حمزة التريد
يعتبر ميدان الاستهلاك بالمغرب بمثابة أرضية خصبة لوقوع العديد من النزاعات سواء الفردية منها (والتي تهم المستهلك كفرد) أوالجماعية (التي تهم جمهورا من المستهلكين)، والتي أصبحت تتطلب تدخل الدولة باعتبارها من بين الأعباء الملقاة على عاتقها، وذلك من أجل حلها وضمان العلاقات الاستهلاكية قائمة بين كل من المهنيين من جهة والمستهلكين من جهة أخرى، وهذا لن يتأتى بالفعل إلا من خلال توفير الحماية القانونية اللازمة لكلا الطرفين المعنيين بعقد الاستهلاك، وبالأحرى المستهلك باعتباره طرفا ضعيفا في إطار العلاقة التعاقدية الاستهلاكية.
وبخصوص الحماية القضائية التي تعتبر من بين الآليات الرئيسية لتحقيق الحماية اللازمة للمستهلك، والتي يضطلع الجهاز القضائي بالسهر على ضمان تحقيقها، فقد أبانت عن محدوديتها وكذا فشلها في القيام بالمهمة الموكولة لها على الوجه المطلوب، الأمر الذي حذا بالمشرع المغربي، وكاستجابة للعديد من التطورات التي عرفها ميدان الاستهلاك وما أصبح يخلفه من نزاعات كثيرة، إلى سنه في ظل قانون 08- 31 القاضي بتحديد تدابير حمائية للمستهلك، لمفهوم جديد للعدالة في ميدان النزاعات المرتبطة بالاستهلاك، ويتجلى ذلك في اعتماده لطريق بديل عن المفهوم القضائي سواء من ناحية تعاطيه مع هذا النوع من النزاعات أو غيرها من النواحي الأخرى.
هذا البديل، الذي أصبح الحديث عنه في ظل هذا النوع من النزاعات، أتى كنتيجة لاكتساح وغزو منظومة الوسائل البديلة للعديد من الميادين سواء التجارية أو المدنية أو الجنائية وغيرها، وهذا بالتالي إن كان يدل على شيء، فإنه لا يدل فقط على كون هذه الوسائل قديمة ومتجذرة في مجتمعنا الإسلامي، وانما على كونها أيضا حديثة، وقد تم من خلالها حل العديد من النزاعات، خاصة بعد التطور الاقتصادي الذي شهده العالم في العقود الأخيرة، والتي أدت إلى جعل نمط الاستهلاك يتحول من مجرد مواد بسيطة إلى منتجات حديثة صاحبتها العديد من النزاعات الناتجة بالأساس عن ضعف المركز القانوني للمستهلك سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية، الأمر الذي ينعكس سلبا على وضعه في إبرام هذا النوع من العقود.
وبالرجوع إلى مقتضيات قانون 08- 31 القاضي بتحديد تدابير لحماية للمستهلك، وبالضبط الفصل 111 منه، نجد أن المشرع المغربي قد نص في الفقرة الرابعة، على أنه «إذا كان عدم تسديد الأقساط ناتجا عن الفصل من العمل أو عن حالة اجتماعية غير متوقعة، فإن إقامة المطالبة بالأداء لا يمكن أن تتم إلا بعد إجراء عملية الوساطة».
الجدير بالإشارة، ومن خلال قراءة مقتضيات المادة أعلاه، أن المشرع قد اتجه نحو الأخذ بالوساطة كوسيلة بديلة لفض النزاعات المرتبطة بالاستهلاك، غير أنه سكت عن باقي الطرق البديلة الأخرى، كالتحكيم باعتباره إحدى أهم الأدوات القانونية لفض النزعات بشكل متميز وسريع، الأمر الذي يقتضي منا التساؤل حول: مدى إمكانية اللجوء إلى التحكيم لفض النزاعات المرتبطة بالاستهلاك؟ وأيضا مدى ملاءمته لخصوصية هذه النزاعات؟
وللإجابة عن هذا التساؤل، يقتضي منا الأمر الوقوف عند مدى جوازية التحكيم في فض هذه النزاعات، انطلاقا من القواعد القانونية المنظمة له في ظل قانون 05- 08 (أولا) ومدى ملاءمته لهذا النوع من النزاعات (ثانيا).
أولا: التحكيم في نزاعات الاستهلاك بين الجواز والحظر
إذا كان المشرع المغربي قد اتجه، في ظل القانون 08- 31، إلى الأخذ بالوساطة كوسيلة بديلة لفض النزاعات المرتبطة بالاستهلاك، فإنه سكت، بالمقابل، عن آلية التحكيم دون أن يجيزها صراحة أو يمنعها صراحة. لكن برجوعنا إلى القواعد القانونية المنظمة للتحكيم في ظل القانون الخاص بالوساطة الاتفاقية والتحكيم، نجده ينص في الفصل 308 منه على أنه «يجوز لجميع الأشخاص من ذوي الأهلية الكاملة، سواء كانوا طبيعيين أو معنويين، أن يبرموا اتفاق التحكيم في الحقوق التي يملكون حرية التصرف فيها ضمن الحدود ووفق الإجراءات والمساطر المنصوص عليها في هذا الباب، وذلك مع التقيد بمقتضيات الظهبر الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 (12 أغسطس 1913)، بمثابة قانون الالتزامات والعقود، ولاسيما الفصل 62 منه، والذي ينص على أسباب الالتزامات ومشروعيتها».
وما يؤكد طرحنا القائل بجوازية التحكيم في نزاعات الاستهلاك هو ما نص عليه الفصل 309، «مع مراعاة مقتضيات الفصل 308 أعلاه، لا يجوز أن يبرم اتفاق التحكيم بشأن تسوية النزاعات التي تهم حالة الأشخاص وأهليتهم أو الحقوق الشخصية التي لا تكون موضوع تجارة».
ويستفاد، من خلال قراءة مقتضيات الفصلين أعلاه، وكذا البند 17 من المادة 18 من القانون 08- 31 القاضي بحماية المستهلك، أنه يبقى من حق المستهلك اللجوء إلى التحكيم من أجل فض النزاع القائم بينه وبين المهني، مادام أن اللجوء إلى هذه الآلية لا يعرقل حق المستهلك في اللجوء إلى القضاء لإقامة دعوى قضائية أو اللجوء إلى طريق الطعن. هذا ناهيك عن كون النزاعات المرتبطة بالاستهلاك لا تدخل ضمن خانة النزاعات التي لا يجوز التحكيم بشأنها.
ثانيا: مدى ملاءمة التحكيم لخصوصية نزاعات الاستهلاك
يقصد بالتحكيم عرض النزاع على هيئة تحكيمية تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق تحكيم، هذا الاتفاق يتخذ دائما صيغتين: شرط تحكيم أو عقد تحكيم. ويقصد بالصيغة الأولى ذلك الاتفاق الذي يلتزم فيه أطراف العقد بأن يعرضوا على التحكيم النزاعات التي قد تنشأ عن العقد المذكور. فيما يقصد بصيغة عقد التحكيم ذلك الاتفاق الذي تلتزم فيه أطراف نزاع نشأ بينهم بعرض هذا النزاع على هيئة تحكيمية.
وإذا كانت القاعدة العامة أن اتفاق التحكيم يتخذ إحدى الصيغتين (شرط التحكيم أو عقد التحكيم)، فإن ذلك يعني أن دراسة مدى ملاءمة هذه الآلية لهذا النوع من النزاعات، تتطلب تنزيل كلتا الصيغتين على أحكام هذا القانون من أجل معرفة الطرح السابق، وذلك على الشكل الآتي:
عقد التحكيم في نزاعات الاستهلاك
ينص الفصل 314 من القانون رقم 08- 05 على أن عقد التحكيم هو ذلك «الاتفاق الذي يلتزم فيه أطراف نزاع نشأ بينهم بعرض هذا النزاع على هيئة تحكيمية».
ولعل الملاحظة الأساسية التي تبدو لنا من خلال القراءة الأولية لهذا التعريف، أن اللجوء إلى عقد التحكيم يعمل على منح الاختصاص للهيئة التحكيمية متى توفرت أركانه الموضوعية والشكلية، للبت في النزاع المعروض عليها بغض النظر عن صفة الأطراف.
وبهذا يكون من حق المستهلك اللجوء إلى إبرام عقد التحكيم بينه وبين المهني، في حال وقوع نزاع بينهما، مادام أن هذا العقد لا يتعارض مع النظام العام والأحكام القانونية.
وهو التوجه نفسه الذي تبناه المشرع الفرنسي في مقتضيات المادة 2059 من القانون المدني، التي تجيز عقد التحكيم مهما كانت صفة الأطراف، وبناء عليه يجوز أن يتفق المهني مع المستهلك على إحالة النزاع القائم بينهما على محكم أو أكثر يتفقان عليه. لذا يجب الحرص أكثر من طرف المستهلك على عدم التسرع في التوقيع على عقد التحكيم بعد نشوء النزاع بينه وبين المهني.
شرط التحكيم في نزاعات الاستهلاك
ينص الفصل 316 من القانون نفسه على أن شرط التحكيم هو ذلك «الاتفاق الذي تلتزم فيه أطراف عقد بأن يعرضوا على التحكيم النزاعات التي قد تنشأ عن العقد المذكور».
يستفاد، من خلال قراءة الفصل أعلاه وكذا مقتضيات الفصلين 317 و318 من القانون ذاته، أن لجوء أطراف النزاع إلى تضمين عقدهم الأصلي شرطا تحكيميا يقضي بالتزام الأطراف باللجوء إلى التحكيم في حال وقوع نزاع بينهما ناتج بالأساس عن العقد المذكور، يجعل لهذا الشرط خصوصية تميزه عن باقي الشروط الأخرى المضمنة في العقد سواء من حيث استقلاليته وذلك باعتباره يتضمن الجهة التي سيتم الاحتكام إليها في حال وقوع النزاع.
لكن وبالرغم، من العديد من الامتيازات التي يحملها شرط التحكيم في طياته، فإنه يبقى بالمقابل قاصرا عن توفير الحماية اللازمة للمستهلك، خصوصا إذا علمنا أن اللجوء إلى مثل هذا الشرط، في ظل نزاعات الاستهلاك، يتنافى والقواعد العامة المؤطرة لهذا النوع من النزاعات، وذلك من خلال منحه الاختصاص للهيئة التحكيمية فقط للنظر في النزاع، ومنعه بالمقابل من اللجوء إلى القضاء، وهذا بالتالي ما يتنافى مع الأحكام القانونية الواردة في القانون رقم 08- 31 القاضي بحماية المستهلك، وخاصة مقتضيات المادة 18 في البند 17 منها، والتي تنص على أنه «تعتبر الشروط التعسفية إذا كانت تتوفر فيها شروط المادة 15 ويكون الغرض منها أو يترتب عليها ما يلي:
– إلغاء أو عرقلة حق المستهلك في إقامة دعوى قضائية أو اللجوء إلى طرق الطعن، وذلك بالحد بوجه غير قانوني من وسائل الإثبات المتوفرة لديه أو إلزامه بعبء الإثبات الذي يقع عادة على طرف آخر في العقد طبقا للقانون المعمول به».
ومن السلبيات التي طبعت نظام التحكيم في ظل نزاعات الاستهلاك، كونه لا يستجيب للحاجات الملحة للمستهلكين، خاصة إذا علمنا أن المهني هو الذي يتولى صياغة شروط العقد، وكذا اختيار المحكم للبت في النزاع، وهذا ما يتنافى مع قواعد العدالة والإنصاف، وروح وفلسفة الطابع الحمائي للقانون القاضي بحماية المستهلك رقم 08- 31.
لذلك، تكون النتيجة الأساسية التي توصلنا إليها، من خلال هذا التحليل المختصر، هو أن توجه المشرع المغربي في ظل القانون 08- 31 إلى تبني آلية الوساطة كوسيلة بديلة لفض النزاعات، دون التنصيص على إمكانية اللجوء إلى أعمال آلية التحكيم يعتبر توجها صائبا، وذلك بالنظر إلى العديد من القواعد القانونية التي تؤطر هذه الآلية، والتي من شأن إعمالها أن يؤدي إلى الإضرار بحقوق المستهلك بدل حمايته، لذا كان لزاما على المشرع، مادام أن منطق العدل في ظل هذا القانون يقتضي حماية المستهلك من الشروط التعسفية، أن يصرح بإبطال شرط التحكيم في نزاعات الاستهلاك نظرا للخطورة التي يشكلها هذا الأخير على مصلحة المستهلك باعتباره طرفا ضعيفا في إطار العلاقة التعاقدية الاستهلاكية.