مصير الحرب
بقلم: خالص جلبي
قد يستغرب القارئ لو قلت له: إن زمن الحرب قد ولى وإننا نطأ بأقدامنا عتبة (عالم السلام) ونحقق علم الله القديم فينا، (1). وسيعتبرني بعضهم مسرفا في التفاؤل أو غير واقعي، بل قد يرى البعض أنني أتكلم ضد التاريخ وأحداث العالم! نعم قد يختلط هذا الأمر على كثير من الناس، وهم يسمعون طبول الحرب ويرون فرقعات السلاح في أرجاء المعمورة، ولكن الغوص الصبور والتأمل الفاحص في بطن الواقع، سيكشفان الغطاء عن بصيرتنا؛ أن هذه المظاهر هامشية وجانبية أمام زخم التدفق العام لحركة التاريخ، فهذه الفرقعات هي بقايا فلول جيش منهزم أو محتضر في سكرات الموت، فالعالم أصبح الآن وكأن رأسه في عالم السلام وقدماه ملوثتان في برك الدم وهو يخرج منها، فدماغه مع العهد الجديد، وأطرافه ما زالت في العهد القديم، وعدم تصديق هذا التحول النوعي الجديد يأتي من عدم حضور العالم و(شهود ) ما يحدث فيه، والكهنة (الجدد) للعالم الصناعي يدركون تماما أن سحرهم قد بطل وأن أصنام القوة لا تضر ولا تنفع، ولكنهم يحاولون احتكار الامتيازات في العالم الجديد حتى الرمق الأخير.
إن صورة الدمار والحروب في بؤر التوتر والنزاع تشوش البانوراما (الصورة الشمولية) التي رسمناها عن مصير الحرب وزوال المؤسسة العسكرية، فماذا نقول عن مذابح رواندا والبوسنة؟ وصراع أذربيجان والأرمن؟ والحرب الأهلية في الصومال وأفغانستان؟ ولاحقا كوارث الشرق الأوسط، بل ماذا نقول أمام شهادة (ويل ديورانت)، وهو المؤرخ الحجة في التاريخ الذي يقول في آخر كتاب صدر له: «الحرب أحد ثوابت التاريخ لم تتناقص مع الحضارة والديموقراطية، فمن بين السنوات الحادية والعشرين بعد الثلاثة آلاف والأربعمائة سنة الأخيرة (3421) من التاريخ المسجل، لا توجد سوى (268) سنة بغير حرب»، (2). فعلى حساب ديورانت المذكور، يصبح تاريخ الجنس البشري في غاية الظلام والإحباط، لأنه مع كل دورة أربعة عشر عاما في التاريخ تلطخت ثلاثة عشر عاما منها بالدم الإنساني، وسكت منجل (عزرائيل)، ملك الموت، سنة واحدة فقط! فإذا أخذنا هذه الصورة القاتمة لم تكن الوحيدة من مآسي التاريخ المروعة، وجعبة التاريخ مليئة من مثل تدمير حضارة الأزتيك في المكسيك على النحو الذي رسمه (تزفيتان تودوروف) في كتابه «فتح أمريكا مسألة الآخر»، (3)، حيث كشف النقاب بعد مرور خمسة قرون ومن خلال استنطاق النصوص التاريخية نفسها للغزاة الإسبان (المبشر لاس كاساس) عن إبادة 80 مليونا من أصل 100 مليون نسمة كانوا يعيشون في الأمريكيتين، تمت إبادة معظمهم على يد الإسبان والبرتغاليين. أم ماذا نقول عن حصار قرطاجنة وذبح معظم سكانها على يد الرومان عام 164 قبل الميلاد، وحمل ما تبقى منهم عبيدا إلى ساحات المجالدين لتسلية الرومان المتخمين؟ أم ماذا نتكلم عن تراجيديا شعب (الوبيخ) من شعوب شمال قفقاسيا المجاورة لمنطقة الشيشان الحالية، الذي لم ينقل إلينا خبره إلا رجل واحد فقط، سجل النهاية المروعة لذوبان أمة بأكملها في قصة (آخر الراحلين )؟ (4)، بحيث تنقل لنا بوضوح مأساة شعوب شمال قفقاسيا في منتصف القرن التاسع عشر، بنزوحهم عن موطنهم الأصلي وتفرقهم في تركيا والأردن وسوريا ومصر، (5). هذه القصة من قصص التراجيديا التي لا تقترب منها قصص التراجيديا العالمية بشيء، لا قصة «البؤساء» أو «قصة عاصفة وقلب» لــ(فيكتور هوغو)، لا قصة «ماجدولين» للمنفلوطي، أو قصص دوستويفسكي وتولستوي، لأنها رواية شعب يفنى بكامله فلا يبقى حتى من يقص خبر اختفائه من سطح الأرض. إنها ليست قصة عاطفية ومأساة فردية، بل هي مصير أمة ونهاية شعب بالكامل، إنها قصة يصاب من يقرؤها بالصدمة ولا يتركها إلا وقد بكى مرات ومرات. وروعتها أنها ليست قصة من تأليف الخيال، بل هي مأساة واقعية حدثت بالفعل، عن تاريخ الإنسان الوحش وبطشه بأخيه الإنسان .. إلى درجة أن البعض فكر أنه من الأفضل للإنسان أن يهرب من المجتمع ويرجع إلى الغابة التي خرج منها مرة أخرى، فثعابين الغابة ووحوشها أرحم من بطش الإنسان وظلمه… ويروي لنا القرآن قصة فتية الكهف، الذين هربوا إلى الجبال ولجؤوا إلى الكهوف، لأنهم توقعوا شر ميتة في ما لو عادوا إلى قومهم (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم) كله بسبب الخلاف في الرأي، حتى ضنوا بالكلب أن يعيش في ذلك المجتمع، فمجتمع من هذا النوع ليس فيه الضمانات حتى للحيوان! (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا)، (6). ولا غرابة في هذا الكلام، فالمجتمع الإسلامي لا تموت فيه القطط جوعا والكلاب هرسا بدواليب السيارات، بل يغفر الله لمن سقى كلبا عطشانا، ودخلت النار امرأة أجاعت قطة حتى الموت.
مراجع وهوامش:
(1) تأمل الحوار بين الله (جل جلاله) والملائكة في سورة «البقرة»، فالإنسان في نظر الملائكة متهم بأنه مجرم ومخرب ((أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء))، في حين رأى الله تعالى فيه كائنا آخر ((إني أعلم ما لا تعلمون)). (2) دروس التاريخ – ويل ديورانت – ترجمة علي شلش – دار فكر ص 155. (3) فتح أمريكا مسألة الآخر – تزفيتان تودوروف – سينا للنشر- ترجمة بشير السباعي – ص 143. (4) آخر الراحلين – رواية قفقاسية – باغرات شينكوبا – ترجمة ونشر محيي الدين سليق.
(5) تتناثر قرى (الشراكسة) في المناطق المذكورة، وهي بقايا الهجرات المروعة لشعوب شمال قفقاسيا، ولذا فإن الصراع الحالي في الشيشان هو استمرار القصة الأليمة السابقة. (6) «الكهف» الآية: رقم 18.