كانت أحكام الإعدام صادرة في حق شيخ العرب ومجموعته في الدار البيضاء، الذين كان أغلبهم ينشطون في صفوف فريق نجم الشباب البيضاوي، تنذر بالأسوأ.
كان شيخ العرب مختفيا لسنوات، وبناء على إخبارية من أحد رفاقه الذي استسلم للإغراء المادي، تم الوصول إلى مكان اختباء شيخ العرب ومرافقيه، وتبادل إطلاق النار مع العناصر الأمنية. والنتيجة كانت هي وفاة شيخ العرب رميا بالرصاص رفقة معاونيه. ولا أحد إلى اليوم يعرف مكان دفنهم رغم أن اسم «شيخ العرب» كان أشهر من نار على علم.
شخصيات كثيرة من عالم الحقل الدبلوماسي والسفارات، وأسماء من الجيش بالإضافة إلى معارضين وسياسيين كانوا معروفين في أوساط المغاربة.. انتهوا بدون قبر
ألغاز تتعلق بمصير شخصيات معروفة
سواء تعلق الأمر بالمغاربة، أو بالفرنسيين الذين أقاموا في المغرب، فإن القاعدة تسري على الجميع. يوجد موتى بدون قبور، وتوجد قبور بدون هوية.
كانت الأمور تتم بفوضوية كبيرة خصوصا خلال السنوات الأولى للاستعمار. بينما كانت الأمور في طنجة، التي كانت منطقة دولية، مختلفة تماما. فمقابر المسلمين كانت معزولة عن مقابر الجنسيات الأخرى، حتى أن القنصليات والتمثيليات الدبلوماسية الأجنبية في طنجة كانت سباقة إلى الحصول على رخص رسمية لتشييد مقابر خاصة برعاياها في المغرب، لتجنب نقل الجثامين بحرا إلى أوربا والمخاطر التي ترتبط بالموضوع. وهكذا استقر رأيهم على تخصيص مقابر منظمة ومخصصة لاستقبال الجنسيات الأجنبية التي كانت تستقر في طنجة خلال ذلك الوقت.
في باقي المناطق كان الوضع مخالفا تماما لحالة مدينة طنجة. ففي داخل المغرب كانت عمليات الدفن تتم بشكل عشوائي، حتى عندما يتعلق الأمر بالموتى في صفوف الجيش الفرنسي. إذ كانت المؤسسة العسكرية عاجزة تماما عن ترتيب نقل آلاف الجثث التي تعود لجنودها وتدبير دفنهم أو نقل الجثامين إلى عائلاتهم، حتى أننا سوف نرى في هذا الملف كيف أن بعض العائلات، قبل نصف قرن، ساءلت البرلمان الفرنسي لمعرفة مصير آلاف المفقودين في المغرب، بالإضافة إلى جثامين آخرين دفنوا في المغرب داخل قبور معروفة تحمل أسماءهم رغم أنهم أوصوا بدفنهم في بلدهم الأصلي وليس في المغرب.
وفي حالة المقيم العام ليوطي الذي أوصى بدفنه في المغرب عند وفاته، فقد تم خرق وصيته ونقلت جثته خارج المغرب في طقس رسمي، رغم أنه أوصى أن يدفن فيه نظرا للارتباط الكبير الذي كان لديه معه، خصوصا أنه عين أول مقيم عام به بعد الحماية.
بالعودة إلى موضوع مجندي الجيش الفرنسي، خصوصا الجنود البسطاء، فقد كانت إدارة المؤسسة العسكرية لا تجد الوقت الكافي لتدبير طقوس دفن جنودها الذين ماتوا في المغرب، وأحيانا كان يصعب عليهم التعرف على هوية بعض الجثث، لتدفن في قبور مرقمة بدون أسماء، وهو ما جعل إدارة الجيش في حرج مع العائلات الفرنسية التي طالبت بمعرفة مكان دفن أبنائها.
لم تتمكن فرنسا من نقل كل الذين ماتوا في المغرب إلى بلدهم حتى تنظم لهم جنازات لائقة. في حين أنها نظمت جنائز فخمة لكبار الشخصيات العسكرية ونقلت جثامينهم من المغرب إلى فرنسا إما جوا أو بحرا، بالإضافة إلى شخصيات أخرى لم تكن عسكرية لكن كانت لها بصمتها في عالم المال والأعمال، ومات أصحابها في المغرب، خلال ظروف الاشتباكات المسلحة أو الاعتداءات التي طالت الفرنسيين على يد المقاومة. وهؤلاء نظمت لهم جنائز فخمة تجنبا لسخط العائلات الفرنسية التي كانت تغادر المغرب نهائيا وتترك خلفها كل شيء، ما دام جيش بلادهم غير قادر على حمايتهم في المغرب. والنتيجة كانت وجود قبور كثيرة، داخل مقابر قديمة، لا يزال أثرها في المغرب موجودا إلى اليوم، رغم أن عمليات الدفن داخلها توقفت منذ عقود طويلة. لكن احترام قدسية الموت حتمت على الجميع احترام قبور لا يعرف أحد عن أصحابها أي شيء.
المهدي بن بركة والذين قتلوه.. كلهم بدون قبر!
كان أصدقاء المهدي بن بركة في المغرب يثيرون دائما قصة الفرنسيين الثلاثة الذين دخلوا إلى المغرب خلال ليلة اختفاء المهدي بن بركة بفرنسا، وأثيرت أسماؤهم في الملف، وأثناء المحاكمة في باريس خلال سنة 1966، وسجلهم القضاء الفرنسي في خانة المبحوث عنهم والمشتبه في تورطهم في اختفاء بن بركة في نهاية أكتوبر 1965.
هؤلاء الفرنسيون كانوا معروفين في أوساط المغاربة، بحكم أنهم أقاموا في المغرب خلال بداية الستينات وكانوا يترددون على أفخم مناطق محور الدار البيضاء والرباط. وهكذا فإن عودتهم إلى المغرب بتلك الطريقة بدت للكثيرين عادية. لكن عندما أثيرت أسماؤهم في ملف اختفاء المهدي بن بركة، اختفوا تماما ولم يعد أصدقاء المهدي أنفسهم يعرفون عنهم أي شيء، رغم أن بعضهم كانت تربطهم معهم صداقة «عابرة».
بقي هؤلاء مختفين إلى أن تداولت أوساط الرباط أخبارا مفادها أنه تم التخلص منهم بطريقة غامضة خلال بداية السبعينات، بسبب محاولة أحدهم ابتزاز شخصيات نافذة في الدولة للحصول على امتيازات. لكن تلك الرواية تبقى ضعيفة، بحكم ألا أحد كان يتوفر على معلومات بخصوص هؤلاء الفرنسيين، «بوسيش»، «باليس»، و»دوباي». لكن ترجح حسب مقربين من إدريس البصري، أن يكون هؤلاء الفرنسيين قد ماتوا في ظروف غامضة، خصوصا أن اثنين منهم كانت حالتهما الصحية غير مستقرة منذ لحظة دخولهما إلى المغرب، ليتم التكتم أمنيا بشكل كبير على طريقة دفنهم.
حسب بعض المصادر التي تابعت قضية المهدي بن بركة في الإعلام الفرنسي، فإنه من المستحيل أن يعود هؤلاء الثلاثة إلى فرنسا بعد الواقعة، بسبب علاقتهم بالملف وإفادة الشهود بتورطهم في عملية الاختطاف، لذلك كثر المدافعون عن طرح استقرارهم النهائي في المغرب إلى وفاتهم. لكن المثير ألا أحد يتوفر على معلومات دقيقة بشأن أماكن دفنهم، اللهم إلا من روايات بوليسية تداولها مقربون من إدريس البصري ويصعب التأكد من مصداقيتها خصوصا أن هذه الروايات تقول إنهم دفنوا في مقابر عادية حتى يستحيل الوصول إلى أية معلومات بخصوصهم.
كانت قضية المهدي بن بركة دائما تستأثر باهتمام الرأي العام الدولي بحكم أنها واحدة من ألغاز اختطاف القرن الماضي التي سلطت عليها الأضواء في الصحافة الدولية. وظل هؤلاء المفقودون موضوع تساؤلات كثيرة، خصوصا أنهم اختفوا تماما كما اختفى المهدي بن بركة، ليصبح الوضع «سورلياليا» عند تأمل النهاية التي وصل إليها «الجلادون» الذين أصبح وضعهم شبيها تماما بالنهاية التي رسمت لضحيتهم. وهكذا يبقى ملف اختطاف واختفاء المهدي بن بركة، ملفا لأشهر شخصية مغربية بدون قبر إلى اليوم.
بالإضافة إلى آخرين كان بعضهم على علاقة بالمهدي بن بركة، أو من منافسيه سياسيا، لقوا المصير نفسه تقريبا، ووجهت أصابع الاتهام إلى المهدي بن بركة بنفسه، بتهمة الوقوف وراء اختفاء عدد من أعضاء حزب الشورى والاستقلال خصوصا في منطقة الشمال. هؤلاء أكدوا أن المهدي بن بركة عندما كان عضوا نشيطا في حزب الاستقلال، كان مسؤولا عن اختفاء شوريين كثر، بدورهم لا تزال عائلاتهم إلى اليوم تبحث عن قبورهم. لكن لم يصلوا إلى أي نتيجة رغم تدخل الهيئات الحقوقية على الخط منذ أزيد من عشرين سنة، لكن بدون نتيجة. فضحايا مذابح الشوريين في أزمة 1956، لا يزالون في خانة مجهولي المصير ولا أحد يقبل تحمل المسؤولية التاريخية للإفصاح عن مصير مُختطفين عذبوا في أماكن سرية في إطار الصراعات الحزبية بين حزبي «الاستقلال» و«الشورى والاستقلال» ولا أحد يعلم مكان دفنهم وما إن كانوا قد دفنوا قرب مراكز الاختطاف، أو في قبور جماعية على حافة الطريق الرابطة بين مناطق اختطافهم وأماكن التعذيب.
برلمانيون فرنسيون أحرجوا بلادهم بخصوص جثامين شخصيات فُقدت بالمغرب
خلال نهاية الستينات توصل برلمانيون فرنسيون بمراسلات من مواطنين فرنسيين ظلوا يدقون أبواب السلطات في فرنسا لمعرفة مصير جثامين أقربائهم الذين تأكد موتهم في المغرب، خصوصا خلال أحداث 1955، التي شهدتها أكبر المدن المغربية. كانت هذه المراسلات بغرض إثارة الموضوع في البرلمان الفرنسي. لكن تلبية الطلبات كان أمرا مستحيلا بسبب تقادم الملفات. ماذا وقع؟
تعرض فرنسيون، أغلبهم موظفون في السلك الدبلوماسي أو ملاك الشركات والعقارات خصوصا في الدار البيضاء، لحوادث إطلاق رصاص متتابعة، أردتهم جميعا قتلى، لكن زخم الأحداث والارتباك الذي وقعت فيه الإقامة العامة الفرنسية فور إعلان حصول المغرب على الاستقلال، حال ونقل الجثامين إلى أصحابها، خصوصا أن هناك من أوصى قيد حياته بنقل جثمانه إلى فرنسا عند وفاته رغم أنه قضى سنوات طويلة في المغرب.
لم تف الإدارة الفرنسية بالتزامها مع بعض العائلات، خصوصا في مدينة مكناس التي كان يعيش فيها أغلب المستثمرين في الأنشطة الاقتصادية التي ترتبط بالحانات وشركات توزيع المشروبات الكحولية على المطاعم والفنادق. هؤلاء تعرضوا بدورهم لهجوم قوي حتى قبل الإعلان عن الاستقلال، وأصبحوا أهدافا متحركة لرصاص المقاومين الذين كانوا ينتمون إلى تنظيمات مجهولة وسرية، حتى لا تخترقها الإدارة الفرنسية.
النتيجة كانت أن أغلب الجثامين تعرضت للحرق، أو تم انتشالها بعد تحللها داخل المحلات أو في الشارع العام أو البنايات المهجورة، حسب تقارير أمنية فرنسية، وتم دفنها في مقابر خصصت لدفن الفرنسيين، دون أن تعلم العائلات في فرنسا أي شيء في البداية.
لكن التحريات التي قامت بها بعض العائلات، والتنقيب في أوراق الأرشيف التي نقلتها الإقامة العامة الفرنسية معها عند مغادرة المغرب، أكدت أن هؤلاء الأقرباء ماتوا فعلا في المغرب، خلال أحداث دموية، ولم تتمكن الإقامة العامة الفرنسية من نقل جثامينهم إلى أقربائهم في فرنسا، وهناك لم يتم التعرف على هوياتهم، ليدفنوا في قبور مجهولة.
وضّحت الإدارة الفرنسية هذه النقطة كالآتي: هناك بعض الجثث التي عُثر عليها في وضعية لا تسمح بالتعرف على هوية أصحابها، كما أنها كانت مجردة من الملابس ولا يحمل أصحابها أية وثائق إثبات أو أي شيء يساعد في التعرف على هوياتهم. وبالتالي فإنهم بالنسبة للإدارة الفرنسية مواطنون فرنسيون لكنهم مجهولو الهوية، وبالتالي تم دفنهم في مقبرة عامة مخصصة لدفن المسيحيين، ووضعوا في قبور تتوفر على ترقيم في السجلات، لكن تلك الأرقام تبقى بلا أسماء!
لم يكن الأمر مفاجئا خصوصا بالنسبة للإدارة. فمنذ 1912، والجيش الفرنسي معتاد على جهل مصير جثامين بعض العسكريين الذين ماتوا في المواجهات مع المقاومة الشرسة التي تعرضت لها فرنسا خصوصا في منطقة الأطلس وورززات ونواحي الدار البيضاء أيضا. ففي هذه المناطق تعرض آلاف العسكريين الفرنسيين لطلقات البنادق بل والطعن بالخناجر، وبقيت الجثامين بين الطرفين، على الأرض لأيام قبل أن يتمكن الجنود من نقلها للدفن، واكتفت إدارة الجيش بإرسال برقيات إلى عائلات الجنود في فرنسا لإخبارهم بوفاة أقربائهم وأحبائهم خلال الحرب، دون أي إشارة إلى إجراءات نقل الجثامين إلى فرنسا. وهناك إلى اليوم غموض يلف الطقوس التي تم خلالها دفن آلاف القتلى الذين سقطوا خلال المواجهات مع المقاومة المغربية، وفقدت عائلاتهم الأمل في الحصول على جثامينهم لدفنها في فرنسا.
مغاربة دخلوا التاريخ بجثامينهم المفقودة
توجد عائلات مغربية، اليوم، داخل تمثيلية قدماء المقاومة وجيش التحرير، لا تعرف بعدُ مصير بعض أفرادها الذين كانوا نشطاء خلال أحداث 1950 و1953 على وجه الخصوص. فهؤلاء اعتقلتهم الإدارة الفرنسية بتهمة التحريض على قتل المواطنين الفرنسيين والإخلال بالنظام العام، حسب ما نطقت به المحكمة العسكرية التابعة للإقامة العامة ضدهم.
وهؤلاء كانوا قد اعتقلوا في الحقيقة على خلفية مشاركتهم في الأحداث الرافضة لنفي الملك الراحل محمد الخامس. وتمت محاكمتهم في زمن قياسي جدا ووزعت عليهم أحكام الإعدام بسخاء وتم تنفيذ أغلب الأحكام في زمن قياسي أيضا، وكان تنفيذ الإعدام يُستغل لإرعاب المقاومين الذين لم تطلهم يد الاعتقال بعدُ. وهكذا كان يتم اقتياد المحكومين من السجن العسكري بالقنيطرة، وتصل أخبار إعدامهم إلى عائلاتهم من خلال مرسول خاص، أو من خلال الجرائد الناطقة بالفرنسية، والتي كانت تخصص حيزا من صفحاتها لنشر لوائح الذين نفذت فيهم أحكام الإعدام.
المشكلة أن مصير جثامين الذين تم إعدامهم، لا تصل إلى العائلات ويتم دفنها غير بعيد عن مكان تنفيذ الاحكام. وإلى اليوم يشير بعض قدماء المقاومة وجيش التحرير إلى أماكن بعينها، ويزعمون أن بعض كبار المقاومين أمثال الشهيد الحنصالي وآخرين من أصدقائه، لا يعرف أحد المكان الذين دفنوا فيه بالضبط، ولا أصحاب بعض القبور التي تقع بجوار الأماكن التي كانت إدارة السجن تنفذ فيها أحكام الإعدام بحضور الحاكم العسكري وممثلين مغاربة عن السلطة أمثال المقدمين والقياد. وبفضل حضور هؤلاء تم تحديد أماكن دفن بعض الشخصيات التي كانت شهيرة داخل تنظيمات المقاومة المسلحة، لكن للأسف لا أحد استطاع تحديد القبور بدقة، بحكم أن عملية الدفن تمت بشكل عشوائي ودون مراجعة للهوية قبل الدفن، وبالتالي استحال تماما تحديد أماكن دفن بعض المقاومين بدقة، وظلت عائلاتهم وقتها تبحث بدون نتيجة، ما دام التواصل مع الإدارة الفرنسية وقتها كان مستحيلا، بحكم أن عائلات بأكملها كانت تطاردها الأحكام الثقيلة بسبب انتماء أفرادها، خصوصا الشباب، إلى المقاومة.
خلايا المقاومة في مراكش عاشت أيضا نفس المشكل، وفقدت العائلات الأمل في الوصول إلى جثامين أقربائهم، الذين كانوا مشهورين جدا في أوساط المراكشيين، بحكم أنهم كانوا يقودون المقاومة المسلحة ضد فرنسا، خصوصا الخلية التي كان ينتمي إليها الفقيه البصري قبل انتقاله إلى الدار البيضاء.
فقد كان الباشا الكلاوي يكن كرها كبيرا لأفراد هذه الخلايا، ويحث الإقامة العامة الفرنسية وإدارة الجيش الفرنسي في مراكش، على اقتفاء أثر المقاومين، خصوصا خلال أحداث 1953 بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس. وتورطت فرنسا وقتها في أحداث دموية أخلت بالاتفاقيات الدولية وبحقوق الإنسان. وكان وقتها علال الفاسي من منفاه في القاهرة، يكتب مراسلات في محاولة لإثارة انتباه الرأي العام الدولي والعربي إلى ما يقع وقتها في المغرب من تجاوزات.
فقد كانت الأخبار القادمة من مراكش تقول إن الإدارة الفرنسية كانت تدفن الشهداء المغاربة في قبور جماعية، بدون أية طقوس ولا احترام لقدسية الموت، وفي مقابر مجهولة تبعد كثيرا عن مقابر المسلمين النظامية التي اعتاد سكان مراكش على دفن موتاهم داخلها. وهو ما كان يضاعف غصة العائلات التي فقدت أبناءها في تلك الأحداث. ولم تفلح المراسلات ولا منشورات الصحف في ثني المؤسسة العسكرية الفرنسية على التخلي عن تلك الممارسات.
والنتيجة كانت وجود مئات الأسماء التي كانت تنتمي إلى المقاومة، بدون قبور معروفة إلى اليوم. رغم أن العائلات وقتها بذلت جهدا كبيرا للوصول إلى أماكن دفن أحبائهم. لكن الطريقة التي كانت تتم بها الأمور، كانت تتعمد إتلاف أي خيط قد يقود العائلات إلى التعرف على هوية المدفونين في تلك المقابر العشوائية التي لا يزال بعضها موجودا إلى اليوم، في مناطق نائية، بينما تحولت مقابر أخرى إلى مناطق سكانية، ربما لا يعرف أصحابها اليوم، في عدد من المدن، أنها كانت مقابر مخصصة لدفن المحكومين بالإعدام، والذين يفترض اليوم أنهم أبطال التحرير!
إعدامات 1964.. لا أحد يعلم إلى اليوم مكان المقبرة
كانت البداية سنة 1960. موجة اعتقالات طالت أسماء من جيش التحرير، بسبب الصراع مع الدولة حول تسليم سلاح المقاومة والاندماج رسميا في الجيش الملكي. كانت وقتها أقطاب السلطة تتصارع في ما بينها، وكبار أسماء الجيش الذي تأسس للتو كانوا يرفضون تماما الجلوس مع قدماء المقاومة إلى طاولة واحدة واقتسام نفس الرتب العسكرية معهم. في ما كان هؤلاء ينظرون إلى بعض العسكريين على أنهم امتداد فقط للوجود الفرنسي في المغرب. وكان هذا الرأي الأخير يضمر الكثير من المغالاة.
انفجرت الأوضاع باعتقال المئات من المنتمين إلى المقاومة، وعم سخط كبير، خصوصا أن التهمة التي وجهت إليهم، التآمر على سلامة ولي العهد وقتها، لم تكن مبنية على حجة واضحة، وهو ما جعل الملك الراحل محمد الخامس يطوي الموضوع نهائيا ويفرج عن المعتقلين.
لكن بعد وفاة الملك الراحل محمد الخامس عادت المناوشات إلى الواجهة بشكل أعنف، وأصبح بعض الذين اعتقلوا سابقا مبحوثا عنهم بعد تأكد الإدارة العامة للأمن الوطني وقتها من أن أولئك الأشخاص لا يزالون يتوفرون على السلاح.
وهؤلاء كانوا يدافعون عن أنفسهم بكونهم لا يثقون في بعض العناصر الأمنية، في إطار تصفية حسابات بعض قدماء المقاومة، ورأوا أنهم لا بد أن يتوفروا على السلاح لحماية أنفسهم من «أصدقاء الأمس» الذين أصبحوا أمنيين.
كانت أحكام الإعدام صادرة في حق شيخ العرب ومجموعته في الدار البيضاء، بالإضافة إلى بنحمو الفاخري ومجموعته الذين كان أغلبهم ينشطون في صفوف فريق نجم الشباب البيضاوي وقتها.
كان شيخ العرب مختفيا لسنوات، وبناء على إخبارية من أحد رفاقه الذي استسلم للإغراء المادي، تم الوصول إلى مكان اختباء شيخ العرب ومرافقيه، وتبادل إطلاق النار مع العناصر الأمنية. والنتيجة كانت هي مصرع شيخ العرب رميا بالرصاص رفقة معاونيه، وترقية الدليمي في صفوف الإدارة العامة للأمن الوطني وحصول أمنيين كثر على امتيازات وترقيات، بينما كانت عائلات المتوفين غير قادرة على السؤال عن مصير جثامين أقربائهم.
نفس الأمر انطبق على قضية المقاوم بنحمو الفاخري، التي جرت أطوارها في نفس الفترة والسياق. اعتُقل بعد أشهر طويلة من تحريات الأمن عن مكان اختبائه رفقة أسرته، وعندما ألقي عليه القبض، تم عرضه على المحكمة ليصدر في حقه حكم بالإعدام. نُفذ الحكم، ليكون من أوائل أحكام الإعدام التي نفذت في المغرب بعد الحصول على الاستقلال، ولم تقو أسرته الصغيرة وقتها على طرح السؤال عن مكان دفنه، وبقيت العائلة الكبيرة ومعارف الرجل، على كثرتهم، يجهلون تماما مكان دفنه، إلى أن طرح الملك الأمر أمام أنظار هيئة الإنصاف والمصالحة في بداية الألفية، ويدخل هذا الملف، وملفات أخرى، في متاهة البحث عن مكان وجود المقابر التي دفن فيها المحكومون بالإعدام في هذه القضية، أو الذين سقطوا بالرصاص بعد الاشتباكات مع البوليس. ورغم أن هؤلاء كانوا من القياديين البارزين في تنظيمات المقاومة أثناء الحماية الفرنسية، وكانت أسماؤهم معروفة وسط المغاربة وحتى عند الملك الراحل محمد الخامس، إلا أن النهاية التي تعرضوا لها كانت تخالف كل التوقعات.
عندما طالبت قنصليات أجنبية الحسن الثاني بكشف مصير قتلى الانقلاب
في الحادي عشر من يوليوز 1971، كان الملك الحسن الثاني يستعد لعقد ندوة صحفية لتوضيح ملابسات ما وقع في قصر الصخيرات، ولكي يؤكد للصحافة العالمية فشل محاولة قلب النظام في المغرب، كان هاتف الديوان الملكي لا يتوقف عن الرنين يومها، ليس لتقديم التهاني للملك الحسن الثاني فحسب، وإنما أيضا لمعرفة بعض المعلومات عن مفقودين في تلك الأحداث، خصوصا الدبلوماسيين الأجانب.
هناك من تأكد خبر موتهم فورا، بحكم أن شهودا كثرا رأوا بأعينهم كيف أن سفراء ودبلوماسيين سقطوا بالرصاص، وهناك من بقي مصيرهم مجهولا بحكم أن بعض الشخصيات البارزة غادرت القصر الملكي فور بدء إطلاق الرصاص، من ناحية الشاطئ، ليختبئوا في أماكن بعيدة عن القصر إلى أن تهدأ الأوضاع، وبقي مصيرهم في ذلك اليوم مجهولا، خصوصا أن الجيش انطلق من القصر صوب الرباط للسيطرة على بناية الإذاعة، وهذا كان سببا مباشرا في جعل أغلب الدبلوماسيين الفارين، يمتنعون عن الالتحاق بالرباط مخافة أن يتعرضوا لإطلاق الرصاص إذا ما تعرف قادة الانقلاب عليهم، وفضلوا أن يختبئوا لأيام داخل منازل بعض السكان المحليين أو قرب بعض الضيعات. وهو ما جعل مصيرهم مجهولا بالنسبة لسفارات بلادهم.
بعد انتهاء الأحداث وعودة الأمور إلى مجراها الطبيعي، كانت مئات الجثث في مستودع الأموات في مستشفى الرباط تنتظر دورها لتدفن، فيما بقيت جثث المتورطين في الانقلاب وجثامين بعض التلاميذ الذين وجدوا أنفسهم داخل دوامة الأحداث بقيت كلها بدون قبر. ولا أحد كان يعلم مصير أصحابها، حتى أن هناك من حاول التوسط لدى الملك الحسن الثاني لمعرفة المكان الذي دفنت فيه الجثث، لكن المقربين منه فقط كانوا يعلمون مكانها.
أسماء عسكرية بارزة، بعضهم برتبة كولونيل أو جنرال أمثال الشلاط، المذبوح.. كلهم دفنوا في قبور مجهولة، خصوصا الذين تم إعدامهم قرب مركز الرماية في نواحي مدينة تمارة، ورجح أن يكونوا قد دفنوا هناك. فيما مصير الجنرال المذبوح بقي مجهولا أيضا رغم أنه كان قريبا جدا من الملك وتورط في الانقلاب، وحسب بعض إفادات الشهود فإن جثته بقيت مرمية فوق عشب حديقة قصر الصخيرات لساعات طويلة ولم يعرف مصيرها في ما بعد.
أما بخصوص الدبلوماسيين الذين سقطوا برصاص الانقلاب وحتى أفراد الحرس الملكي، فقد استغرقت إجراءات نقل جثامينهم وتلقي عائلاتهم للتعازي الرسمية من الملك مباشرة، مدة طويلة بحكم كثرة الجثث وتعقد الإجراءات، بل وصعوبة التعرف على بعضها. وهناك جثامين دفنت في المقابر الرسمية دون التعرف على هوية أصحابها لكن إكراما لحرمة الموتى، أمر الملك الراحل بضرورة دفنهم في مقابر نظامية وليس في مقابر خاصة كما هو حال الذين تم إعدامهم، أو الذين قُتلوا من المتورطين، لتصبح قصة قتلى انقلاب الصخيرات أكبر حدث دُفن خلاله مشاهير في الجيش سرا، ولا يعرف المغاربة إلى اليوم المكان الحقيقي لقبورهم.