معركة التحضير لـ«إكس ليبان» بعيون «CIA»
الأمريكيون والخوف من صداقات الوطنيين مع الشرق
يونس جنوحي:
في أواخر شهر يونيو، وعز صيف يوليوز من سنة 1955، كان المغرب يمر حرفيا من عنق الزجاجة، فالوضع السياسي ميؤوس منه تماما.
«بن عرفة لن يصمد طويلا»، جملة كانت تتردد في كل صالونات الرباط وطنجة الدولية. الأمريكيون يجسون النبض في كل مكان من خلال عيون عملائهم الموزعين على شكل رجال أعمال وموظفين دبلوماسيين وحتى صحافيين. كل هؤلاء كانوا يجمعون معطيات بخصوص السياسيين المغاربة، ومدى استعدادهم لوضع تصور لمغرب آخر بدون «بن عرفة»، في حال لفظته السياسة على قارعة الطريق في أية لحظة.
لماذا كل هذا الاهتمام الأمريكي بما كان يقع في المغرب منتصف الخمسينيات؟ السبب أن الخارجية الأمريكية توصلت بتقارير متطابقة مفادها أن هناك مساع من الشرق للتحكم في المقاومة المغربية، وهو ما قد يؤدي إلى تغير سياسي في المغرب في حال تقوى التيار القومي. وكانت أمريكا وقتها في عز الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، الحليف الكبير للقوميين المغاربة في العراق وسوريا ومصر.
لذلك لم يكن الأمريكيون يريدون أن يسبقهم المد الشرقي إلى المغرب، وقرروا أن يتابعوا كل ما يحدث أولا بأول.
وهكذا، تابع الأمريكيون محادثات «إكس ليبان» وتنفسوا الصعداء عندما أدركوا أن الأزمة المغربية لن تُحل إلا بأيدي المغاربة.
فرنسا لم تكن تريد الجلوس مع الوطنيين المغاربة نهائيا
هناك دائما تيار داخل الحركة الوطنية المغربية، سعى جاهدا إلى وضع ما عرف بـ«محادثات إكس ليبان» في حجمها الطبيعي. إذ كانت هناك مساع، بعد الاستقلال، إلى تصوير تلك المحطة التي امتدت ما بين 20 و30 غشت 1955، على أنها حدث مفصلي مهد لعودة الملك الراحل من المنفى.
بينما تمسك الوطنيون، وقدماء المقاومة على الخصوص، بحقيقة تاريخية مفادها أن أحداث 2 أكتوبر 1955، هي التي كانت السبب الحقيقي لجعل فرنسا تتراجع عن مواقفها ضد المغرب وتصحح الغلط التاريخي الذي ارتكبته عند نفي الملك الراحل محمد الخامس في 20 غشت 1953، إلى كورسيكا أولا، ثم إلى مدغشقر.
أحداث الثاني من أكتوبر، والتي وصفتها الصحافة الفرنسية في المغرب بـ«الدموية»، شكلت ردا من المقاومة المغربية على السياسة الفرنسية في المغرب.
كيف تم إذن الإعداد لمحادثات «إكس ليبان»؟ وهل كانت محادثات أو مفاوضات؟
بدأ الإعداد لهذه الجلسات التي تمت في منطقة «رون – الألب» الفرنسية، منذ بداية شهر يونيو. وحسب تقارير من أرشيف الاستخبارات المركزية الأمريكية، والتي كانت تعتمد على عملاء أمريكيين في المغرب، بالإضافة إلى تقارير«SDEC» الفرنسية، فإن الخارجية الفرنسية من خلال تنسيقها مع الإقامة العامة في الرباط، لم ترتح أبدا لفكرة الجلوس مع الوطنيين إلى طاولة واحدة.
كانت الإقامة العامة تستند على صف طويل من الأعيان والقواد، بزعامة التهامي الگلاوي، وبعض القواد، وعلماء الدين أيضا، والذين وردت أسماؤهم جميعا لاحقا في لائحة الخونة بعد الاستقلال.
هذه اللائحة من الأعيان الذين توزع انتماؤهم بين المناصب المخزنية والمراكز الاجتماعية بفضل الثراء والجاه، هم الذين كانوا في صف فرنسا ونصحوا المقيم العام ألا يجلس مع الوطنيين، خصوصا المستقلين وأعضاء حزب الاستقلال، وأكدوا للأمنيين أن زعماء الحركة الوطنية على اتصال وثيق بالمقاومين الذين يحملون السلاح في وجه فرنسا وينفذون العمليات.
وهكذا فقد كان إقناع الطرفين، الحكوميين الفرنسيين والسياسيين المغاربة، بالجلوس إلى طاولة واحدة ضربا من المستحيل. ولهذا السبب، عندما تم اللقاء، بعد إلحاح من أطراف مغربية، بحكم أن أزمة العرش اشتدت أكثر من أي وقت مضى، لم يتم بالصورة التي كان يتصورها الوطنيون المغاربة.
تقول وثائق الاستخبارات الأمريكية إن أزمة العرش، وفشل الإقامة العامة الفرنسية في فرض «بن عرفة» لمدة أطول سلطانا للمغرب، السبب الحقيقي وراء قبول إدغار فور، وزير الخارجية الفرنسي، بفكرة رفع مقترح اللقاء إلى القصر الجمهوري.
وحتى موافقة الفرنسيين كانت ملغومة، وتمسكوا بفكرة عقد اللقاء في فرنسا وليس في المغرب، وهي خطوة كانت لها رمزية كبيرة لدى الفرنسيين، حتى لا يظهر القصر الجمهوري في صورة المنهزم إعلاميا أمام الحركة الوطنية المغربية.
وحسب التقرير دائما، فإن تيارا مؤثرا داخل الحكومة الفرنسية كان يرفض بالمطلق الجلوس مع الوطنيين المغاربة. وإذا تأملنا لائحة وزراء فرنسا وقتها، لاكتشفنا سريعا أن جلهم أصدقاء للباشا الكلاوي وبادلوه الزيارات، أو أنه زارهم بنفسه في زيارته إلى فرنسا بعد نفي محمد الخامس.
إذ إن الكلاوي عندما زار فرنسا في خمسينيات القرن الماضي، استقبله أغلب وزراء الجمهورية، علما أن السلطان الذي وضعته فرنسا، بن عرفة، كان جالسا في الرباط، لا علم له بالكواليس التي تجري في باريس.
الكلاوي، حسب تقارير الاستخبارات الأمريكية، التي تعود إلى فترة يناير إلى حدود غشت 1955، كان هو مهندس تمسك فرنسا بموقفها الرافض للجلوس مع الوطنيين المغاربة، إذ كان يؤكد لوزير الخارجية دائما أن أعضاء الحركة الوطنية يدعمون الكفاح المسلح ضد الحماية الفرنسية، ولديهم علاقات مع المقاومة في الجزائر واتصالات واسعة في مصر لتسليح المزيد من خلايا المقاومة. وما كان يعزز هذا الطرح، علم الفرنسيين بتحركات أمثال علال الفاسي، الذي كان يقيم في القاهرة، والدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي كان يسافر بين مدريد والقاهرة باستمرار.
وهكذا كان تيار المهدي بن بركة، صديق عدد من السياسيين الفرنسيين، خصوصا في التيار الاشتراكي، هو التيار الوحيد الذي أبدى مرونة في التعامل سياسيا مع فرنسا، لكن مباراة «إكس ليبان» لم يلعبها بالطريقة التي كان يخطط بها لخوض المعارك السياسية، سيما خارج المغرب.
من هندس لإقناع وزير خارجية فرنسا بالجلوس إلى الطاولة؟
فكرة أن تجلس الحكومة الفرنسية مع سياسيين مغاربة في غشت 1955، كانت فعلا خطوة جريئة، سواء في فرنسا أو المغرب.
إذ إن الفرنسيين الذين فقدوا أفرادا من عائلاتهم في العمليات التي شنتها المقاومة، كانوا متيقنين أن للسياسيين يدا في ما يحدث بيد المقاومة المسلحة.
وفي الرباط كما في باريس، كان هناك إدراك بأن الأجواء محتقنة أكثر من أي وقت آخر في السابق، خصوصا وأن أزمة العرش كانت قد ألقت بظلالها على المغرب.
وحسب معطيات من أرشيف الشرطة الفرنسية في الدار البيضاء، والتي كانت تابعة لإدارة المقيم العام وتوجيهاته، بتنسيق مع وزير الخارجية، فقد نُشر في ذلك الوقت
مقال في صحيفة «لو باريزيان»، كان عبارة عن تحليل يدعم توجه رئيس الوزراء الفرنسي في البحث عن حل للأزمة المغربية. وانتقد المقال عدم تعاطي الأمن مع الملف المغربي بالصرامة اللازمة، دون أن يُخفي ترحيبه بالانفراج الذي عرفه الملف المغربي بعد شهر غشت.. سياسيا على الأقل.
كانت فرنسا، بعد كل هذا، تخطط لكي تمتص غضب الشارع المغربي، من خلال فتح باب الحوار مع السياسيين على الأقل، والتلويح باقتراب عودة الملك محمد الخامس إلى العرش. فقد كانت الترتيبات للسماح له بمغادرة منفاه الأول، والتحول إلى فرنسا، بل والسماح لبعض رموز الحركة الوطنية بلقائه، أول مؤشر على قرب انفراج في الأوضاع.
أما على الأرض، فقد كانت كل المؤشرات توحي بأن الأوضاع لن تزداد إلا تأزما، وهذا ما وقع بالضبط، حيث إن الأحداث الدموية استمرت حتى الساعات الأخيرة للإعلان الرسمي عن عودة الملك محمد الخامس من المنفى. وبعد ذلك جاء دور أحداث أخرى، كان عنوانها الانتقام من «أعوان الاستعمار».
في الرباط، كانت البقية الباقية من أعضاء التنظيمات السرية الذين لم يطلهم الاعتقال بعد يتربصون بمواطن فرنسي يملك متجرا لبيع الأحذية الفخمة في مركز المدينة. كان هذا الفرنسي قد حشر أنفه في السياسة، عندما اختار أن يلصق أوراق جريدة فرنسية تحمل صور مواطنين مغاربة قدمتهم الجريدة على أنهم مجرمون خطيرون يجب اعتقالهم، ويطالب المقال أسفل الصور بالاتصال بالبوليس فور رؤية أحد هؤلاء المشتبه فيهم. كانت هذه الصفحة المعلقة في واجهة المحل كافية، لجعله الضحية التالية لأعضاء التنظيم السري الذي نفذ العملية. فقد أضرمت النار في المحل، ودمرت كل محتوياته وسجل الهجوم في الأخير ضد مجهولين.
هذا المثال، وغيره من أمثلة على الأحداث الدموية التي عاشها المغرب، سواء قبل «إكس ليبان» أو بعدها، أكبر دليل على أن المحادثات لم تثمر سياسيا عن أي حل للأزمة المغربية، رغم محاولات بعض الأطراف أن تجعل منها محطة سياسية أفضت إلى عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى.
أجانب جمعوا معلومات عن سياسيين مغاربة قبيل المحادثات
ما بين شهري يوليوز وغشت 1955، كان يعيش في مدينة الرباط رجل أمريكي اسمه السيد «كلارك».
هذا الرجل كان يقدم نفسه في بعض أوساط مدينة الرباط، على أساس أنه رجل أعمال أمريكي ينوي الاستثمار في قطاع بيع السيارات بالمغرب. وكان قد ربط صداقات مهمة مع شخصيات من الرباط مثل محمد التازي، والباشا برگاش، بالإضافة إلى علاقات مع أثرياء فرنسيين في الرباط.
استطاع «كلارك» أن يقنع هؤلاء وغيرهم، في فترة وجيزة، باقتناء سيارات من الوكالة التي كان يفتحها في قلب العاصمة الرباط.
كانت أنشطة السيد «كلارك» لا توحي أبدا بأن لديه اهتمامات سياسية، إلى أن رصدت تقارير المفوضية الأمريكية في طنجة والتي كانت في قمة نشاطها، ما بين شهري أبريل وأواخر يوليوز، تحركات في صفوف أعضاء الحركة الوطنية في الرباط للترتيب لاجتماع مع مسؤولين فرنسيين.
لم يكن وقتها قد اتضحت بعدُ، مشاركة وزير الخارجية الفرنسي في تلك المحادثات. وكل ما وصل إلى أسماع الأمريكيين، أن أعضاء من الحركة الوطنية المغربية سوف يلتقون بمسؤولين فرنسيين من أعلى مستوى، لبحث المشكلة المغربية.
كان الأمريكيون يُدركون أن بن عرفة، السلطان الجديد الذي نُصب في المغرب بعد نفي السلطان محمد بن يوسف يوم 20 غشت 1953، لم يكن يحظى بأي شعبية، وأن تنحيته ليست إلا مسألة وقت فقط. لذلك كانوا مهتمين بمعرفة مواقف الحركة الوطنية، سيما وأن أغلب أفرادها كانوا على علاقة بخلايا المقاومة المسلحة وأعضاء الجماعات السرية.
كان السيد كلارك يسعى إلى معرفة المزيد من المعلومات بهذا الخصوص، لذلك كثف من لقاءاته مع أعيان الرباط، ومع مسؤولين فرنسيين للوقوف على خفايا الترتيب للقاء المفترض، والذي سوف يُصبح لاحقا، معروفا باسم «محادثات إكس ليبان».
اتضح لاحقا، من خلال أرشيف وثائق الخارجية الأمريكية، أن السيد كلارك لم يكن الوحيد الذي اعتمد عليه الأمريكيون في كتابة تقاريرهم التي رصدت الترتيب لهذه المحادثات، بل كان هناك عملاء آخرون ينشطون ما بين الرباط وطنجة ومراكش، لمعرفة المرشحين للتفاوض مع فرنسا.
هاجس الأمريكيين وقتها، كما كشفت ذلك تقارير الأرشيف، أن يشارك الشيوعيون المغاربة الذين كانوا ينشطون في الحركة العمالية في تلك المحادثات.
إذ إن الخصم الأول للأمريكيين في سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، كان الشيوعيين والمد الاشتراكي.
هذه المعلومات كشفها مصدر استخباراتي مهم عنوانه «التاريخ المنسي لـCIA»، حيث تناول هذا التوثيق التاريخي للاستخبارات الأمريكية مجموعة من الوثائق السرية، والتي كانت عبارة عن مراسلات بين ضباط هذا الجهاز وبعض المخبرين الأمريكيين الذين كانوا يعملون لصالحه، وأيضا عملاء ميدانيين كانوا متنكرين على هيئة رجال أعمال وسياح مستقرين في المغرب.
من الأمور اللافتة التي تناولتها الوثائق، ما وقع في الدار البيضاء في ذلك الوقت. إذ كانت المدينة موقعا مفضلا لجواسيس مختلف الأجهزة السرية حول العالم، وكانت تغص بالعملاء السريين الذين رصدوا تحركات أعضاء الحركة الوطنية وعلاقاتهم خلال الفترة التي كان فيها يتم الإعداد لاجتماع بين سياسيين مغاربة وأعضاء من الحكومة الفرنسية. ولم يكن وقتها أي حديث عن منطقة «إكس ليبان».
وسبب هذا الاهتمام، التخوف الأجنبي من أن تتحول المحادثات مع الفرنسيين إلى مفاوضات تحظى بالشرعية، بحكم مشاركة وطنيين يمثلون الأحزاب الوطنية، وبينهم أشخاص لديهم اتصال وثيق بأعضاء المقاومة المسلحة.
بوطالب تخوف من الإقصاء وفوجئ بوجود الگلاوي
أياما قبل موعد السفر إلى منطقة «إكس ليبان»، المكان المفضل لعدد من السياسيين الفرنسيين لكي يقضوا عطلتهم السنوية، كان عبد الهادي بوطالب متخوفا من إقصاء أعضاء حزب الشورى من المشاركة، بسبب المنافسة الشديدة لأعضاء حزب الاستقلال بزعامة المهدي بن بركة.
عبد الهادي بوطالب، حسب ما تناولته التقارير الأمريكية، كان متخوفا من أن تجري كواليس في الخفاء وتحول دون أن يعرف أعضاء الحزب الذي ينتمي إليه تفاصيل اختيار اللائحة النهائية للمشاركين.
تخوف بوطالب لم يكن في محله، إذ ما وقع أن الخارجية الفرنسية حرصت أن تكون جل التمثيليات المغربية حاضرة من خلال أعضاء يمثلونها، لإضفاء مزيد من الشرعية على تلك المحادثات.
لكنه كان مشروعا، ما دام حزب الشورى قد تجرع مرارة الإقصاء في يناير سنة 1944، من التوقيع على لائحة المطالبة بالاستقلال والتي رفعها الوطنيون المغاربة من حزب الاستقلال إلى الإقامة العامة الفرنسية. ولولا تدخل الملك الراحل محمد الخامس شخصيا لكي يعطي لأعضاء حزب الشورى وبعض الوطنيين الآخرين، غير المنتمين، فرصة التوقيع على لائحة إضافية بعد ثلاثة أيام، لأقصي الكثيرون من المشاركة في تلك المحطة التاريخية الهامة.
بخصوص الإعداد لمحادثات «إكس ليبان»، فإن عبد الهادي بوطالب كان المنسق الرئيسي إلى جانب محمد بن الحسن الوزاني، والذي وصفه الأمريكيون بأنه العقل المدبر لأول مبادرة لـ«تدويل» القضية المغربية وإيصالها إلى المنتظم الدولي.
الأمريكيون أنفسهم اهتموا بشخصية محمد بن الحسن الوزاني، وكانوا متخوفين من علاقته الوطيدة مع شخصيات إسبانية وعربية، خصوصا عندما حصلت الخارجية الأمريكية على وثائق من الفرنسيين، تفيد بأن محمد بن الحسن الوزاني لديه صداقات وطيدة في القاهرة مع وزير الخارجية المصري ورئيس الوزراء، باعتبارهما زميلين سابقين له في الدراسة بباريس خلال ثلاثينيات القرن الماضي.
ولهذا السبب اهتم الأمريكيون بعلاقات الوزاني مخافة أن يساهم في مد سياسي جديد في المغرب، سيما وأن واشنطن كانت تتخوف من أي تدخل لحلفاء الاتحاد السوفياتي في المنطقة المغاربية.
بالعودة إلى عبد الهادي بوطالب، والذي لم يكن الأمريكيون يعرفونه جيدا في ذلك الوقت، فقد كانت المعلومات التي يتوفرون عليها، أنه يمثل التيار المثقف في حزب الوزاني، وأحد أعمدة الحزب في صياغة البلاغات وتنظيم التجمعات الخطابية.
لذلك كانت مشاركته في المحادثات مهمة جدا، بحكم أنه سوف يكون بدون شك، كما رآه الأمريكيون، مهندس موقف الشوريين في تلك الاجتماعات مع وزير الخارجية الفرنسي إدغار فور.
المثير أن عبد الهادي بوطالب حكى للمحيطين به أنه فوجئ يوم وصوله إلى «إكس ليبان»، التي لا تبعد كثيرا عن مدينة «ليون» الفرنسية والواقعة على الحدود مع سويسرا، بوجود الباشا الگلاوي. وقال إنه لم يعلم بوجود الباشا ضمن المشاركين في الوفد المغربي، إلا عندما وصل إلى المنطقة المحاذية لبحيرة هادئة.
ورغم هدوء المنطقة، إلا أن بوطالب كان من بين الوطنيين الذين أدركوا سريعا، بفضل التجربة التنظيمية والحزبية التي راكموها، أن الأمر يتعلق بفخ للوطنيين، وأن أعضاء الوفد الآخرين كانوا على اتفاق مع الحكومة الفرنسية ممثلة في وزير الخارجية، وسوف يُغرقون المحادثات بدون شك، في المسار الذي يريده لها الفرنسيون.
رأي عبد الهادي بوطالب نقله أرشيف «تيلر ريبورت» الأمريكي، والمتخصص في التوثيق للأحداث غير الأمريكية، بالاعتماد على وثائق الخارجية الأمريكية وأرشيفها. وينضاف إلى رأي عبد الهادي بوطالب، رأي عبد الرحيم بوعبيد الذي كان على قدر كبير من البلاغة هو الآخر، إذ نقل عنه الأمريكيون أنه قال بالحرف: «لقد كان علينا أن نقبل نتائج المحادثات على مضض». وهو ما يكشف أن توجس بوطالب من حضور الباشا الكلاوي، لم يكن سوى مؤشر على ما وقع في الأيام القليلة التي تلت وصول الوفد للقاء المسؤولين الفرنسيين، خلال عطلتهم قرب بحيرة «إكس ليبان».
بن بركة فشل في احتواء ممثلي المقاومة وهكذا فاوض الفرنسيين
في مقالات المهدي بن بركة، وأرشيف التجمعات الخطابية والحزبية التي عقدها نهاية الخمسينيات، قبل أن يغادر المغرب مطلع الستينيات، أدلى بمؤشرات كثيرة كشفت إلى أي حد كانت مشاركته في محادثات «إكس ليبان» انقلابا فرنسيا على عدد من الوطنيين المغاربة.
إذ إن المقولة الشهيرة للمهدي بن بركة، جاء فيها أنه فوجئ عندما كان المغاربة في قاعة الاجتماع مع وزير الخارجية الفرنسي ومرافقيه، بكون تيار الأعيان المغاربة والذين كانوا يمثلون الأغلبية، كانوا في صف فرنسا، وفرضوا هزيمة سياسية على بقية ممثلي الوفد المغربي.
لكن تقارير الخارجية الأمريكية لم تهتم بهذا الموضوع، بل كان اهتمامها سابقا للاجتماع. إذ رصدت تقاريرها، أن المهدي بن بركة كان يكثف نشاطه ما بين شهري ماي ويوليوز 1955، للقاء أعضاء المقاومة.
وقد ثبت فعلا أن المهدي بن بركة زار منطقة الشمال، معقل جيش التحرير المغربي في المنطقة الإسبانية، وهي المنطقة التي كانت ملجأ للمقاومين الهاربين من الأحكام القضائية الفرنسية في بقية مناطق المغرب.
زيارات المهدي بن بركة كانت بهدف لقاء المقاومين، المسؤولين عن خلايا جيش التحرير، لإقناعهم بإيقاف كل العمليات التي تستهدف الفرنسيين.
كان المهدي بن بركة وقتها يُمهد لإقناع الفرنسيين بتوفير شروط تضمن انتصارا سياسيا على الأقل، للوفد المغربي عند المشاركة في محادثات مع وزير الخارجية الفرنسي.
ورغم أن بن بركة وقتها لم يكن يعلم أي تفاصيل عن اختيار «إكس ليبان»، المنتجع الصيفي المفضل للوزراء الفرنسيين، ولا عن حضور الأعيان المغاربة، إلا أنه كان يسعى إلى إثبات أنه قادر على التحكم في الحقل السياسي المغربي، وأنه قادر على تقديم ضمانات لفرنسا لبحث حل سياسي للأزمة المغربية.
لكن المهمة كانت أصعب مما تخيل بن بركة، إذ إن أغلب أعضاء المقاومة المسلحة لم يكونوا مستعدين أبدا لوضع السلاح ووقف عمليات المقاومة في صيف سنة 1955، خصوصا مع اقتراب الذكرى السنوية الثانية لنفي الملك الراحل محمد الخامس إلى كورسيكا ومنها إلى مدغشقر.
إذ إن تاريخ 20 يوليوز، كان موعدا سنويا للمرة الثانية، يتكبد فيه البوليس الفرنسي خسائر فادحة، وتُنفذ فيه عمليات سرية تستهدف فرنسا ومصالحها ورعاياها في المغرب.
وهكذا فإن مهمة المهدي بن بركة كانت شبه مستحيلة، رغم أن الفرنسيين والأمريكيين كانوا يُدركون جيدا علاقات المهدي بن بركة مع الجناح المسلح للمقاومة، والذي كان فيه منخرطون بالآلاف، في حزب الاستقلال.
لكن رغم الانتماء السياسي لهؤلاء المقاومين المحسوبين على الجناح المسلح للمقاومة المغربية، إلا أن المهدي بن بركة لم ينجح في إقناعهم بالوقف التام للعمليات إلى أن يتفق الوطنيون مع الخارجية الفرنسية على تفاصيل الاجتماع.
وهكذا، فالتوقع الذي كان يرمي إلى أن «مفاوضات» وشيكة سوف تقام مع فرنسا لبحث مستقبل المغرب في ظل أزمة العرش، اصطدم بالجدار. وكان أول مؤشر على ذلك، رفض الفرنسيين تسميتها «مفاوضات» وإنما «محادثات» فرنسية مغربية.
أول دخول سياسي بعد المحادثات كان فرصة لانتقام المقاومين
تابع المغاربة باهتمام تقارير الراديو التي تناولت تفاصيل الاجتماعات ويوميات الوفد المغربي المشارك، أولا بأول. وطالعوا في الجرائد صور الوفد المغربي، وبينهم من كانوا يُعتبرون في الشارع المغربي «خونة» وأعوانا لفرنسا، ومنهم موقعون على وثيقة المطالبة بنفي الملك الراحل محمد الخامس في غشت 1953.
وحسب ما جاء في أرشيف تقارير البوليس الفرنسي في الدار البيضاء، لفترة شتنبر 1955، أي بعد شهر واحد فقط على محادثات «إكس ليبان»، فإن أعمال عنف اندلعت في المغرب كاملا، للرد على ما حدث في الحدود الفرنسية السويسرية، من تحكم في مستقبل المغرب السياسي واستمرار للحماية الفرنسية.
كانت فرنسا تُعد لسنة دراسية عادية في المغرب، وتراقب ما إن كان المُدرسون الفرنسيون الذين قضوا عطلتهم الصيفية في فرنسا، سيتعرضون لأي نوع من المضايقات، سيما وأن رواد الحركة الوطنية كانوا يطالبون بعدم المساس بالهوية المغربية في المقررات الدراسية الفرنسية. كان الأمر شبه روتيني يتكرر كل شتنبر، منذ أن أصبح المغاربة يلجون إلى المدارس النظامية. لكن المختلف في سنة 1955، أنها كانت آخر موسم دراسي ترعاه فرنسا في المغرب، وكانت الإقامة العامة الفرنسية تدرك أن استمرار الحماية الفرنسية أصبح أمرا غير ممكنا، بالرجوع إلى ظروف الحكم، وضرورة عودة الملك محمد الخامس إلى المغرب، في ظل الضغط الدولي الذي أصبحت فرنسا تتعرض له في هذا السياق.
ورغم ذلك، فقد حاول الأمن الفرنسي تخصيص دوريات لتفقد أجواء المدارس قبيل يوم الدخول المدرسي، خلال الأسبوع الأول من شتنبر.
وحدثت مناوشات بين أساتذة فرنسيين وتلاميذ سابقين، انقطعوا عن الدراسة بسبب اختلافهم مع الأفكار الاستعمارية لبعض الأساتذة، وقرروا استغلال بداية الموسم الدراسي للانتقام بطريقتهم.
في الدار البيضاء، تعرض أستاذ فرنسي لمادة التاريخ لإصابة عنيفة على مستوى الرأس ألزمته الفراش لأسابيع، بعد أن نجا من موت محقق. تلقى ضربة بأداة حديدية على مستوى الرأس تسببت له في ارتجاج قوي أفقده الوعي، وكاد الأمر أن يتحول إلى نزيف داخلي على مستوى الدماغ، لولا أن الطبيب تدخل في الوقت المناسب لإنقاذه.
وسُجل تعاطف كبير مع التلميذ من خلال منشورات نُسبت إلى المقاومة، وكتابات على سور المدرسة التي كان يشتغل بها الأستاذ المصاب، منشورات تدعو إلى ضرورة رحيل فرنسا نهائيا عن المغرب.
برز تيار وطني بعد «إكس ليبان»، يعتبر أن جلوس بعض العينات السياسية والأعيان مع السلطة الفرنسية إلى طاولة واحدة، يبقى «خيانة» للمغرب. وهكذا قرروا الرد بطريقتهم على فرنسا، وجرت خطة واسعة لشن ضربات متلاحقة تقرر أن تستهدف ميناء الدار البيضاء وفيلات يقطنها ملحقون عسكريون فرنسيون في المغرب، اشتهروا بتورطهم في مقتل آلاف المواطنين المغاربة من الأربعينيات، في إطار العمليات العسكرية في منطقة الأطلس.
فشلت الخطة بعد أن ألقي القبض على بعض المنخرطين في العملية، وتم اعتقالهم في نقطة تفتيش طرقية من طرف رجال الدرك الفرنسي بعد أن اشتبهوا في حمولة شاحنة صغيرة، ليطلبوا من السائق فتح الغطاء بالقوة. وعندما رفض الامتثال للأمر، تحولت النقطة الأمنية للدرك إلى مسرح معركة صغيرة بين السائق وثلاثة مرافقين له، وخمسة من رجال الدرك، وتم اعتقال المقاومين الأربعة وفتشت العربة، ليجد الدركيون أنها محملة ببعض قطع السلاح ومواد متفجرة. واعترفوا تحت التعذيب في مخفر الدرك بالوجهة التي كانوا ينقلون إليها الحمولة، وهكذا تم اعتقال بعض أصدقائهم أيضا.
ومع بداية شهر شتنبر، كان مخططا أن تتم محاكمتهم بتهمة الإعداد لعملية «إرهابية» خطيرة. كل هذا وهم يؤكدون موقفهم العدائي من الوجود الفرنسي في المغرب، ويعيدون في المحضر جملة «محاربة فرنسا» حتى الرمق الأخير.
لم يتم تسليط الضوء كثيرا على محاكمة هذه المجموعة في شهر شتنبر. وللأسف، لم تتوفر لنا بقية المحاضر المرتبطة بهذا الموضوع، لكن الأرجح أن البت في القضية انتهى بإصدار الأحكام. وقد يكون هؤلاء الشبان قد حُكِمَ عليهم بمدة سجن طويلة انتهت بمجرد الإعلان عن استقلال المغرب، شأنهم شأن مئات المواطنين المغاربة الذين أطلق سراحهم فور الاستقلال، بعد أن كانوا يعتقدون أنهم سوف يشيخون في السجن العسكري بمدينة القنيطرة، حيث كان جل الذين لم يتم تنفيذ الإعدام في حقهم، ينتظرون أن يتحقق حلم «استقلال» المغرب ليستعيدوا حريتهم.