مصير الأسد يعود إلى الواجهة مجددا
القصة بدأت بتقرير إخباري نشرته صحيفة «الحياة» على ثمانية أعمدة في قمة صفحتها الأولى يوم الجمعة، وأكدت أن هناك تفاهما أمريكيا روسيا على رحيل الرئيس بشار الأسد إلى دولة ثالثة في غضون ستة أشهر، ولا نعتقد أنها، أي الصحيفة، يمكن أن تقول ما قالته دون أن تكون المصادر الدبلوماسية التي سربت لها هذا الخبر تريد إيصال رسالة، أو حتى تفجير «قنبلة» قبل أسبوع من انطلاق جولة المفاوضات المباشرة بين الحكومة والمعارضة أول (الاثنين) في جنيف.
في عالم الصحافة، العربية والأجنبية منها على حد سواء، تعتبر «التسريبات» من قبل جهات دبلوماسية أو سياسية «مجهولة» من الأمور المألوفة، واختيار الزميلة «الحياة» المملوكة لناشر سعودي، اختيار «متعمد» ويشي بالكثير، خاصة عندما يتعلق الأمر بالملف السوري.
حتى نفهم الغرض الأساسي من هذه «التسريبات» والظروف المحيطة بها لا بد من الرجوع إلى الوراء قليلا، وبالتحديد إلى التصريح الذي أدلى به سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي إلى وكالة أنباء «نوفوستي» الروسية الرسمية قبل أسبوع، وقال فيه «إن الولايات المتحدة تفهمت موقف موسكو بأنه ينبغي عدم مناقشة مستقبل الرئيس الأسد في الوقت الراهن»، وجاء هذا التصريح بعد اجتماع مطول استمر أربع ساعات في الكرملين حضره الرئيس فلاديمير بوتين، ووزير خارجيته سيرغي لافروف، إلى جانب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لمناقشة الأزمة السورية ومصير الرئيس الأسد، والتحضير للجولة الثانية من مفاوضات جنيف.
الإدارة الأمريكية، والمتحدثون باسم بيتها الأبيض ووزارة خارجيتها التزموا جميعا الصمت، ولم يعلقوا على هذا التصريح الروسي المفاجئ، الأمر الذي أعطى انطباعا قويا بأن التفاهمات التي تم الكشف عنها حول وضع مصير الرئيس السوري جانبا في المرحلة الحالية على الأقل تنطوي على الكثير من الصحة.
ما الذي تغير حتى تأتي هذه التسريبات المعاكسة والواضحة، وتتحدث عن رواية مغايرة تؤكد رحيل الرئيس السوري إلى دولة ثالثة (لم تحددها) ولكن من المرجح أنها إيران، تنسبها إلى مصادر دبلوماسية أمريكية عليا؟
لا نملك جوابا واضحا حتى الآن، ولكن القراءة السريعة المتعمقة لردود فعل الروس التي عبر عنها لافروف في تصريحات «غاضبة» و«هجومية» تكشف عن حرج روسي، و«نجاح» دبلوماسي أمريكي، و«انهيار» وشيك لمفاوضات جنيف المقبلة، وربما قبل أن تبدأ.
لافروف اتهم الأمريكيين بشكل مباشر بالوقوف خلف هذه التسريبات، ووصف عملية التسريب هذه بأنها «قذرة» ومضللة، وغير نزيهة، وترمي إلى تشويه الواقع″، وقال في مؤتمر صحافي عقده مع نظيره الصربي في موسكو، «إن المزاعم حول وجود اتفاق حول مصير الأسد قلب للحقائق، ومساع لطرح المرجو كأنه أمر واقع″، وأضاف أن قرارات مجموعة دعم سورية تؤكد أن لا حق لأحد باستثناء الشعب السوري في تقرير مصير القيادة السورية، والرئيس بشار الأسد ومن خلال انتخابات ديمقراطية حرة».
نشم رائحة أزمة، بين القوتين العظميين نفسيهما، وأخرى تتجمع سحبها، بين النظام والمعارضة السورية، وهي أزمة تفرخ أزمات، ويمكن أن تنعكس دبلوماسيا بإلغاء أو تأجيل المفاوضات المقبلة، وعسكريا من خلال تصعيد في ميادين القتال، تؤدي إلى انهيار «الهدنة» المعلنة قبل ثلاثة أشهر وحققت نجاحا ملحوظا، وهي هدنة باتت تترنح في ظل هجمات الجيش السوري وطائراته على الغوطة الشرقية، ومواقع «جيش الاسلام»، حسب اتهامات المعارضة.
من الواضح أن «التسريبات» الأمريكية لم تأت من فراغ، ولم تكن زلة لسان، ولا دخان بدون نار، فمعارضة الرياض السورية صعدت من مطالبها، وصلبت من موقفها، وانعكس ذلك من خلال تصريحات السيد أسعد الزعبي رئيس وفدها إلى جنيف التي قال فيها «إن الرئيس الأسد لن يبقى ولو ساعة بعد تشكيل هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة»، وسارع البيت الأبيض عبر المتحدث باسمه إلى تأييد هذا الموقف، حيث قال جوش إرنست «مشاركة الرئيس الأسد في هيئة الحكم الانتقالي أمر غير مطروح النقاش»، ولكن سيأتي من يجادل وبقوة أن الرئيس الأسد بقي في السلطة خمس سنوات، رغم تنبؤات الكثيرين، ومن بينهم الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان، والأمريكي باراك أوباما بأن أيامه معدودة.
في ظل هذه الشروط المسبقة المتوازية مع تصعيد في الموقف الأمريكي، نعتقد أن مفاوضات جنيف باتت على كف عفريت، وأن الوفد الرسمي السوري الذي يقوده بشار الجعفري قد لا يحزم حقائبة ويتجه إلى جنيف في الموعد المقرر، لأن التعليمات التي وجهت إليه، والتي تؤكد أن مقام الرئيس «خط أحمر»، ما زالت على حالها، ولم يطرأ عليها أي تغيير، فالانتخابات البرلمانية التي طالب الأسد بعقدها بعد يومين من مفاوضات جنيف ستسير في الموعد المحدد، والسقف الأعلى للتنازلات السورية الرسمية، حكومة وحدة وطنية موسعة تضم السلطة والمعارضة تضع دستورا جديدا.
«دار أبو سفيان» السورية ما زالت على حالها، و«صاحبها»، وبعد استعادة مدينة تدمر من «الدولة الاسلامية» بمساعدة الروس و«حزب الله» يزداد ثقة بنفسه وجيشه، وخطوطه الحمر ستزداد احمرارا بالتالي، والأيام المقبلة ستكون ساخنة.. إن لم تكن ملتهبة، على الصعد كافة، أو هكذا نعتقد.