شوف تشوف

الرأي

مصير إسرائيل بعين مؤرخ يهودي (1 ـ 2)

بقلم: خالص جلبي

إن نهاية إسرائيل أمنية يتمناها العرب الغائبون عن التاريخ على نحو خوارقي، كما هو في تنبؤات ياسين وجرار وآخرين أنها ستكون عام 2022 أو 2023، حسب لوغاريتم خاص من إحصائيات لأعداد حروف وكلمات. كل هذا يتم في جو من عصر الظلمات السياسي، يذكر بأيام دول الطوائف في الأندلس. ولكن هذا العنوان (Israel amAbgrund) جاء في التحليل الذي تقدم به المؤرخ الإسرائيلي (رويفين موسكوفيتش Reuwen Moskowitz)، في مجلة «دير شبيغل» الألمانية مع مطلع عام 2002 م، في العدد الثاني. وهو يحمل ثلاث دلالات: أن سياسة العنف التي تولى كِبِِْرَهَا شارون لم تأت بالأمن لإسرائيل، بل أدخلت الرعب إلى كل بيت. وأن قوة إسرائيل هي في هذه الأقلام الحرة التي تمارس النقد بدون أن تخشى على مصيرها أن يرسو في أقبية المخابرات تحت يد الجلادين. وأن بني إسرائيل ليسوا سواء، فمن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ولم يكن من فراغ أن تكون حجة القرآن «أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل». وشهادة (موسكوفيتش) ليست الأولى والوحيدة، وهناك الكاتب (أوري أفنيري Avnery Uri)، الذي كتب تحليلا موسعا عن حرب الخليج ومصير إسرائيل تحت أسطورة (نيسوس)، الكائن الخرافي الذي نصفه حصان ونصفه إنسان، كلفته زوجة هرقل أن يغمس قميصا في ينبوع الحب فيلبسه هرقل فيزداد هيامه بها، ولكن (نيسوس Nesus) الخبيث عمد إلى نبع تطفح بالسم فنقع القميص فيها، وحمله إلى هرقل الذي لبسه فمات به مسموما، وهو يظنه عربونا لحب لا ينطفئ لهيبه. كان (أفنيري) يقول إننا على ما يبدو قد قضي علينا، وإن قدرنا أننا لبسنا قميص (نيسوس) وهي الضفة الغربية وقطاع غزة، ولسوف نموت بها كما حصل مع هرقل. ولقد لاحظت الفرق بين صحافتنا وصحافة إسرائيل من هذا التحليل على مستويين: فالرجل (أفنيري) كتب تحليله الخطير وقد شمرت الحرب عن ساقها، فنشرت مقالته في مجلة «دير شبيغل» الألمانية جنبا إلى جنب مع عنوان مثير عن (جريمة حرب) قامت بها أمريكا في المطلاع، حينما انسحبت القوات العراقية من الكويت. قال التقرير يومها إن القوات المنسحبة تمت إبادتها وهي في طريق العودة بأعداد مخيفة من الجنود والعتاد، لذة في القتل بدون مبرر لقوات تنسحب. أما (أفنيري) فقد قام بتحليل الدوافع الخلفية للحرب، وذكر ما لا يقل عن عشرة عناصر، ليصل في نهاية تحليله إلى شيء مبلور. حاولت عرض قسم منه في أكثر من منبر إعلامي، وبعد مرور عشر سنوات عليه، فلم يحظ بالنشر ويرى الضوء. ونحن حينما نعرض الآراء لا يعني هذا الموافقة عليها، ولكنه عرض للساحة وما يدب فيها من آراء، إلا أن عيوننا لا تحتمل الضوء القوي، كما أن آذاننا قد اعتادت منذ فترة طويلة الأصوات الخافتة، وضوء قوي أو صوت مجلجل قد يعمينا أو يصيبنا بالصمم. ولذا فمن الأفضل أن نقلد حكمة القرود الثلاثة وأن نقول كلاما لا يوقظ النائم ولا يزعج المستيقظ، في عصر الظلمات العربي، والكل مستغرق في النوم. وشاهدي من هذه الواقعة أن نستوعب معنى وجود إسرائيل، بمؤشرات الصحة التي تعيش بها وعليها تقوم. وأن مشكلتنا كما أبرزها (مالك بن نبي) هي مشكلة (انهيار حضاري). وكلما اطلعت على الإنجاز العلمي والتراكم المعرفي الذي يحققه الغرب، تأكد عندي أننا قطار خارج سكة الحضارة تعرض لحادث تاريخي مروع، فأهله بين مصاب وقتيل، وعرباته محطمة متوقفة عن الحركة مرمية خارج القضبان.
والمؤرخ (رويفين موسكوفيتش) الذي نستعرض تحليله، هو من مواليد رومانيا 1928 م، نجا من محارق النازية وهاجر إلى فلسطين عام 1947م، ومتخصص في العلاقات الألمانية اليهودية، نال درجته العلمية تحت عنوان بين العنف وقوة الفكر «فكر القوة أم قوة الفكر؟»، وشارك في تأسيس قرية للسلام بين اليهود والعرب بتل أبيب.
ولأهمية التحليل سوف نعرض أهم الأفكار التي جاءت فيه. يرى موسكوفيتش أن قصة الدكتور (جيكل) الطيب والشرير (هايد)، تصلح نموذجا لفهم قانون نفسي اجتماعي، فإذا كان الأفراد غير محصنين ضد هذا المرض، فإن الشعوب تخضع للقانون نفسه. وإسرائيل لا تشذ عن هذه القاعدة، وفي ضوء هذا القانون يمكن قراءة سفر دولة إسرائيل. إن إسرائيل عانت من الإبادة النازية وتركت فيها جروحا في الذاكرة الجماعية غير قابلة للبرء والاندمال، ولكنها أصيبت بهوس (الأمن)، يحسبون كل صيحة عليهم. ويذكر (جيفري لانغ) في كتابه «الصراع من أجل الإيمان»، أن زوجته اليهودية بعد طلاقه منها بقيت تحمل اسمه فترة طويلة، خوفا من انقلاب الزمان ضد اليهود. إن قصة هتلر مروعة، ولكنها أحيت عندهم شعور عدم الأمن على نحو درامي، وقصة السلاح النووي ولدت من ظلال محارق النازية، كما جاء في عنوان كتاب كامل «خيار شمشون». هذه المرة سنهدم العالم معنا وندخل نحن والعرب والكرة الأرضية نارا تتلظى، ولن نجعل محارق أوشفيتز تتكرر.
ولكن بقدر إعجاب قسم من العالم بقيام إسبرطة الجديدة ومعاناة العرب، بقدر «قباحة صورتها اليومية بعد تورطها في الصراع المحلي»، ويطلق عليها موسكوفيتش «حرب المائة عام في الشرق الأوسط». ويستعرض موسكوفيتش تاريخ المنطقة، أن حاجة إسرائيل إلى الأمن كانت مبررة في ضوء عدم اعتراف جيرانها بحقها في البقاء، ولكن هذا تعرض لانعطاف تاريخي مع زيارة السادات إلى القدس في نونبر من عام 1977م، حيث لحقتها بعد عام اتفاقية (كامب ديفيد) التي نصت على حق الفلسطينيين في الحكم الذاتي لمدة خمس سنوات يخرجون في نهايته بفرصة تقرير مصيرهم السياسي، أو بالاندماج الكونفدرالي مع الأردن. ولكن ضاعت هذه الفرصة حتى جاءت الانتفاضة الأولى بعد عشر سنوات التي تصدت لها إسرائيل بمنتهى القسوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى