شوف تشوف

الرأيمجتمع

مضامين اغتصاب المرأة

بقلم: خالص جلبي

 

أكتب هذه الأسطر وقد ودعت الملكة إليزابيث الحياة عن عمر 96 عاما، وحكمت (بدون حكم) 70 عاما. الكثير قال حكمت بدون انقلابات وحمامات دم، وجوابي أن استقرار البرلمان، ولجم الحكم الملكي المطلق بدأ منذ عام 1649، مع قطع رأس الملك تشارلز الأول على يد كرومويل، ورسوخ الحياة البرلمانية، وتحول الملك إلى بشر محبوس في مربع القانون والدستور.

وبالمقابل فقد لفت نظري تلك البلاد جو الخيانة في أعلى المستويات، وحرية المرأة، خلاف الوسط الشرقي كما رأيته في الفيلم التركي عن المرأة «جول»، وتعني زهرة تركها زوجها أمانة عند أخيه المتزوج، وهو في طريقه لباب الرزق في كندا، فهجم الأخ في غيابه، ثم اتهمها وضربها كما في قصة زليخة ويوسف، ولكن هنا لم يكن ثمة عادل فهيم يستنطق وقائع الحادثة، ليعرف المذنب من البريء كما في دم يوسف. تتابع المرأة رحلة الهرب ليطمع بها من جديد سائق عائلة آوتها للعمل، فتطرد، لأن السائق يقول: هي باب السوء أرادت تسميم طفل العائلة، قالها لأنها لم تستجب لبوائقه. تتابع الهرب فتنقذ رجلا يتعرض للقتل، فيأخذها مكافأة لشهامتها إلى سيدة تدير دارا للدعارة الراقية. أخيرا يرسو مصيرها عند رجل مسن، باعتها العصابة زوجة، ولكن لم يتم الأمر وينتهي الفيلم بحادث سير يودي بحياة الأخ المفتري، ليعترف له وهو يغرغر بالحقيقة. أما من ساقها إلى دار الدعارة، فالقصة معروفة ينتهي قتلا، ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق. أخيرا يعرف الزوج الحقيقة، فيطلب العفو والسماح، فتغفر له. وكان يجب أن تفعل أكثر، ولكن هذا هو وضع المرأة الشرقية، امتهان واتهام وعذاب، بل وأحيانا قتل الشرف.

في هذا الصدد صدر كتاب في السوق الألمانية، بقلم السيدة «غابرييل كوب Gabriele Koepp»، بعنوان «لماذا كنت فقط فتاة؟Warum war ich bloss ein Maedchen» والترجمة الأدق هي كما في التعبير القرآني؛ وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت. فيمكن ترجمتها، يا رب لماذا خلقتني أنثى؟

حاولت فيها هذه السيدة التي تجاوزت الثمانين، رواية قصتها بدون تزويق ومواربة وإخفاء وإقصاء، في محاولة لكسر حاجز الصمت، الذي تحاول المرأة فيه أن تخفي انتهاك أنوثتها.

قامت فيه بكل شجاعة بحكاية قصتها في الحرب العالمية الثانية، وتعرضها للاغتصاب من قبل الجنود السوفيات، الذين كانوا يزعقون العين بعينين. اغتصبوها مرارا وتكرارا على مدار أسبوعين، حطموا حياتها ونغصوا عيشتها حتى هذه اللحظة. السيدة كوب تقول بعد أن عاشت 29200 يوم: لقد تدمرت حياتي في 14 يوما، حين كنت في سن 15 عاما.

إن قصة اغتصاب النساء في ألمانيا بعد الاجتياح السوفياتي فصل أسود في تاريخ الأمتين، ويجب رواية هذا الفصل الأسود من تاريخ الإنسان، كما حصل في البوسنة التي اغتصب فيها أكثر من 50 ألف امرأة، التي تحوي أرضها من الحكايات والمذابح الجماعية، ما يجعل التاريخ الإنساني أقرب لرواية عبثية.

وترتب عليه أمر قانوني من الأطفال غير الشرعيين، فالرحم لا يعرف المني من أي جاء؟ بل تتفاعل معه البويضة سفاحا كان، أو متخذات أخدان، أو نساء مغتصبات، أو خليلات سريات، أو زنا لمحظيات، فهنا يسري قانون مختلف من البيولوجيا لا علاقة له بقوانين العائلة والوفاء والحب والمودة والعلاقات الإنسانية.

الحيوانات تتناسل بالطريقة نفسها، ولا تعرف قانون الحب والوفاء والإخلاص الزوجي، بل تتناكح البهائم، وفق قانون غريزي بحت، وكذلك يحصل في ظروف الاغتصاب، من التناكح البهيمي وأسفل منه، باغتصاب الإرادة الإنسانية، فالمرأة تسلم بدنها لمن تحب وتشاركه العملية الجنسية، وأكبر دليل على ذلك من هذه العلاقة الإنسانية هو طريقة التقابل في العملية، ومنه وصف الرب العلاقة بغشاء رقيق من تهذيب العبارة، فقال ليسكن إليها زوجها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به، بل إنه يذهب حتى في اللحظة الشهوانية إلى تلطيف العبارة في سورة «يوسف» بتعبير هيت لك. ولقد همت به وهم بها، لولا أن رأى برهان ربه.

السيدة كوب الساكنة حاليا في برلين سجلت الوقائع بدقة بالغة وباللحظات، بدون زخرفات في العبارات، فجاءت فيلما مصورا للوقائع، ولم تلفظ كلمة اغتصاب قط، بل استخدمت تعبيرات مثل البوابة إلى الجحيم، ومكان الرعب. وقام «فيليب كوفيرت Philipp Kuwert» بدراسة هذه الظاهرة الرضية الصادمة للروح (Trauma)، على 27 سيدة من هذا النوع، لعلهن آخر من يمكنهن أن يروين كامل الحكاية، فكل جيل الحرب فَنِيَ ولم يبق من مخبر على هذه الوقائع الفظائع، فمعظم النسوة المستجوبات فارقن الحياة 95 في المائة منهن، ولعل السيدة كوب قد تكون آخر من يتكلم بهذه الصراحة والجرأة وعن نفسها، بدون خجل وشعور بالذنب، شهادة للعالمين عن جرائم بني البشر.

ومما ظهر في الدراسة الميدانية لما جرى من فظاعات الحرب، أنه وعقب انهيار الرايخ الألماني تم اغتصاب مليوني امرأة ألمانية.

وتذهب المؤرخة «بيرجيت بيك هيبنر Birgit Beck – Heppner»، المختصة في أبحاث الاغتصاب الجنسي والحرب، أن ما يجري من حوادث الاغتصاب لا يذهب بالدرجة الأولى إلى إذلال الشعب المحتل، بل هو إشارة متعمدة إلى أنه ليس من جيش يحمي ولا قيادة سياسية تدير دفة المجتمع، وأن المجتمع مستباح بكل ما فيه للغازي. ولأن المرأة تمثل الطرف الضعيف، فقد جرت العادة أن الاغتصاب يحدث عادة في العلن أمام الشهود، بدون خجل ورحمة، فلا يبقى الإنسان إنسانا، بل شيطانا مريدا ووحشا كاسرا وغولا مخيفا.

قصص الاغتصاب تعني اغتصاب الإرادة والعدوان على أصل الحياة، بتحميل المرأة حملا لا تريده، وتحويل المرأة إلى قطعة قذرة، بدل الرحمة والجمال والأنوثة الرائعة.

قالت امرأة بوسنية في معرض الاغتصاب: كنا نشعر بأننا لسنا من طينة البشر، بل أدوات للقذارة والامتهان. ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم. وحسب الإنجيل مع الفقهاء وقد أحضروا زانية للرجم، فقال قولته المشهورة: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. 

 

نافذة:

جرت العادة أن الاغتصاب يحدث عادة في العلن أمام الشهود بدون خجل ورحمة فلا يبقى الإنسان إنسانا بل شيطانا مريدا ووحشا كاسرا وغولا مخيفا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى