مظالم
صبر كثيرا حتى ما عاد يطيق صبرا، وما عاد يتحلى بقوة التحمل، وما عادت جرعات الأسبرين التي أدمن شربها تجدي نفعا مع تكالب الطامات والمصائب. وكلما حاصرته مخالب الأوضاع السيئة، وأرقته خروقات الفساد العلني، ذهب إلى المقهى، وجلس بإفريزها، وتوحد عن هذا الكون في أرجوحة التساؤلات.
إشكاليات عويصة تؤرق الذهن وتشجع على الجنون؛ لماذا هذه الحكومة عاجزة عن تيسير أحلام هذا الشعب؟ لم تتمادى في عنادها بلا حشمة ولا خجل؟ إلامَ سيظل هذا الشعب يعاني في صمت؟ إلامَ سيظل الفاسدون يستغلوننا؟
يفكر مليا فيجد أن أسئلته تُضْرَبُ عرض الحائط، يفكر في أن يناقشها مع أحد اليائسين ممن يعمرون المقاهي بلا جدوى، فيحرص على ألا يسمعه أحد. فالكثيرون لا يفهمون هذه الأمور والأغلبية يخشون منها، غير أنه يعزي نفسه بكون العرب جبناء، وانقضى زمن البسالة والإقدام مع عنترة وحمزة وصلاح الدين الأيوبي وموسى بن نصير وطارق بن زياد… وإلا كيف سيفسر الكثير من المتعصبين سنوات الاضطهاد والديكتاتورية التي ما تزال أصداؤها تعج في كثير من الأقطار؟
عانى الكثير وما يزال يعاني، واشتكى كثيرا وما يزال، وطالب بحريته وبحقوقه وما يزال، لكن كانت الآذان الصماء دوما تخيب الآمال.. دوما تختم ورقة الإرسال إلى مصحات الجنون. إلى أن اهتدى إلى نصيحة صديقه الذي أرشده إلى كتابة سلسلة مظالم إلى كل أطر الحكومة، لعله يجد آذانا مصغية، قرأ بعض النماذج التي قدمها له صديقه في جريدة.
قرأ صفحة المظالم وأعجب بالفكرة، فعلى الأقل، إذا لم يسمعه أصحاب السعادة والفخامة، فإنه يستطيع أن يوصل صوته إلى أكبر عدد من المتلقين، وأن يعري ويفضح هذا الواقع المرير الذي يطمسه المنافقون واللصوص. فعلى كل من يريد أن يعرف حقيقة هذه البلاد ويكشف ملامحها على حقيقتها، أن يزور المؤسسات التعليمية، والمستشفيات والمحاكم، أو يطالع الصحف اليومية..
فكر في أن يراسل أولا وزير التشغيل، فأحد أسباب بؤس هذا الشعب البطالة، ونسبتها أكبر من نسبة العاملين، وكثير من العاملين أميون ولا يعملون شيئا، اقتحموا الوظيفة بوَسَاطَة نافذة أو برشوة دسمة. ثم أخذ يخمن ماذا سيكتب. ارتجل عبارات قاسية وجريئة، لكن نصحه صديقه بكتابة سلمية وعاطفية من أجل التأثير في المتلقي أولا، وحتى يتم نشرها ثانيا. تريث مليا وأطلق عنان حبره على ورقة باهتة التقطها من القمامة.
إلى وزير التشغيل:
يلتمس المدعو زعطوط الحامل للبطاقة الوطنية رقم… القاطن بحي المقهورين، من سيادة معالي الوزير، أن يفكر في إيجاد حل استعجالي لآفة العصر التي أرقت شبابنا وكهولنا، وأصبحت واسعة الانتشار وأقوى من الطاعون. وأحيطكم علما، سيدي، أنني أب لأسرة متدفقة، أنجبتها في زمن لم تكن شريحة واسعة من الناس قد فطنت إلى موانع الحمل، وتلبية لذلك السلوك الحيواني فينا فقد أنجبت سبعة بدون أي رغبة فيهم. وقد ناضلت من أجل توفير كسرة الخبز لهم حتى كبروا وحصلوا على شهادات جامعية في مختلف الشُّعَب. يعمل منهم ثلاثة؛ واحد في شركة يقضي في ردهاتها اثنتي عشرة ساعة بأجر زهيد، والثاني في مخبزة، هو أيضا يبكر قبل صياح الديكة ولا يعود حتى تغيب الشمس، على الأقل أعفانا من شراء الخبز، فكل مساء يحضر معه عشر خبزات، والثالث لا نراه إلا لماما، يعمل في مطعم وجبات خفيفة، مرة يأتي ومرات لا يأتي، يبيت في سدة المطعم أو مع أصحابه. والآخرون يقضون أوقاتهم في التسكع وفي النوم ببيتنا الضيق. وهم لا يرغبون في أن يشتغلوا كإخوتهم الكبار في المطاعم والمقاهي والشركات التي تستنزف دم بني آدم، أو يبيعون الخضر والفواكه أو سلع الشمال المهربة، بل يعتبرون أن تلك المهن إهانة لكرامتهم ولإنسانيتهم، وأن مهمتهم أكبر من ذلك، كيف يعقل لحاصل على شهادة الماستر أو الدكتوراه أن يبيع الفواكه على عربة كل مرة يتم حجزها له؟
هل أتاجر ببناتي؟ إنني لم أتجاسر على هذا الأمر كما يفعل الكثير من أرباب الأسر الذين يعيشون ويحجون من عرق بناتهم. إنني أفضل أن أسد عليهن في البيت وأن أكسر ظهري في مقاولات البناء وأكدح من أجلهن ولا أدفعهن لبيع لحمهن.. إنهن مسكينات صابرات على الوضع، وراضيات بالقسمة والنصيب، ولا يطالبن بأكثر من كسرة خبز، وأنا راض عنهن، لأنهن لم يهربن مع تجار المخدرات أو مع تجار المتعة، كما فعلت بنات كثير من جيراننا. إن بناتي يدفعن ملفاتهن إلى مباريات التربية والتعليم، والأمن الوطني، والشركات.. فيخونهن الحظ، الذي تعزوه أمهن إلى شعوذة الحاقدين. لمَ يحقدون علينا؟ هل أملك الحافلات والعقارات والمصانع والشركات وأحتقرهم؟ أرجو لهم العفو والمغفرة من الله.
وأخيرا أطالب، سيدي الوزير، بفرصة لأولادي ولو على الأقل الذين يتكدسون في البيت. ونحن لا نطالب بأكثر من حقنا. فمن حق كل حاملي الشهادات العمل والحق في الحياة الذي لا ولن يتأتى بدون كفاح، ولا نريد شكاوى واعتذارات.. فكما يقول ديغول: «ليس من حق وزير أن يشكو، فلا أحد أجبره على أن يكون وزيرا».