معنى النطق عند الإنسان
بقلم: الدكتور خالص جلبي
تيك (TIK) هل هي الكلمة الأولى التي تمكن الإنسان من نطقها؟ هذا ما يدعيه على الأقل باحث أمريكي معاصر في دراسة اللغات وعلم الألسنيات، ولكن هذا لا يفسر على الإطلاق لماذا بدأ الإنسان في النطق؟ وكيف بدأ رحلة التعبير؟ ومتى بزغ عصر الكلمة؟ فاختلف عن كل الكائنات الأخرى التي تدب على البسيطة.
ما أهمية التعبير؟ وما هي أهمية اللغة في علاقة الإنسان بالواقع؟ ما معنى الترميز؟ ما هي وظيفة اللغة؟ ما معنى النطق عند الإنسان؟ وما علاقة التصويت باللغة؟ بل ما هي فلسفة اللغة؟ وما معنى الأسماء التي تعلمها آدم؟ إن كل هذه الأسئلة الضخمة والمصيرية فجرت في الوقت الراهن مجموعة من العلوم الجديدة، كان أهمها علم الألسنيات (LINGUISTICS).
عندما أراد القرآن توثيق فكرته قال عنها إنها تشبه الحق الذي يحمله نطق الإنسان (فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون)، فما هو هذا النطق الذي اعتمدته الآية كمصدر لتوثيق الحق؟ وما هي الأسماء التي عجزت عن علمها الملائكة وأنبأ بها آدم؟
تجربة الفرعون بسامتيك الأول (PSAMMETIQUE I):
استولت فكرة عجيبة على ذهن الفرعون لم تغادره ليلا ونهارا، مفادها لو تركنا الأطفال بدون أن نعلمهم لغتنا، فهل سينطقون باللغة الأصلية للإنسان؟ وهل ستكون اللغة الهيروغليفية نفسها، أم ستكون متباينة؟ وإذا اختلفت فأي لغة ستكون؟ كان ذلك قبل 2600 سنة من الآن، فانطلق الفرعون (بسامتيك الأول) بعد أن استولت عليه الفكرة تماما إلى ميدان التجربة اللغوية (الألسنية).
يذكر المؤرخ اليوناني (هيرودوت) عن هذه التجربة المثيرة، أن الفرعون أخذ طفلين حديثي الولادة فدفعهما إلى عائلة راع تحت رقابة مشددة، بحيث تم تغذية الطفلين بدون لفظ كلمة واحدة لهما، وكان الفرعون يتفقدهما شخصيا ليرى نتائج تجربته، ولعل هذه التجربة الألسنية الأقدم في هذا الاتجاه، لمعرفة أصل اللغات بواسطة التجربة البشرية، وبعد مرور سنتين تذكر الرواية أنهما نطقا شيئا يشبه لفظة (بيكوس)، وعندما سأل الفرعون الحكماء حوله عن شعب ينطق هذه اللفظة، ذكروا له الشعب (الفريجي) الذي يعيش في آسيا الصغرى، ويعرفه المؤرخون أنه كان من الشعوب الهندية الجرمانية، وأن هذه الكلمة تعني الخبز في لغة الشعب الفريجي. فهل لغة هذا الشعب هي فعلا أصل كل اللغات؟ لو صدق هذا لحلت هذه المشكلة بأبسط السبل، ولكننا نعلم اليوم أن الشعب الفريجي الذي كان يعيش قبل ثلاثة آلاف سنة ليس شيئا في عمر الزمن مع الإنسان، الذي أثبتت عظامه المرمية في طبقات الأرض في شرق إفريقيا، أنه يعود ليس إلى خمسة آلاف سنة؛ بل خمسة ملايين من السنين.
هذه الفكرة التي استولت على الفرعون المصري قديما تحركت مرة أخرى في العصور الوسطى، على يد حاكم مستنير هو فريدريك الثاني الذي حكم صقلية في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان محبا للعلم، متأثرا بالثقافة العربية أراد أن يعرف بدوره أصل اللغات، هل هي اللغة العربية أم العبرية أم السنسكريتية أم سواها؟ يذكر العالم الأمريكي (بيتر فارب)، صاحب كتاب «بنو الإنسان»، تجربة قاسية أجراها هذا الملك الموهوب الفنان الشاعر وبالطريقة نفسها للفرعون السابق، فدفع عددا من الأطفال حديثي الولادة إلى من يهتم بأمر الغذاء والنظافة، دون أن يتكلم معهم بحرف من نداء أو مناغاة. وكانت النتيجة صاعقة لأن الأطفال ـ خلافا لما روى المؤرخ اليوناني هيرودوت ـ ليس فقط أنهم لم ينبسوا ببنت شفة؛ بل قضوا نحبهم فماتوا بالجملة، متأثرين من هذه التجربة المدمرة.
تجربة ملك اسكتلندا يعقوب الرابع (JAKOB – IX – OF SCOTLAND):
تروي المجلة الألمانية المعنونة (معجزة التطور P . M . P . DAS WUNDER DER EVOLUTION ) قصة مشابهة أخرى مثيرة قام بها ملك اسكتلندا قديما، بعد ثلاثة قرون من تجربة الملك فريدريك الثاني، حاكم صقلية، لاكتشاف جذر اللغات واللغة الأصلية، التي تحدث بها الإنسان، تحت وهم أن نطق الإنسان كان بالأصل موحدا، وأن اللغة في حالة كم ثابت غير متطور. ويزعم مراقبو التجربة أنهم، أي الأطفال، تكلموا في خاتمة المطاف اللغة العبرية، ولا غرابة لأن أهل كل ثقافة يعتبرون لغتهم هي سرة العالم وأصل اللغات وسر الكون وأنهم أفضل ما خلق الله، ولكن تجربة الصبي (فيكتور) التي برزت إلى السطح في نهاية القرن التاسع عشر هزت الأوساط العلمية، ونحن نعرف اليوم طائفة من الحقائق المزلزلة حول المشكلة الألسنية أشهرها قصة الصبي فيكتور والدكتور إيتار، ومنها عرفنا أننا كائنات اجتماعية، وأنه بدون المجتمع يأتي الإنسان إلى هذا العالم بدون قوة جسدية، وأن العزلة الاجتماعية في السنوات الأولى من العمر تركت عنده مصيبة لم يعد بالإمكان إصلاحها قط، فكتب يقول: «وبدون أفكار تولد معه، وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الأساسية التي ترفعه إلى قمة المملكة الحيوانية، ولا يستطيع الوصول إلى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة، إلا إذا كان في وسط مجتمع، وبدون حضارة يكون الإنسان واحدا من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاء».
نحن نعرف اليوم طائفة من الحقائق المزلزلة حول المشكلة الألسنية أشهرها قصة الصبي فيكتور والدكتور إيتار، ومنها عرفنا أننا كائنات اجتماعية، وأنه بدون المجتمع يأتي الإنسان إلى هذا العالم بدون قوة جسدية، وأن العزلة الاجتماعية في السنوات الأولى من العمر تركت عنده مصيبة