شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

معاً في الأدب والحياة

إعداد وتقديم: سعيد الباز

موضوع الحبّ ليس فقط شائكا ومعقدا، وإن كان شأنا أدبيا خالصا، فإنّ الأديبات والأدباء كثيرا ما يكونون هم أيضا موضوعا له فتصبح له امتدادات تصل بين الأدب والحياة. وباعتباره علاقة إنسانية فهي بالضرورة تختلف من حالة إلى أخرى بحسب سياقها الخاص والظروف المحيطة بها، إضافة إلى العوامل الذاتية المحضة التي كثيرا ما تكون الأكثر تأثيرا في توجهاتها ومصائرها. هذه العلاقة، التي تفضي إلى الارتباط وتأسيس وجودها الاجتماعي، قد تصادف النجاح أحيانا والفشل أحيانا أخرى أو تتخذ لنفسها مسارا خاصا يختلف من تجربة إلى أخرى. فالعلاقة بين الكاتبين فيليب سوليرز وجوليا كريستيفا تتأسس على بعد عقلاني ومفكّر فيه، والشاعرين سيلفيا بلاث تيد هيوز ارتباط مدمّر وصنو للموت، أما ما بين الشاعرين محمد الماغوط وسنية صالح فكانت سيرة ألم مشبعة بالحزن والمرارة، فيما ظلت العلاقة بين جبران خليل جبران ومي زيادة حبيسة الرسائل ولم يكتب لها أن ترى النور. أما علاقة الكاتبة ليليا بريك والشاعر فلاديمير ماياكوفسكي فشابها اضطراب عاصف انتهى بشكل تراجيدي، في حين عاش الشاعر مريد البرغوثي والكاتبة رضوى عاشور أغرب قصة زوجين تعرضا قسرا للإبعاد والفصل بينهما. وكانت علاقة سيمون دو بوفوار وسارتر على الطريقة الوجودية. وأخيرا بين أدونيس وخالدة سعيد كانت العلاقة قرانا بين الشعر والنقد.

جوليا كريستيفا.. الزواج بوصفه أحد الفنون الجميلة

جاءت جوليا كريستيفا Julia Kristeva البلغارية الأصل إلى فرنسا من أجل كتابة أطروحتها حول الرواية الجديدة، قابلت فيليب سوليرز Philippe Sollers في مكتب المجلة الشهيرة (تل كيل) التي كان يقود فريقها. أتت إليه لتطرح عليه أسئلة بخصوص السوريالية وغيرها. كانت في الخامسة والعشرين من عمرها، بينما كان هو في الثلاثين من عمره.

اندهش سوليرز لسعة ثقافة كريستيفا، فيما وقعت هي الأخرى تحت تأثير سحر شخصية سوليرز. ومنذ تلك اللحظة رسما معا مسارا حياتيا وأدبيا وفكريا مهما. المميّز في علاقتهما أنّ الزواج كان موضوعا للتأمّل والتفكير نتج عنه كتابهما المشترك (الزواج بوصفه أحد الفنون الجميلة) بسطا فيه تصورهما لمؤسسة الزواج وخصوصية علاقتهما على المستوى الفكري والعاطفي. لقد كان لقاء جوليا كرستيفا وفيليب سولرز غير عادي، لم يثمر فقط ارتباطا عاطفيا انتهى إلى زواج بينهما. لكنّه كان نقطة بداية لجيل جديد من النقاد الفرنسيين بوجوه جديدة ورؤى نقدية مختلفة أحدث تأثيرا واسعا على المشهد النقدي في فرنسا والكثير من البلدان في العالم.

تحكي جوليا كريستيفا عن لقائهما الأول: «وصلت من بلغاريا إلى فرنسا عشية عيد الميلاد من سنة 1965 لم أكن أعرف على الإطلاق فيليب سوليرز، رأيت صورته في مجلة شيوعية. تحدث في مقابلة له عن كيفية تغيير المجتمع عن طريق اللغة. هذه الأفكار كانت مألوفة لديّ، فقد تمّ تطويرها من قبل المستقبليين الروس، ثم من قبل السورياليين. تحدثت عن ذلك مع من حولي، فنصحني رولان بارط، الذي كنت أتابع إحدى دوراته الدراسية، بالذهاب لمقابلته. فوافق فيليب سوليرز بلطف كبير على مقابلتي. كنت أتوقع أن ألتقي بكاتب، كما سبق لي ذلك من قبل، على شاكلة «فأر مكتبة» نحيل وهشّ بقليل من التلعثم دون القدرة على الدنو من شخصه. كان أمامي شخص ذو حضور جسدي، كان يذكرني بلاعب كرة قدم! تحدثنا عن الأدب، كنت حينها قد اكتشفت النظرية الكرنفالية في الرواية للمنظر الروسي ميخائيل باختين في العشرينات من القرن الماضي، الفكرة التي أثارت انتباهه».

كان اللقاء الأول لجوليا كريستيفا بفيليب سوليرز لقاء مفعما بالكثير من الإثارة حيث كانت هي في الخامسة والعشرين من عمرها، بينما كان هو في الثلاثين من عمره. اندهش سوليرز لسعة ثقافة كريستيفا، فيما وقعت هي الأخرى تحت تأثير سحر شخصية فيليب سوليرز. ومنذ تلك اللحظة رسما معا مسارا حياتيا وأدبيا وفكريا مهما. فالزواج في تصور كريستيفا يبقى دائما متأرجحا بين جانبه العاطفي الرومانسي والجانب القانوني الذي يؤمّن العلاقة ويسعى إلى إدامتها، وبتعبيرها فبقدر ما هو قيمة من قيم الملاذ الآمن فإننا في الوقت ذاته نفقد قيما أخرى. فالزواج تجربة لكن ما تؤكد عليه جوليا كريسيفا أنّ العلاقة الزوجية التي تربطها بفيليب سوليرز ليست علاقة انصهارية، إنها كما تقول ما يشبه نوعًا من إعادة الولادة المستمرة من خلال دوزنة الرغبات والتسامي والنقاش الفكري: «قرأنا نفس الكتب ونشترك في نفس الأنشطة السياسية الفلسفية الأخلاقية، والتي غالبًا ما تختلف آراؤنا حولها. الأمر ليس سهلًا دائمًا، ولكنه ليس أبدا مملا وغالبا مضحكا. هذه الولادة الجديدة ليست ممكنة إلّا إذا استندت إلى قاعدة التواطؤ… اللحظة الأساسية في لقاء الشخصين المتفردين المتوافقين… يحافظ كلّ منهما من خلال مدة متصلة على القناعة العقلية بأنّ هذا هو المكان الذي ينبغي أن أكون فيه… إنّه تحالف وتواطؤ بين فردين وحديث متواصل حسّاس كأحد الفنون الجميلة».

سيلفيا بلاث وتيد هيوز.. الموت فنّ

يكاد يجمع الدارسون على اعتبار سيلفيا بلاث Sylvia Plath، الشاعرة والروائية الأمريكية، من أهمّ الشاعرات في القرن العشرين. لم تمتلك صوتا شعريا خاصّا بها، لكنّها إضافة لذلك صاحبة رؤية إلى العالم طافحة بالسوداوية، تقوم بعملية تشريح للألم الإنساني… لا يستطيع القارئ الفكاك من صورها الشعرية الأكثر قتامة كما هو الشأن على سبيل المثال في قصيدة «مشهد: (…بينما على غصن مرقط/ يجثم غرابان أسودان/ ويرسلان نظرة سوداء/ ينتظران هبوط الليل/ بعيون ثملة/ شاخصة نحو عابر سبيل/ يعبر وحيدا في آخر المساء). كتبت وبشكل مبكر أعمالا شعرية لفتت إليها الأنظار وكانت واثقة تماما من نبوغها الشعري حتّى إنّها كتبت إلى أمّها قائلة: «أنا كاتبة عبقرية، وأستشعر ذلك بداخلي. أكتب أفضل قصائد حياتي، وستجعل مني كاتبة مشهورة…». لكن للأسف كانت تحمل في نفسها طاقة تدميرية هائلة، دفعتها في النهاية إلى الانتحار بوضع رأسها في الفرن واستنشاق الغاز في سنّ الثلاثين بعد معاناة طويلة مع مرض الاكتئاب والفشل المريع لزواجها من الشاعر الإنجليزي تيد هيوز Ted Hughes ومعاملته السيّئة وخيانته لها طيلة فترة زواجها القصير منه. ففي يومياتها نجد أنفسنا أمام شاعرة قوية تمتلك نضجا كافيا لكتابة قصائد رائعة، تقول عن كتابة الشعر: «أريد أن أكتب لأنني أشعر بالحاجة إلى التفوق في وسيلة للتعبير وفي ترجمة الحياة. أنا لا يمكنني الاكتفاء بالعمل الهائل المتمثل في العيش البسيط. آه، لا… ينبغي عليّ أن أنظم حياتي على شكل سوناتات وأشكال شعرية أخرى والحصول على عاكس لفظي للمصباح ذي ستين واط الموجود برأسي. الحبّ وهم، لكنّي سأستسلم له بمحض إرادتي لو كان بإمكاني تصديقه». وعن رؤيتها للموت والحياة، الموضوع الأثير لديها، تقول: «الحاضر عندي هو الأبدية، والأبدية تتحرك طيلة الوقت، تذوب وتتدفق. هذه الثانية هي الحياة. وحين تمضين فهي ميتة. ولكن لا يمكننا أن نعيد البدء في كلّ ثانية جديدة. ينبغي أن ننطلق من كلّ ما هو ميت. إنّها تشبه الرمال المتحرّكة… دون أمل منذ لحظة الانطلاق. حكاية أو لوحة بإمكانهما أن تنعشا قليلا الإحساس، لكن هذا غير كافٍ، حقيقة غير كافٍ. وحده الحاضر حقيقي… قبل مائة سنة كانت تعيش فتاة صغيرة كما أعيش أنا اليوم، وهي قد ماتت. أنا الحاضر وأعرف أني سأمضي أيضا. اللحظات العظيمة والومضات الحارقة تمضي كما أتت في الرمال المتواصلة الحركة. وأنا لا أريد أن أموت». في روايتها الوحيدة «الناقوس الزجاجي» نجد أصداء روحها المعذبة وانشغالها الدائم بفكرة الموت التي تجسدت للأسف في نهايتها المروعة التي طالما راودتها في أشعارها وكتاباتها التي أتت على شكل كوابيس متلاحقة ومتتالية طيلة حياتها القصيرة: «كان صيفا غريبا وقائظا، ذلك الصيف الذي أعدموا فيه آل روزنبرغ صعقا بالكهرباء. لم أعرف ما الذي كنت أفعله في نيويورك، أشعر كالبلهاء إزاء حوادث الإعدام. ففكرة الموت صعقا بالكهرباء تثير في نفسي الغثيان، وذلك هو كلّ ما يمكن للمرء مطالعته في الصحف، عناوين رئيسية جاحظة تحدّق فيّ عند كلّ زاوية شارع، وفي مدخل كلّ مترو تفوح منه رائحة الفول السوداني العفنة. لم تكن لي علاقة بالحادث، غير أنّي لم أكفّ عن التساؤل حول احتراق المرء حتّى آخر أعصابه.

ظننت أنّ ذلك، لا ريب هو أسوأ شيء في الوجود».

محمد الماغوط وسنية صالح.. سيرة ألم

الشاعرة السورية سنية صالح (1935-1985) ليست فقط زوجة الشاعر والكاتب محمد الماغوط أحد رواد قصيدة النثر، بل هي أخت الناقدة خالدة سعيد زوجة الشاعر أدونيس. عاشت مرحلة تأسيس مجلة «شعر» وبروز الكثير من الأسماء الشعرية والنقدية التي أثرت في مسار الشعر العربي الحديث. كان لسنية صالح صوت شعري مختلف عن أقرانها من الشعراء، صوت ينصت للألم الداخلي ويعبّر بحدّة عن الجسد الأنثوي. كانت بدايتها الأولى قوية مثل إعصار بقصيدتها «جسد السماء» التي فازت بجائزة جريدة النهار البيروتية سنة1961، القصيدة التي تفوّقت على قصيدة لمنافسها محمد الماغوط في الجائزة. حيث غرابة مصيرهما أن تكون علاقتهما الأولى تبدأ من باب المنافسة والغلبة والارتباط بأكبر حركة شعرية حداثية، عبر مجلة «شعر» ومن خلال روادها يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا… لكنها بدت منذ البداية بعيدة عن صخب المرحلة مفضلة الإنصات إلى صوتها الداخلي فتقول عقب فوزها بالجائزة: «ليس لي أي طموح من أي نوع كان. أنا أعجز من أن أغير العالم أو أجمّله أو أهدمه أو أبنيه، كما يقول بعض الشعراء. أحس أنني كمن يتكلم في الحلم. ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟ وباختصار ليس لي أي طموح من أي نوع كان. فقط أسترخي وأترك زحام العالم يتدافعني كشيء صغير جدا ولا وجود له، إنما أحتفظ لنفسي بحرية الحلم والثرثرة». من ديوانها الأوّل «الزمان الضيق» (1964) إلى «حبر الإعدام» (1970) وديوانها الأخير «ذكر الورد» (1988) توالت مسيرتها الشعرية المتفردة بلغتها ومعجمها الخاص: «أيها الطائر المحلّق عبر الآفاق/ تذكَّر أن الرصاص في كل مكان/ تذكَّرني أنا المسافرة الأبدية/ طول حياتي أغدُّ السير/ وما تجاوزت حدود قبري».

تصف خالدة سعيد التجربة الشعرية لأختها: «في شعر سنية صالح عالم معطوب ورؤيا جامحة، حتى أنها قادرة في توترها على الضحك وقادرة على التشعث. في شعرها فوران سديم وأحشاء غاضبة وخيال طفولي. أقول هذا لمجرد التوكيد، مرة ثانية، على اختلاف هذا الشعر وجدته وخصوصيته دون أي استهانة بما عداه. إنها من هؤلاء الشعراء الذين الشعر عندهم كالأمومة، فعل وجود. وهي ألقت بكيانها في الشعر. كان فعلها السياسي والعاطفي وكان حربها وصراخ جسدها وروحها. كان ثأرها وخشبة الخلاص. هو شعر على حدة لا يشبه أحدا وليس منضويا في تيار. شعر لحزن مستوحش ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق المطعون المسحوق عبر التاريخ. شعر هو صيحة جسد الأنثى نبع الحياة، الجسد الذي عبر فوقه الأباطرة والبطاركة… وكل ذي سلطان. ولسجنه واستغلاله وحتى تشويهه ووصمه بالنجاسة أو الخطيئة غيّروا حكمة الطبيعة وجيّروا كلام الشرائع. هذا الشعر بقدر ما ينشد حكاية المغدورين يتقدم كصيحة للجسد الذي انتهى بين المباضع وأسرة المشافي». تحمّلت بوفاء نادر المزاج الصعب للشاعر محمد الماغوط وتقبّلت إساءاته رغم عنايتها له أيام كان مختبئا خشية الاعتقال فتمدّه بالطعام والكتب… وفي حين كانت شهرة الماغوط في ازدياد وأعماله الشعرية والمسرحية تلاقي الإقبال في العالم العربي برمّته، كان النسيان يطوي صورة سنية صالح في المشهد الثقافي والشعري رغم ما في تجربتها من أصالة وعمق قلّ وجوده عند الكثير من الشعراء. لمحمد الماغوط من سنية صالح بنتان شام وسلافة، وظلّ يعترف بفضلها عليه وأهمّيتها في حياته: «حياتي من دونها لا تساوي أكثر من علبة ثقاب». داهم مرض السرطان جسد الشاعرة سنية صالح وعانت منه مدّة طويلة قبل أن تسلم الروح في أحد مستشفيات باريس. في مرثية الماغوط لسنية صالح يختصر معاناة الشاعرة في حياتها والمرض الذي أودى بها قائلا والندم والشعور بالمرارة يعتصران قلبه: «ثلاثين سنةً، وأنت تحملينني على ظهرك كالجندي الجريح/ وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى قبرك/ أزوره متثاقلاً، وأعود متثاقلاً، لأنني لم أكن في حياتي كلّها/ وفيّاً أو مبالياً، بحب أو شرف أو بطولة.» أو يقرّ تماما بفضلها عليه: «كانت سنية أمي ومرضعتي وحبي ومرضي. وكان رأيها أساسياً في ما أكتب، فإذا كتبت أنا شيئاً وترددت هي أمامه ولو للحظة كنت أمزقه وأعيد كتابته من جديد… أمّا إذا قالت حلو، فكنت أحس باطمئنان كبير، إنها قارئتي الأولى ومعلمتي الأولى في الشعر وفي الحياة… حين كانت مريضة جلست بقربها وهي على فراش الموت أقبل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر فقالت لي عبارة لن أنساها… «أنت أنبل إنسان في العالم». على شاهدة قبرها كتبت: «هنا ترقد الشاعرة سنية صالح، آخر طفلة في العالم». لم أزر قبرها في مقبرة «الست زينب» إلا مرة واحدة، حزني عليها لا أعرضه في المقاهي والشوارع: إنه إحساس شخصي جداً ومدفون في الأعماق، دون شاهدة. سنية هي المرأة في كل ما كتبت. كانت كعروق الذهب في الأرض. كل النساء من بعدها نجوم تمرّ وتنطفئ وهي وحدها وحدها السماء».هي بدورها، في أحاديث صحفية، تصف علاقتها الصعبة بمحمد الماغوط بمزاجه المتقلب وفوضويته خاصة أيام عيشه في غرفة صغيرة هربا من الملاحقات والتعرض للاعتقال مرة أخرى في سوريا: «كان يرتعد هلعاً إثر كل انقلاب مر على الوطن، وفي أحدها خرجت أبحث عنه، كان في ضائقة قد تجرّه إلى السجن أو ما هو أمرّ منه، وساعدني انتقاله إلى غرفة جديدة في إخفائه عن الأنظار، غرفة صغيرة ذات سقف واطيء حشرت حشراً في أحد المباني بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن. سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهراً عدة بدت الأيام الأولى كاللعبة البطولية لنا نحن الاثنين. ولكن لما شحب لونه ومال إلى الاصفرار المرضي، وبدأ مزاجه يحتدّ بدت لي خطورة اللعبة، كنت أنقل له الطعام والصحف والزهور خفية. كان يقرأ مدفوعاً برغبة جنونية، وكنت أركض في البرد القارس والشمس المحرقة لأشبع له هذه الرغبة، فلا ألبث أن أرى أكثر الكتب أهمية وأغلاها ثمناً ممزقة أو مبعثرة فوق الأرض، مبقعة بالقهوة، حيث ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف. كان يشعل نيرانه الخاصة في روائع أدبية بينما كانت الهتافات في الخارج تأخذ من بعيد شكلاً معاديا». أخيرا، في أحد حواراته النادرة، يكشف الشاعر أدونيس خلافه الأدبي والعائلي مع صهره محمد الماغوط: «كانت بيننا مسألة تتعلق بزوجته الشاعرة الآسرة، سنية صالح، أخت خالدة. ساءت العلاقة معه منذ أن أخذ يعاملها بطريقة وحشية كانت تصل أحيانًا إلى ضَرْبها. مع ذلك زرته عندما كان مريضًا، في أواخر حياته، في بيته في دمشق، وبدا لي ودودًا، ونادمًا، خصوصًا في ما يتعلق بتهجماته عليَّ». أمّا عن تقديره لشاعرية سنية صالح: «أتردد في المفاضلة بين الشعراء. سنية شاعرة مهمة جدًا، لم تُكتَشَف بعد كما ينبغي. في شعرها فرادة تراجيدية، ذات قرار أنثوي، جديدة كليًا في الحداثة الشعرية العربية. ولو سألتني، في أفق المفاضلة، من تختار أن تقرأ الآن، إذا خُيِّرت بين الماغوط أو سنية؟ لأجبتك: سنية». بعد صدور الأعمال الكاملة للشاعرة سنية صالح بإشراف أختها الناقدة خالدة سعيد وعودة اكتشاف شاعرة رائدة لم تنل حظها الكافي لعدة أسباب تواريها إلى الظلّ والحضور الطاغي لمحمد الماغوط التي توالت نجاحاته الشعرية والمسرحية بينما استغرقت المهام العائلية والبيتية حياة سنية صالح التي تفانت فيها بأمومة طافحة حتى سقوطها الأخير ضحية المرض الخبيث ما حوّل سيرة أغرب زيجة شعرية إلى سيرة ألم مشبعة بالحزن والمرارة.

مي زيادة وجبران.. علاقة حبيسة الرسائل

يمكن اعتبار مي زيادة (1886-1941) أيقونة الأدب العربي الحديث، فهي كاتبة ومترجمة فلسطينية ولبنانية أتقنت عدة لغات: الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وكانت من أوائل الكاتبات العربيات وصاحبة أوّل صالون أدبي في العالم العربي. تحلّق حولها الكثير من الكتاب والمفكرين والشعراء والأدباء الذين فتنوا بجمالها وثقافتها الواسعة وسعوا إلى التقرّب منها ونيل الحظوة لديها. لذلك عاشت مي زيادة العديد من العلاقات المتوترة جراء هذا الافتتان، فقد هام بها الكاتب اللبناني أنطون الجميل وخصّها شعراء كبار مثل أحمد شوقي بإشارات غزلية لماحة وحتى الكاتب مصطفى محمود العقاد بشخصيته الطاغية ردت على رسائله: «حسبي أن أقول لك: إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرتُ به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان. بل إنني خشيتُ أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد، منذ أول مرة رأيتك فيها بدار جريدة المحروسة. إن الحياء منعني، وقد ظننتُ أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك. والآن عرفتُ شعورك، وعرفتُ لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران، ولا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه في نيويورك لم يرني، ولعله لن يراني، كما أني لم أره إلَّا في تلك الصور التي تنشرها الصحف. ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها! أليس كذلك؟! معذرة، فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعورًا بأن لي مكانة في نفسك، أهنئ بها نفسي، وأمتّع بها وجداني». غير أنّ علاقة مي زيادة العاطفية بالشاعر اللبناني جبران خليل جبران عن طريق المراسلة التي دامت عشرين عاما والتي كانت على ما يبدو معروفة في الوسط الأدبي، كانت محور حياتها. بموت والدها ووفاة جبران فقدت توازنها النفسي وبدأت تتردد على عيادات الطبّ النفسي لتتلقى العلاج. الأسوأ هو ما كان بانتظار مي زيادة حيث تكالبت عليها أطماع بني عمومتها فاستدرجوها إلى بيروت بدعوى الزيارة وألقوا بها في مستشفى المجانين وجرّدوها من ممتلكاتها وكتبها ومخطوطاتها. فهبّ كتاب لبنان لإنقاذها من سجن المستشفى، لتعود إلى مصر، لكن خائرة القوى ولتعتزل الناس حتى استسلامها أخيرا للموت…

من رسائلها إلى الشاعر اللبناني جبران خليل جبران الذي كان مقيما في أمريكا حيث توفي ولم يتم اللقاء بينهما: لقد توزّع في المساء بريد أوروبا وأمريكا، وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع، وقد فشل أملي بأن تصل فيه كلمة منك. نعم، إنّي تلقيت منك في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القدّيسة حنّة الجميل، ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل… لا أريد أن تكتب إليّ إلّا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا، ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلّما دار موزّع البريد على الصناديق يفرغ فيها جعبته!… أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل، حتّى طوابع الولايات المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح، فلا أذكر صديقي ولا أصبو إلى مشاهدة خطّ يده ولمس قرطاسه.

… ولتحمل إليك رقعتي هذه عواطفي فتخفّف من كآبتك إن كنت كئيبا، وتواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة، ولتقويك إذا كنت عاكفا على عمل، ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا.

مي زيادة

 

ليليا بريك.. الملهمة والوريثة

ليليا بريك (1891-1978) Lilia Brik كاتبة وممثلة ومخرجة سينمائية روسية من عائلة مثقفة وذات ميول أدبية وفنية، أختها الكبرى هي الكاتبة إلزا تريولي التي ستقترن بالشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي سيخلد اسمها في العديد من أعماله الشعرية من أشهرها «مجنون إلزا». كانت ليلي متزوجة بالمحامي أوسيب بريك الناشر وعاشق الشعر. عندما التقت فلاديمير ماياكوفسكي الذي كان يعتبر شاعر الثورة الروسية وأنصتت إليه ينشد قصيدته الشهيرة «غيمة في سروال» في صالون بيتها، أصيبت بالذهول أمام قوة إلقائه غير المعتادة التي تميّز بها عن بقية الشعراء، فهو كما قال: «أقرأ كما لو أنّي في حالة سكر». منذ تلك اللحظة بدأت العلاقة بينهما، خاصة بعد صدور ديوانه الذي مثل تحولا كبيرا في مسيرته الشعرية حاملا الإهداء إلى ليلي بريك. رغم أنّها ظلت متزوجة وأنّ ماياكوفسكي لم يغيّر من عادته في استبدال عشيقاته المتعددات، فإنّ الرابط بينهما بقي مستمرا ومتواصلا بين مد وجزر تتخلله أحيانا فترات هدوء وسلم وأحيانا أخرى فترات عواصف وحروب.

ففي رسائله لم يتوقف فلاديمير ماياكوفسكي عن تذكير ليلي بريك بأهميتها القصوى في حياته: «لا تنسي، بصرف النظر عنك، لست بحاجة إلى أيّ شيء، ولا شيء يهمني». بعد فترة قصيرة من الود بين الثورة وشاعرها تأزمت علاقته بالسلطة الثورية وبدأ بالمجاهرة بانتقاد البيروقراطية وآرائه في حرية واستقلالية الإبداع ما أخضع كتاباته إلى الرقابة وحذف مقاطع منها. دخل ماياكوفسكي في حالة اكتئاب حادة وشعر كما لو أنّ الثورة سرقت منه، وقد كانت بالنسبة إليه المبرر الوحيد لحياته، فقرر أن يضع حدا لحياته مثل صديقه الشاعر سيرغي يسنين الذي كان قد عاب عليه الإقدام على هذه الخطوة بقوله: «في هذه الحياة/ الموت ليس صعبا/ بناء الحياة/ هو الأصعب بكثير. لكن من سخرية القدر وبعد خمس سنوات سينتحر ماياكوفسكي تاركا وصيته الشهيرة:

إلى الجميع!

أنا أموت، لا تتّهموا أحدا، الميت يكره ذلك كثيرا.

أماه، أختي، رفاقي، سامحوني، ليست هذه بالطريقة الصحيحة (لا أنصح بها أحدا)

لكن لم يكن لديّ حلّ آخر.

«ليلي» أحبيني.

يا رفيقتي الحكومة: عائلتي ليلي بريك، وأمّي، وأختاي، وفيرونيكا فيتولدوفنا بولونسكايا.

شكرا إذا جعلت حياتهن ممكنة.

أعطوا القصائد التي بدأتها إلى آل بريك، فهم سيفهمون.

وكما يقولون: «الحادثة باتت منتهية»

تحطم زورق الحبّ في لجّة الحياة المتلاطمة.

أنا في حل من الحياة

لا جدوى من استعراض الآلام والمصائب

والإساءات المتبادلة.

كونوا سعداء.

منذ وفاة فلاديمير ماياكوفسكي تولت ليلي بريك مهمة نشر أعماله وتحقيقها والاشتغال على المسودات والإشراف عليها باعتبارها وريثته الرئيسية حتى انتحارها هي الأخرى بعد مضي ما يقارب نصف قرن على موته وهي في السابعة والثمانين من عمرها.

 

مريد البرغوثي ورضوى عاشور.. الغربة شبه جملة

… تساءلت إن كانت المقارنة واردة بما حدث لي عندما سُمح لي بالعودة إلى مصر والإقامة فيها بعد منع استمر لمدة سبعة عشر عاما: لم أستطع تلبية احتياجات الرومانسية التي يتوقعها المعجبون بالدراما والميلودراما من هذه العودة إلى مدينة تلقيت العلم وعملت وعشت سنوات كثيرة.

أخبرتني رضوى أنّ مساعي السنوات السابقة نجحت أخيرا في رفع اسمي من قوائم «ترقّب الوصول» في مطار القاهرة وأنّ بوسعي المجيء إلى مصر والإقامة مع الأسرة بلا قيود. كنت وقتئذ في عمّان وأستعد للسفر إلى الدار البيضاء في المغرب، مدعوا من الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب العرب من أجل الاشتراك في مهرجان الشعر العربي الذي يعقد عادة مرافقا للمؤتمر. رضوى كانت أيضا مدعوة لنفس المؤتمر مع عدد من الأسماء الثقافية المصرية.

هي سافرت من القاهرة قبل يومين من سفري أنا من عمّان لنلتقي في فندق بالدار البيضاء. دخلت إلى البهو، انبثقت رضوى واتجهت نحوي فاردة ذراعيها وسط تعليقات المنتشرين على المقاعد يحتسون الشاي المغربي.

حقيبتي كبيرة هذه المرة، فيها ملابس من سيقيم إقامة دائمة لا ملابس الزائر لفترة أسبوعين. كنّا نتصل بتميم كل يوم تقريبا ودخل في حالة انتظار لعودة أبيه إلى البيت والاستقرار فيه. ركبنا الطائرة العائدة إلى مصر بعد انتهاء المؤتمر.

أنا لا أعود إلى رضوى، أعود معها. كأنها تأخذني من يدي إلى البيت الذي انتزعوني منه ومنها ومن تميم ذات خريف قبيح وبعيد. في الخارج كان تميم قد نفد صبره تماما رغم أن الجميع هيّأوا أنفسهم لانتظار طويل. مطار القاهرة عموما من المطارات الصعبة للمسافر الملهوف. كل شيء يتم بتلكؤ لا يراه مسبّبوه تلكّؤا، بل ربما حسبوه إتقانا لعملهم. إنها وجهات نظر على أيّة حال!

دخلنا البيت ليلا (أمر محيّر وغريب، كل العودات تتم ليلا، وكذلك الأعراس والهموم واللذة والاعتقالات والوفيات وأروع المباهج. الليل أطروحة نقائض!)

لم يغمض لنا نحن الثلاثة جفن. ثرثرنا أعمارنا المتفرقة في البيوت التي انضمت في تلك الليلة لتصبح بيتا.

… منذ ترحيلي وفي كل مرة سمح لي بالعودة إلى القاهرة كنت أقضي أطول وقت ممكن في بيتنا دون أن أغادره إلى الشارع. كنت أتفرّج على البيت. أتفرّج على الكنبة البنية تحت رفوف الكتب. على الستائر ذات الرسم التجريدي، على المكتب الصغير تحت النافذة. على المسودّات القديمة والجمل الناقصة. كانت كل عودة مؤقتة تكمل النصف الثاني من الجملة. فالغربة كلّها شبه جملة. الغربة شبه كل شيء!

يخطفونك من مكانك بشكل خاطف، مباغت، وفي لمح البصر. لكنك تعود ببطء شديد! وتحب أن تتفرج على نفسك عائدا بصمت، دائما بصمت، أوقاتك في الأماكن البعيدة تطل على بعضها كأنها تريد أن تشبع فضولها الغامض بشأن ما يفعل الغريب بالمكان المستعاد وما يفعله المكان المستعاد بالغريب.

… في القاهرة، صبيحة ذلك العيد التاريخي الكئيب، كانوا ستة من المخبرين. عندما سقط من حبل الغسيل ذلك القماط الذي ما زال مبلولا من أقمطة تميم وخرجت لجلبه، رأيتهم:

كانوا ستة مخبرين في سيارة مباحث أمن الدولة.

قلت لرضوى: جاؤوا.

… لم أقم بأيّ فعل لمعارضة زيارة السادات لإسرائيل. كان ترحيلي وقائيا ونتيجة وشاية، كما تبيّن بعد سنوات عديدة، لفّقها زميل معنا في اتّحاد الكتاب الفلسطينيين!

الحياة تستعصي على التبسيط كما ترون!

سيمون دو بوفوار وسارتر.. عشق في حضن الفلسفة والأدب

اللقاء الأوّل بين الكاتب والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر والشابة سيمون دو بوفوار كان بداية لعلاقة استمرت طيلة حياتهما لم تكن زواجا ولا حتّى ارتباطا عابرا. لقد كان علاقة فريدة ما بين فيلسوف الوجودية صاحب كتاب «الوجود والعدم» والمنظرة الأشهر للفكر النسائي وصاحبة كتاب «الجنس الآخر». لذلك التزما ودون زواج رسمي في علاقتهما بالحرية في اختياراتهما الشخصية في إقامة ارتباطات أخرى وتجاوز مشاعر الغيرة البغيضة شرط الشفافية وعلم الطرف الآخر، وعلى حدّ قول سارتر «أخونك بمعرفتك». هكذا كانت لسارتر خارج علاقته بسيمون دو بوفوار عشيقات يعرفهن القريب والبعيد في باريس، كما كان لسيمون دو بوفوار عشاق كثر من أشهرهم الكاتب الأمريكي نيلسون أليغرين الذي افتتنت كثيرا به فقد كان ذا بنية جسمانية هائلة عكس سارتر القصير جدّا. هذه العلاقة الجانبية كادت أن تعصف بالثنائي سارتر وسيمون، لكنّها في الأخير عدلت عن التخلّي عن سارتر فكتبت إلى نيلسون أليغرين: «إنني صديقته الحقيقية الوحيدة التي تفهمه وتمنحه السلام والتوازن، لا أستطيع التخلي عنه بتاتا وقد أتخلى عنه لفترات طويلة أو قصيرة ولكن لا أستطيع أن أكرس حياتي كاملة لرجل آخر». ففي رسالة سارتر الأولى إلى سيمون التي يعلن فيها حبّه لها يقول:

فتاتي الصغيرة العزيزة،

لوقت طويل انتظرتُ أن أكتب لكِ، في المساء بعد واحدة من تلك النُزهات مع الأصدقاء، ولكنَّني عندما أتعبُ من الصراخ أذهب دائمًا للنوم، واليوم أنا أقوم بهذا لأشعر بلذَّة لا تعرفينها بعد، لذَّة التحوُّل فجأة من الصداقة إلى الحُبّ، من القوَّة إلى الرقَّة؛ هذه الليلة أُحبِّكِ بطريقة لم تعرفيها في بعد، فأنا لستُ مُتعبًا من السفر،… حاولي أن تفهميني؛ أنا أُحبِّكِ بينما أنتبه للأشياء الخارجيَّة، أحببتكِ ببساطة في تولوز، والليلة أُحبُّكِ كمساء ربيعي، أُحبُّكِ والنافذة مفتوحة، فأنتِ لي والأشياء لي ولكنَّ حُبِّي لكِ يُعدِّل الأشياء حولي وتُعدِّل الأشياء حولي حُبِّي لكِ…

 

أدونيس وخالدة سعيد.. قران الشعر والنقد

ارتبط اسم الشاعر أدونيس باسم زوجته الناقدة خالدة سعيد كأشهر زوجين عربيين ينتميان إلى المجال الأدبي، فهو بحق يعد اقترانا مثاليا بين الشعر والنقد. لكن هذه العلاقة الوطيدة بين الشاعر والناقدة قلما نجد لها أصداء إلّا في بعض الحوارات النادرة. فحينما سُئلت خالدة سعيد عن نظرتها النقدية إلى شعر زوجها وكتاباتها، وعن مدى شعورها بالإحراج في ذلك، قالت: «حين أكتب لا أخاطب صاحب النصّ، ولا أتوجّه إليه، تدور العملية بيني وبين النّصّ. الكتابة عن نصّ نوعٌ من التملّك والتبنّي. ولا معنى لكتابتي النقدية إذا خنتُ نصّ المبدع؛ أي خنت نصّي النقديّ الخاصّ. نصّي هو خصوصيّتي وكلمة الشرف الموجّهة لنفسي وللقارئ في وقت واحد. نصّي هو كلمة الذّات الكاتبة وكلمة الشراكة بيني وبين الكاتب والقارئ. فأنا- أيضاً- قارئة مثله، والذي يقرأ النقد لا يفعل ذلك ليتسلّى أو يطرب؛ يقرأ من منطلق المعرفة والتجاوب والمساءلة والإضاءة، وحتى الهيام. ثم إننا (أنا وأيّ ناقد) لا نكتب لقارئ جاهل، بل لقارئ عارف، ما يحمِّل الناقد المسؤولية عن المعرفة التي يقدّمها. وهذا النوع من الغشّ، (أعني المُحاباة أو التَّحامُل) يخون الأطراف الثلاثة: القارئ، والكاتب والشاعر، أو- على الأقلّ- الشعر. ثمّ، إذا كان أدونيس سيتدخّل أو يبدي أيّ ملاحظة على نقدي لفلان أو فلان، معنى ذلك أنني أفقد صدقيَّتي، بل أفقد صوتي ورؤيتي واستقلاليّتي ومبرّر كتابتي، ويكون الأفضل أن أكتب الدراسات النظرية حول الشعر، ولا محلّ، هنا، للكلام على أمر بديهيّ، هو عزّة نفس أدونيس وترفّعه. فنحن، هنا، في ميدان المعرفة والإبداع، واحترام هذا الإبداع وصاحبه، وصيانة صدقية العلاقة بين الناقد والمبدع، هما من الأولويّات. وبالمناسبة، أدونيس كتب عن شعراء، مثل يوسف الخال وأنسي الحاج وجورج شحادة والسياب وغيرهم، ولم يسأله أحد إن كنت أتدخّل في ما يكتب. هذا السؤال الاتّهامي يتضمّن حكماً مسبقاً بخضوع المرأة (حتى على المستوى الأدبي) للزوج، كما أنه حكم مسبق على الزوج بأنه لا يحتمل حتى الحرّيّة الفكرية لزوجته. ولستِ أوّل من طرح عليّ هذا السؤال. إنه سؤال مرفوض قطعاً، ويمسّ روعة العلاقة الإبداعية وتبادل الإضاءة بين الناقد والنصّ، كما يمسّ شخصية النّاقد». وتضيف مبرزة دورها كقارئة أولى لأعماله وهل لها أحيانا بعض المآخذ: «أمّا عن المآخذ النقدية، فربّما أبديت ملاحظة كما يبديها أيّ صديق مخلص. ولكنني لا أمارس دوري كناقدة إلا كتابةً، كما أمارسه مع أيّ نصّ آخر؛ فكتابتي تحليلية وليست انتقادية. أنا لا أعلّم أحداً».

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى