يونس جنوحي
في عددها لشهر دجنبر سنة 1932، نشرت مجلة «المغرب» قصيدة مطولة لمحمد بن إبراهيم، المعروف بلقب «شاعر الحمراء»، عنوانها: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ».
والمثير أن هذه القصيدة، التي نُشرت في الصفحات الأولى لعدد المجلة، تعتبر جريئة قليلا، حتى بمعايير اليوم.
المعروف أن أشعار بن إبراهيم لا تُلائم «الجمهور»، وأغلبها لا يمكن طبعا أن يُنشر في المجلات ولا في الكتب، بل حفظه المراكشيون في جلساتهم عن ظهر قلب وتناقلوه، ولا بد أن أغلب قصائده التي نافس فيها «أبا نواس»، أشهر شعراء العرب وأبلغهم، قد نُسيت أو غُيبت. رغم أن بن إبراهيم توفي سنة 1955 وليس في العصر العباسي، إلا أنه كان أحد أبرز شعراء القرن، رغم أن سيرته لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه.
والمثير أن تمكن بن إبراهيم من اللغة العربية فاق العرب، كما لو أنه وُلد في الجزيرة العربية، رغم أنه سوسي الأصل ووالده يتحدر من «هوارة»، ونشأ في أحياء مراكش الشعبية. حياته القصيرة التي لم تتجاوز 58 سنة، كانت حافلة بقصص مع أشهر الشخصيات المغربية. وهناك من يقول إن بعض القصائد التي مدح فيها الباشا الكلاوي هي سبب التهميش الذي طال سيرته بعد وفاته، لكن الحقيقة أن جرأته في الشعر هي سبب اتخاذ الفقهاء المحافظين وقتها موقفا منه، رغم أن أشعاره الأخرى في المدح والغزل تستحق فعلا أن تُخلد في المكتبة المغربية.
المغاربة اليوم يسمعون عن قصيدة شهيرة عنوانها «في المطعم البلدي»، لكن بن إبراهيم لم يحظ بالشهرة نفسها التي حصدتها قصائد مرحلة الخمسينيات.
بل لو كان في المغرب وقتها موجة ملحنين وشركات تسجيل أشرطة، لأصبحت كلمات بن إبراهيم أغاني خالدة ربما تزيح المشرق من قمة «الطرب» الذي طبع القرن الماضي.
إذ إن المغاربة سبقوا المصريين إلى تسجيل الأسطوانات، وهناك معلومات تفيد بأن المغربي الحسين السلاوي سجل شريطه الأول قبل أم كلثوم، في فرنسا.
ماذا كان ليقع لو أن بن إبراهيم تعرف على ملحن مغربي في أربعينيات القرن الماضي مثلا، وسجلا معا أشرطة وتفرغ لتأليف الكلمات، بدل تبديد أشعاره في حفلات العشاء المراكشية التي حصد خلالها شهرة واسعة جدا، كلفته الكثير لاحقا. لا بد وأن ثورة ثقافية كانت لتحدث في المغرب، وبدل أن يتأثر المغاربة بالشرق ويرددوا الأغاني الطربية في حفلاتهم، كان المصريون هم من سيتغنون بكلمات الأغاني المغربية.
فصاحة بن ابراهيم وتمكنه من العَروض، بالفطرة، وتمرده، وحتى الحياة التي اختارها لنفسه، كلها عوامل صنعت منه شاعرا فذا، قبل أن يأتي زمن الرواية. ولو أنه كتب رواية لربما وصل إلى العالمية بعد وفاته.
إلى حدود السبعينيات، كان مجرد ذكر اسم الشاعر بن إبراهيم في جلسة خاصة يثير الإحراج، خصوصا بالنسبة إلى الذين سمعوا حكايات عن قصائده. لكن عندما أمر الملك الراحل الحسن الثاني بجمع أعمال بن إبراهيم، وإصدار ديوان يحمل اسمه بطبعة أنيقة تليق بمكانة شِعره، الذي سبق زمنه بكثير، رُفع الحرج عن سيرته.
لا توجد اليوم دار باسم بن إبراهيم، ولا مكتبة صغيرة ولا حتى محل لبيع اللوازم المدرسية. لقد قال «شاعر الحمراء» كلمته ومضى..
حتى أنه ختم القصيدة التي نشرتها مجلة «المغرب»، بقوله:
«ودعني وذا نصحي وإن كان قارصا وذا مبلغي في العلم والله أعلمُ».
ولو أن ربع أشعار بن إبراهيم نُشرت اليوم، لخرج من يُكفره ومن يتابعه في المحاكم، ولنُصبت له مشانق بعدد حسابات «الفايسبوك»!