شوف تشوف

الرأي

معارضة أمريكا

خالص جلبي
إن معارضة أمريكا بعقيدة العنف كالفأر الذي يستأجر لنفسه مصيدة، ولن يحل مشكلة حتى لو انتصرت المعارضة. إن أمريكا تعارض داخليا بالديموقراطية، أي حل المشكلات بدون عنف وبالإقناع، ومع أن هذه الفكرة ترسخت واقعيا في أمريكا (داخليا)، إلا أنها لا تزال آلية (عملية) ولم يحصل لها تحليل وتنظير وفهم؛ فهي (عملية) أكثر منها واعية عقلانية في ربط الأسباب بالنتائج، كالبدوي الذي يتقن الفصحى ولا يعرف قواعدها. لهذا عندنا استعداد أن نقوم بأعمال بذل النفس على أساس البطولات العسكرية، ولا نحسن البطولات الفكرية من نموذج (سيد الشهداء)، التي لا تستخدم فيها الوسائل العنفية الجسدية.
إن الكل يؤمن بالقضاء على الإرهابيين دون معرفة دوافعهم وأن العقوبة خير دواء وأن القتل سيد الموقف، ويعتقدون أن هذا هو السبيل الوحيد لحل المشكلات، وهو مرض إنساني مسلط على مخيلة كل السياسيين إلا النادر، وهو الذي سد منافذ الفكر للتفكير في وسيلة أخرى وهي التي طرقها الأنبياء واعتمدوها وأطلق عليهم الجنون بسبب ذلك وهو قول الحق والاستعداد للحياة عليها والموت من أجلها (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). وهذا الأسلوب لا يمكن أن يخفق حتى لو مارسه من لا يؤمن به فيمده الله من عطائه عطاء غير مجذوذ. وهكذا نفذت إيران هذا الأسلوب ليس بوعي، ولكن بطاعة وتسليم وأوامر من الخميني فنجحت، وكان بإمكانها أن تصبح نموذجا للبناء الحضاري، لولا الإيديولوجيا التي أمسكت بتلابيبها. وهذه الأشياء تحدث على نحو غير واع، وإنما تمارس عمليا باعتبارها دواء ناجحا مثل الذي يعالج الصداع بالأسبرين دون معرفة تركيبه الكيمياوي، فضلا عن صناعته. وليس وعيا منهجا وعلى نحو (عواقبي سنني). وأمريكا اليوم تطلب من العالم أن يفوضها في قتل موسى، لأنها تخاف أن يبدل دين الناس أو أن يظهر في الأرض الفساد، بينما فرعون هو الذي جعل الناس شيعا يذبح أبناءهم. إنه لا أحد يفهم معنى الديموقراطية نظريا كقانون يمكن أن ينتقل ويطبق على الأمم المتحدة أو البلاد العربية، ولا أحد يبحث في هذا الموضوع، ولا أحد يؤمن بسنن الله أنها عامة للبشر، ومن يبحث يشعر أنه يصيح في البرية بدون صدى، ويعتبر الناس أن ما يقوله منكرا من القول وزورا، كما حصل لروبرت فيسك في أمريكا. إن المظاهرات الإيرانية وكذلك السورية لاحقا كانت تتقدم إلى الجنود بالورود، تحشى بها فوهات البنادق،
وفي يوم الجمعة الحزين من خريف عام 1979 م قتل في مظاهرة واحدة 5000 رجل و600 امرأة، أكثر من الذي قتل في يوم 11 شتنبر عام 2001م الثلاثاء الأسود في نيويورك من غير أن يرد أحد بعنف، فهذا حدث أرضي ولكنه شيء عملي وليس عقليا وسننيا، لأنه لا يمكن نقله وإعادته، والشيء الذي لا يمكن نقله وإعادته ليس علما وإنما هو خارق وعالم عجائبي. إنه ثبت مرة أخرى خرافة التسلح ومشاريع المليارات للدفاع الفضائي الذي تحمس له رجال الكونغرس في عمى سياسي. وكانت الفرصة سانحة لإعادة النظر في موضوع التسلح برمته، لأن ما حدث لم تستخدم فيه سوى أدوات بسيطة وكلمات تهديد بوجود قنبلة وإرادة مصممة على الموت. لقد فعل الانتحاريون ما يفعله النمل وهم يأكلون عيون الحيوان الكبير، ولكن يبدو أن الإمبراطوريات عندما تتيبس مفاصلها وتعجز عن التكيف يكون مصيرها الاندثار كما حصل مع الديناصورات. وكان الأمريكيون أحمق من (هبنقة) حين أقدموا على غزو أفغانستان، ثم العراق أو أكراد سوريا، كما جاء في مقالة (روبرت فيسك) في (الأندبندت)، يوم 16 شتنبر 2001 م، حين تعرض لذكر بوش أن (بوش يمشي باتجاه الفخ).
إن من لا يقرأ التاريخ يعيد أخطاءه مع الفوائد المركبة. ووصف خبير سوفياتي نية الأمريكيين في غزو أفغانستان، أن عليهم أن يستفيدوا من خبرة الروس وأن مغامرة فيتنام ستكون نزهة، مع ما سيحصل عند التقاء طريق الحرير مع جبال هيمالايا. ولعل أهم ما حدث بعد كارثة نيويورك والبنتاغون، أنه تم إيقاف تسعة أفلام عنف من إنتاج هوليوود. فالموضوع لم يعد في إطار التسلية، بعد أن احترقت أمريكا بالعنف وأصبح مواطنو نيويورك يتنقلون بين الشوارع بالهويات تحت سلاح الشرطة كما في بلدان العالم الثالث.
إن الانتحار بسبب اليأس لا يحل مشكلة ولو خسف الله الأرض بإسرائيل وأمريكا معا، فلن تزول مشاكل المسلمين لأنها داخلية بحتة. ولن تحل مشاكل المسلمين على يد من يحسن القتل ولا يحسن الحياة، لأن القتل لا يأتي إلا بالقتل وهو الذي أوصى به بإلحاح (صلاح الدين الأيوبي) أبناءه في سكرات الموت، فقال: إياكم والدماء فإن الدماء لا تنام. والحقد يجر الحقد، والكراهية تولد الكراهية، والدمار يجلب الدمار. هكذا جرت سنة الله في خلقه، وهلك هنالك المبطلون. ويجب استيعاب حقيقة مرة أن الإرهاب والقتل والتدمير قد تزهق روح العدو، ولكنها ستنتقل إلينا في النهاية، وهو التعبير نفسه الذي استخدمه (مالكولم إكس)، عندما علق على اغتيال كينيدي أن (الدجاج تعود إلى القن كي تستريح)، قاصدا بها أن ما أنزلته أمريكا بالآخرين انعكس عليها. وكان هذا التوجه السلمي من الرجل سببا في فصله عن حزب (أمة الإسلام)، ثم مصرعه أخيرا. وهو ما سمعناه أيضا عن اغتيال (شاه مسعود) في ضجيج الحوادث، وعلى يد نفس (المجاهدين) الأفغان. ويذكر (فنكل شتاين) بمرارة عن أمه التي نجت من محارق النازية، أنها كانت تتمنى من كل قلبها أن لا يبقي الروس والحلفاء حجرا على حجر في ألمانيا، وأن يقتلوا كل ألماني ويدمروا كل شيء.
إن الذي يصل إلى هذه الحافة أو يدفعه خصمه إلى هذه الحافة السيكولوجية، يختار نموذج شمشون الجبار فيهدم المعبد على رأسه ورأس الناس، وهذا الذي يفعله الانتحاريون بالضبط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى