معركة التفوق الخاسرة
جهاد بريكي
قد يكون ذنب الإنسان الأكبر تقديسه لما لا يستحق التقديس، وولعه بالأشياء والرغبات لدرجة عبادتها والتيه في سبيل حيازتها. وقد صار التفوق عند الإنسان معبودا وصنما تحج نحوه الركائب. سباق محموم لامتلاك قصة نجاح هائل يحيلنا لسؤال محير، هل علة وجودنا تتجسد في امتلاك قصة نجاح مذهلة!؟ وهل يحق لنا العيش سالمين دون دليل تفوق ينبهر له السامعون ويرويه المؤرخون!؟
جل الأفلام التي سلبت عقولنا أطفالا وكبارا كانت تحكي لنا عن قصص نجاح أبطال خارقين، بأقنعة أو بدون، وأغلب القصص واسعة الانتشار كانت تروي لنا عن صراع مستمر بين البطل وأصدقائه وحماة الشر وأتباعهم. ينتهي الصراع دائما بتفوق الأبطال في القضاء على أعدائهم. وننتهي نحن بوعي زائف يصور لنا الفوز الأخير أمرا حتميا لا مفر منه.
التفوق الوظيفي والأسري والمادي والاجتماعي والديني، تماما كما يضع قوانينه المجتمع الذي نعيش فيه. والرغبة اللاذعة في خلق أسطورة كفاح مكلل بنجاح كبير لا مناص منه، ثم الخوف المرضي من الفشل في كل ذلك والإقصاء من سباق التفوق المجنون. كلها أمور أصبحت تسوق الآدميين – في أحسن الأحوال- نحو عيادات الأطباء النفسيين، وتجعل من العقاقير المنومة والمهدئة أصدقاء مخلصين لا غنى عنهم. كآبة الكائن البشري وقلقه الدائم وتوتره المنفلت بسبب تصديقه لنبوءة البطل المتفوق في آخر القصة أوصلته لحافة الجنون، حاملا بين يديه روحا ترتجف وعقلا مهتزا يحاول تطبيق الخطة، وتنفيذ المشروع. مشروع النجاح المرضي الذي لا يوجد سوى في روايات مستهلكة وأفلام تجارية تحاول خلق نموذج مشوه لإنسان استثنائي ينتهي دائما بامتلاك ما يريد وبحصد الإعجاب والتقدير وبامتلاك قصة نجاح براق تستحق أن تروى في المحافل وتنقش على الصخور.
لقد عشقنا دوستويفسكي لأنه جعل من شخصيات عادية جدا تشبهنا أبطالا لرواياته، ولأن نهايتهم كانت تشبه نهايتنا، ولأننا لا نحلم بنسخة متفوقة لا تشبهنا بينما نحن غارقون بين سطوره. ولأنه جعل كل قصة تستحق أن تروى، كيفما كانت نهايتها بغض النظر إن توافقت أو اختلفت مع توقعات المجتمع ومتطلباته. تنزيله للواقع الإنساني وعقده وضعفه بعيدا عن أحلام التفوق وهلوسات النجاح الحتمي هو الذي جعل من كتاباته نوافذ نطل بها على دواخلنا فنعرفها وتعرفنا.
يعرف مسار الإنسان نجاحات مقتضبة، من حين لآخر، تستمر لوقت وتنتهي. ثم تتوالى عليه لحظات ضعف وفشل وعجز وأيام رضى وسكينة وسنوات كفاح لا نتيجة من ورائه وغير ذلك من انتكاسات وخيبات تليها فترات سكون وسلام. تتعاقب كل تلك الفصول لتشكل قصصا خاصة تنتهي نهايات خاصة لا تشبه كل تلك الفقاعات الهوائية التي اعتاد البشر الركض وراءها ولا كل تلك الأحلام التجارية التي انتظر تحقيقها، حلم الكائن المتفوق الذي يصعد درج حياته بتصميم ليبلغ القمة في آخرها متوجا بالبطولة.
ماذا يمكن أن يقع لو أنك لا تملك قصة تفوق تثير اللعاب وتسلب العقول!؟ لا شيء. قد يمنحك الأمر سعادة مارقة تختفي بمجرد ما أن تنهي رواية قصتك، وقد يسمح ذلك بالتفاف المهووسين بالقصص الخارقة حولك تروي جوعهم لأساطير البطولة الخرافية. غير أن الأمر لن ينتهي هنا، فنجاح اليوم هو مجرد ذكرى في الغد. قد تنساه ولا تكاد تذكر منه سوى التصفيق. ثم تبدأ صراعك المحموم بحثا عن قصة أخرى تبهر بها الجماهير تأكل من سكينتك وتقتات على روحك. تنبري في وجه بشريتك تحملها ما لا تطيق وتنتهي داخل غرفة نومك تحيط بك أقراص طبيب نفسي أنهكه علاجك.
شخصيا لا أعتقد أن هناك عيبا في أن نكون بشرا عاديين، لا أبطالا متفوقين يشار لنا بالبنان، ولا أظن أن مهمتنا الأساسية كانت امتلاك قصة خارقة نتباهى بها بين المُغيبين ونورثها لأحفادنا كسبب مقنع لنيل احترامهم. ولا أعتقد أن الهروب من ضعفنا وفشلنا وعجزنا وسقوطنا البشري وعقدنا المتوارثة هو ما سيجعل منا كائنات جديرة بالتقدير، على العكس تماما التعرف على المتناقض والمتنافر فينا، محاولة فهمه وتقبله واستيعابه هو ما يمكن أن يفتح لنا نفقا داخل هذه المتاهة.