مشيئة لا دور للغالبية الحزبية فيها
لم يستوعب القيادي في «الاتحاد الدستوري»، المحامي محمد العلوي المحمدي، معنى أن يتصدر حزبه قائمة المشهد السياسي بعد الانتخابي، ولا يكون من حقه أن يتولى الوزارة الأولى ويشكل الحكومة. كان رجل قانون يحسب على صقور التنظيم الحزبي، وإن غلبت طيبوبته على تشدده. وعلى رغم يقينه بأن المرجعية الدستورية كانت خالية من فرض هذا الاختيار الذي يرهن سلطة تعيين الوزير الأول والوزراء، بإرادة الملك، فقد كان يميل إلى تغليب المنطق السياسي على الحرفية الدستورية.
لعله تصور أن الشعار الذي رفعه حزبه، حديث النشأة، حول تمكين نخب ما بعد الاستقلال من تحمل المسؤولية في دواليب الإدارة والدولة والعمل السياسي، يرادف نوعا من القطيعة مع الأساليب المتبعة في التدبير. فقد كان في عمقه يناهض أي هيمنة إدارية على العمل الحزبي. وكان من القلائل الذين يجاهرون بدعم فريق الوداد البيضاوي في عرين الرجاء، الذي كان يمثله المعطي بوعبيد وعبد الله فردوس وعبد الله المسيوي. يحبذ النقاش بصوت مرتفع ولا يتوانى في انتقاد ما يعتبره خروجا عن المألوف في المناولات السياسية.
وبسبب حماسه الزائد إزاء هذه القضية، اضطر المستشار المتنفذ أحمد رضا كديرة إلى الخروج عن صمته. وكتب في أسبوعية «لوميساج دولانسيون»، التي كان العلوي المحمدي المسؤول عن نشرها أمام السلطة القانونية والحزب، أنه لا يوجد في المرجعية الدستورية ما يفرض على ملك البلاد وقتها تعيين وزير أول من الحزب الذي حاز المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. فقد تناهى إلى علمه بوسائله الخاصة، أن «الاتحاد الدستوري» يمكن أن يتعرض إلى تصدع جراء احتدام الجدل، قبل تشكيل الحكومة، حول أهليته في أن يكون له نوع من الكلمة في اقتراح الوزراء وبناء التحالفات الحزبية.
يصعب الجزم بأن المستشار الذي أثر في المسار الحزبي لتجارب عديدة، كان مقتنعا بالرأي الذي عبر عنه. فهو ذو نزعة ديمقراطية، وإن اقتصرت في الكثير من الأحيان على شكليات الصورة. ولم يتفهم في أي لحظة كيف أنه لم يحظ بالتعيين في منصب وزير أول.. إذ تركت هذه المسألة غصة في نفسه إلى حين غيبه الموت. والأهم أنه كان ينقل النقاش الحزبي إلى الواجهة السياسية والإعلامية، بخاصة عندما يكتب مقالات حاسمة في جريدة «لومتان» تعكس المنظور السياسي للمراجع العليا إزاء مختلف القضايا المطروحة.
سيكون لذلك الجدل الذي انفجر مبكرا داخل أوساط موالية، أثره في تكييف النظرة لاحقا، إزاء المسألة الدستورية، ولئن كان مفهوما أن أحزاب المعارضة التي كان يمثلها الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، ركبت موجة المطالبة بإصلاحات دستورية، تدرجت عبر مراحل وفترات، فإن دخول أحزاب موالية على الخط شكل تحولا مفاجئا. وربما غاب عن سياسيي المرحلة أن السلطة السياسية لم تكن تنظر بارتياح إلى احتكار هكذا مطالب مشروعة من طرف المعارضة، ما أفقد أحزاب اليمين، التي يرفض بعضها هذا التصنيف، حرية المبادرة. مع أنه كان في وسعها أن تقفز على تناقضات النشأة بالدخول على خط المطالب الإصلاحية المتنامية.. لولا أن المسافة بين الرغبة والقدرة تكون أكبر في حالات عديدة.
المشكل في تجارب سياسية سابقة أن الإدارة كانت تخنقها، ليس فقط من خلال إقحام من تراه أهلا للقيام بأدوار على مقاس الطلب، ولكن عبر تقييد مجالات تحركاتها، وحين يظهر من يناهض التدجين السياسي، إما عن ثقة أو سذاجة أو في نطاق السباحة ضد التيار، يكون مآله معروفا. بيد أن الأصل في الظاهرة أن الأحزاب الموالية التي كانت تصفها المعارضة بأنها تولد وفي فمها ملاعق من ذهب، لم تتمرس على غير المشاركة في الحكومات المتعاقبة، وإن بمقاعد وقطاعات محدودة. وفي حال اضطرت إلى تعلم السير في دروب المعارضة تفقد البوصلة وتضيع معالم الطريق عند أول منعطف.
عندما كانت المعارضة تقول إنها أبعدت عن الحكومات منذ أربعة عقود، مع فارق في ذبذبات الإبعاد التي تنفتح أحيانا على صوت المعارضة، تكون محقة إلى حد كبير. لكن القول إن الأحزاب الموالية أدارت دفة الحكومات بنفس القدر من السنوات ليس صحيحا مائة في المائة. ولعل أسطع مثال عن ذلك أن زعيم التجمع الوطني للأحرار أحمد عصمان اضطر إلى مغادرة الوزارة الأولى حين أصبح يتوفر على حزب سياسي بأكثر من مائة وأربعين نائبا. والحال أن خلفه النقيب المعطي بوعبيد تنحى عن الوزارة الأولى حين نبت له حزب بأجنحة طائرة حاز على أزيد من ثمانين مقعدا. مع أن المنطقي في الزعامات الحزبية أنها تنتقل إلى تحمل المسؤولية في رئاسة الوزراء حين يكون هناك من يسندها نيابيا في البرلمان.
على عكس كثير من رفاقه في الحزب، كان المعطي بوعبيد أكثر فهما وتفهما لمعادلة الحكومات والمسؤوليات الحزبية. ولم يفكر في أي وقت، بعد رحيله عن الوزارة الأولى، في امتلاك غالبية داعمة له في البرلمان يمكن أن تعيده إلى الواجهة.. بل إنه زهد بطواعية وقناعة في مسؤولية رئاسة البرلمان، ولم يترشح لمزاحمة غريمه أحمد عصمان. فقد كان يعلم جيدا أن المعطيات التي قادت إلى تعيينه وزيرا أول ووزيرا للعدل، ليست هي نفسها التي انقلبت بعد تأسيس حزبه «الاتحاد الدستوري». وعلى منواله لم يفكر أحمد عصمان يوما في إمكان العودة إلى الوزارة الأولى. وكان يكفيهما أن يقترحا قوائم فضفاضة بأسماء الوزراء الذين يرغبون في الانضمام إلى الحكومات المتعاقبة.
لن يكون العلوي المحمدي استثناء، فقد وجد طريقه ذات تجربة إلى وزارة السياحة، كما أقام صديقه الجامعي عبد الرحمن أمالو في وزارة العدل، لكن وفق مشيئة أخرى.