معارك العصر القديم
بقلم: خالص جلبي
هذا التنافس بالطبع لن يؤدي في النهاية إلا إلى حملات التوسع والاصطدام مع الدول المجاورة، كما حدث في الحروب الرهيبة في العالم القديم على الشكل الذي أوردناه في حملة كل من دارا وكزركسيس على اليونان، أو الحرب «العالمية» القديمة بين روما وقرطاجنة، التي استهلكت موارد كلا الدولتين من خلال ثلاث جولات من الصراع المريعة في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد، وقادت الأولى إلى الفناء تحت التراب، والثانية إلى «العدمية» فوق التراب وبذا ماتت الاثنتان عمليا! (راجع تعليق المؤرخ الألماني أوسفالد شبينغلر في كتابه «أفول الغرب» عن آثار تلك الحرب وكيف أنها امتصت آخر طاقة حيوية لروما – الجزء الأول).
4- المرحلة الرابعة: كانت دورات الحرب تمشي في اتجاهين، «الأول»: هو الاستمراية والتواصل وكانت فترات السلم «هدنات» لأخذ النفس ومتابعة الحرب، من خلال قانون العنف والعنف المضاد، فكل فعل له رد فعل مضاد له في الاتجاه ومساو له في القوة، وهذا يستتبع بالتالي رفع جرعة رد «رد الفعل»، أي نصل إلى الاتجاه «الثاني»: فحتى يمكن التغلب على رد الفعل الجديد فلابد من رفع قوة الفعل الجديدة، أي أن الدورة الجديدة من العنف سوف تبدأ أعنف من الأولى وفي جعبتها كل تجارب الدورة السابقة، فلو أردنا تصوير ما يحدث فهو أشبه بهرم مقلوب الرأس، ذروته نقطة بداية العنف وقاعدته المتوسعة باستمرار العنف المستشري، أو هو شكل لولب صاعد كحلقة دخان أو نفثة نار تكبر مع صعودها إلى السماء بدون توقف، أو هي حلقات الماء بإلقاء حجر فيها فتكبر الحلقات بدون نهاية. أو انتشار موجات الصوت أو الضوء! حتى خيل للبعض أن السلام عملية مستحيلة، أو هي خدعة مؤقتة، أو أن الوجود مؤصل على العنف المقدس «كذا».
5- المرحلة الخامسة: كان أمل القوى المتصارعة دوما ومن خلال تطوير أداة الحرب أنه سيقهر خصمه ويستولي عليه بل ويلغيه ويحذفه من الوجود، وهو بهذا الأسلوب يخلق العدو باستمرار، ويلغي حتى وجوده الخاص، وكانت هناك علاقة جدلية بين طغيان الشر وتطوير «أداة البطش»، وهكذا أغرى قديما مثلا الدولةَ الآشورية براعة الآلة الحربية الآشورية التي تكللت باختراع «العربة الحربية الآشورية» ذات الأنصال الباترة، حيث كانت تقضم أذرع المقاتلين فتقع ترتعش، قبل أن يحس المقاتل بفقدان ذراعه أو قدمه! وحفزتها لتطويع وتركيع الأمم المجاورة، ومع امتداد هذه الذراع البطاشة سال اللعاب أكثر فأكثر لافتراس المزيد من المدن والأمم، فكلما زاد «كمال» أداة الحرب كلما أصيبت النفس بمرض التضخم والشعور بالتجبر الكاذب، وبذا تضخمت الدولة الآشورية بشكل مرعب في جنوب غرب آسيا، فحكمت بدون رحمة، ودمرت ولم تأبه، وسوت معظم مدن الشرق الأوسط بالتراب، وحملت شعوبا بأكملها إلى معسكرات الاعتقال، ولا يزال الشعب اليهودي يحمل في الذاكرة الجماعية التاريخية فظائع (نبوخذ نصر).
كانت الأداة الحربية الآشورية تحت المراقبة والتطوير الدائمين، إلا أن الحملات التي لا تنتهي لإخضاع الشعوب المجاورة على النحو المذكور، ومعاناة هذه الشعوب وآلامها التي لا تنتهي، استنفدت في النهاية دماء الدولة الآشورية فماتت على الشكل الذي وصفه المؤرخ (توينبي) عن مصير النزعة الحربية «الجثة في الدرع»، (يراجع في هذا كتاب «مختصر دراسة التاريخ» – جون أرنولد توينبي عن انتحارية النزعة الحربية).
6- المرحلة السادسة: تحت شعور «السيطرة» على مقدرات الناس، تم دفع أداة الحرب وتطويرها بكل سبيل ممكن، وسُخر العلم لذلك، وهكذا حدث تناقض عجيب، حيث تمت ازدواجية بين خدمة العلم لآلهة الحرب، وبين تطوير العلم من خلال تبني المؤسسات العسكرية له! وهكذا تم تطوير أبحاث الذرة بشكل مرعب خلافا لمؤسسات علم دراسة النفس والمجتمع، كل ذلك تحت معلومات كاذبة، أن هتلر يطور سلاحه الذري الخاص به. وأظهرت التحريات ومقابلة العلماء الألمان بعد الحرب، أن الألمان لم يكونوا قد خطوا بعد في هذا الطريق شيئا يذكر (كشفت مجلة «صورة العلم» الألمانية النقاب عن التسجيلات السرية لمجموعة العلماء الألمان، الذين أسرهم الحلفاء الغربيون ووضعوهم في فيلا مريحة في بريطانيا لمدة ستة أشهر، قد وضع في كل زاوية منها جهاز تنصت، موصول بجهاز تسجيل مركزي يعكف عليه خبراء باللغة الألمانية لفك كل كلمة للعلماء، وعرف على وجه الدقة أن العلماء الألمان كان قد فاتهم القطار ـ لحسن الحظ أو لسوئه لا أدري؟ ـ في موضوع السلاح النووي، ولكن في الوقت ذاته فإن الحلفاء استفادوا من الخبرة الألمانية في تطوير جهاز الصواريخ «ف 1» و«ف 2»، الذي عانت منه بريطانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية). بل وكشف النقاب عن هدف إلقاء السلاح الذري على اليابان، أنه لم تكن هي المستهدفة به بالدرجة الأولى، بل الإعلان الأمريكي لمرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية، لأن اليابان كانت في حكم المهزومة. ويقع الاتحاد السوفياتي على رأس قائمة الذين يجب إرعابهم.
7 – المرحلة السابعة: انتقل تطوير السلاح في دورات من أسلحة «الصدم» و«القذف» والوقاية من خلال جهاز «الدروع»، فالأولان للاختراق والأخير للدفاع والوقاية، أثناء الهجوم، كما هو الحال اليوم في سلاح الدبابة، وكما يحدث تماما أثناء اشتباك مجموعتين من الأطفال في العراك، حصل نظيره في تاريخ الحروب في التاريخ، فالأطفال يعمدون إلى التراشق، ثم الاشتباك بالأيدي والقبضات أو بالعكس، وهكذا مشت رحلة التسلح في دورات من المشاة المدرعة، فالخيالة الخفيفة، فالخيالة المدرعة، وأخيرا العربات المدرعة (راجع في هذا كتاب «الأسلحة والتكتيكات» – ونترنغهام وبلاشفورد- سنل – ترجمة المقدم حسن بسام – المؤسسة العربية للدراسات والنشر). وبالطبع فإن بحثنا هذا لم يكتب للعسكريين وإن كان يستهويهم، وهكذا تطور السلاح بين الإنسان المدرع، فراكب الحصان المدرع، فراكب العربة المدرعة، والذي غلب (كزركسيس) في معركة (بلاتيا) كان نظام «الفالانكس الإغريقي PHALANX» عام (479) ق. م، الذي يعتمد القوة المركزة المزودة بالرماح الطويلة التي تعمل كـ«المطرقة الثقيلة»، ثم تطور هذا النظام على يد الملك فيليب المقدوني، والد (الإسكندر الكبير)، الذي هيأ له الآلة المناسبة لاجتياح الدول المجاورة، حيث تم صقل جهاز الفالانكس، بحيث يستطيع المناورة بشكل أفضل، ومن هنا نرى سخرية القدر في عمل الفرس باجتياحهم بلاد اليونان، كي يحركوها لتقوم برد الفعل بعد 146 عاما، لتطحن جيوش داريوس في معركة (أربيلا) عام 333 ق. م.