التي بدأت أولى عملياتها ضد الاستعمار بعد نفي السلطان إلى الخارج، مطالبين بإعادته إلى العرش.
وانتشر وقتها، على يد المقدمين وأعوان السلطة التابعين للاستعمار، أن أولئك السنغاليين يدينون بالمسيحية، في حين أن بعضهم كانوا ينتمون إلى قبائل مسلمة في السنغال.
ومن بين الملفات الشائكة التي اتهم فيها جنود سنغاليون في محاولة لجعل المقاومة المسلحة تستهدفهم، نشر أخبار من طرف المقدمين سنة 1953 عقب أحداث حريق الحي الصفيحي الأقدم في الدار البيضاء. إذ بعد انطفاء النيران في جنبات «البراكات» القصديرية، أشعل هؤلاء فتيل الصراع من جديد ونشروا أخبارا مفادها أن الجنود السنغاليين هم الذين أضرموا النار في جنبات البراكات ليلا وافتعلوا الحريق الذي أتى على ملاجئ مئات العائلات المغربية النازحة من القرى المغربية نحو الدار البيضاء. والنتيجة كانت محاولات لاستهداف هؤلاء الجنود الذين حاربوا لاحقا، سنة 1954 مع الجنود المغاربة جنبا إلى جنب في صفوف الجيش الفرنسي في الفيتنام.
إذ إن تجربة الفيتنام جعلت الجنود المغاربة يتعرفون على السنغاليين عن قرب، وكان مثيرا معرفة أن بعض أولئك الجنود كانوا على دراية بتاريخ الزوايا في المغرب أكثر من المغاربة. إذ يعتبر ضريح المولى إدريس، مؤسس الدولة المغربية، مزارا مقدسا لمسلمي السنغال الذين يمثلون إلى اليوم، قبائل وفية للتصوف على الطريقة المغربية.
ملف الجنود السنغاليين في المغرب أحرج الإقامة العامة الفرنسية، بحكم أنها فقدت جنودا من السنغال في مواجهات وضعتهم خلالها في الصفوف الأمامية واستعملتهم دروعا بشرية، وهو ما جعلها مُطالبة بالاعتذار لاحقا. بالإضافة إلى أنها وظفت الميز العرقي بين السنغاليين والمغاربة، حيث كانوا يُعتبرون جنودا من درجات دُنيا في الحروب رغم أنهم كانوا وراء انتصارات الجيش الفرنسي في الجبهات. ويبقى الضرر الأكبر الذي ألحقته فرنسا بالجنود السنغاليين، عندما حاول المسؤولون في البوليس الفرنسي تأليب المغاربة ضدهم، حيث أصبحت ثكنات «ساليغان» في الدار البيضاء هدفا للقنابل اليدوية محلية الصنع التي كان يُعدها المقاومون المغاربة.