مسلييه والعهد الجديد
يذكر المؤرخ الأمريكي «ويل ديورانت»، في كتابه «قصة الحضارة»، حكاية مثيرة عن أجواء الخوف من «التعبير» في أوروبا عن القس «جان مسلييه 1678 ـ 1733 م»، راعي أبرشية «أتربيني» في شمبانيا، الذي كان في كل عام «يمنح الفقراء كل ما يتبقى من راتبه، بعد تسديد نفقات حياته المعتدلة البعيدة عن الإسراف والتبذير»، ولكنه عاش أزمة فكرية حادة بقيت فيها أفكاره محبوسة في زنزانة الجمجمة طوال حياته، في حالة خوف وترقب أن يفتضح أمره ويقرأ الناس ما كتب من هرطقة، وعندما مات «بعد ثلاثين عاما من حياة هادئة مثالية في وظيفة الراعي، قضى نحبه وهو في الخامسة والخمسين، موصيا بكل ما يملك لأهالي الأبرشية». فدفنه أهل القرية بكل إجلال وتعظيم، تاركا خلفه مذكراته في ثلاث نسخ من مخطوطة بعنوان «عهدي الجديد»، وعندما بدأ الناس يطلعون على ما جاء في أوراقه، أصيبوا بزلزال وبدؤوا في صب اللعنات على رأس ذلك الشقي الخائن، كيف استطاع أن يتكتم على آرائه الضلالية، طيلة ثلاثة عقود.
كل التساؤلات الخطيرة واللاعقلانية لنظام الأفكار المسيطر في عصره، قام «مسلييه» باستعراضها بأسلوب شائق، وعرضها في صفحات مطولة، فلم يترك مسألة عويصة أو وضعا غير منطقي للكنيسة والفكر الديني والعرف السائد إلا وتعرض له في نقد لا يعرف الرحمة، ولكنها أسطر كتبها بينه وبين نفسه في هدوء الليل، في غيبة عن عيون الفضوليين والجواسيس والرقيب؛ فلم يطلع عليها كائن قط حتى الموت، مع اعتذار شديد لأهل القرية أنه كتم آراءه عنهم كل تلك الفترة؛ فلم يكن يوما معتقدا بما كان يمارسه من طقوس وصلوات وكنيسة وناقوس و«توسل إليهم في المخطوطة، أن يغفروا له أنه خدم الخطيئة والأهواء طوال مقامه بينهم»، فقد تقلد عمله ليس طمعا في المال، بل كان امتثالا لما أمره به أبويه.
من الطرافة ذكر بعض نفثات هذا الرجل «لن أضحي بعقلي، لأنه وحده يمكنني من التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والضلال… لن أتخلى عن الخبرة، لأنها مرشد وهاد أفضل بكثير من الخيال، أو من سلطان المرشدين. لن أرتاب في حواسي، ولست أتجاهل أنها يمكن أحيانا أن تؤدي بي إلى الخطأ، ولكني من جهة أخرى أدرك أنها لن تضللني دائما … إن حواسي تكفي لتصحيح الأحكام والقرارات المتسرعة التي ملت إلى اتخاذها».
لقد كانت كتابات «مسلييه» في مقاييس عصره أكثر الكتابات إيغالا في مخالفة السائد والمسيطر من الأفكار، لذا لم يتجرأ «فولتير» نفسه إلا على نشر أجزاء منها، ورأى فيها شيئا من التطرف حاول تعديله. ومن الواضح أن «مسلييه» كان قد وصل إلى اللاعودة مع الكنيسة والمسيحية كما فعل الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل»، لاحقا عندما نشر كتابه المثير «لماذا أنا لست مسيحيا؟» وصفوة القول في رأي «مسلييه» إن المؤامرة كانت «بين الكنيسة والدولة لإرهاب الناس، إلى إذعان مريح للحكم المطلق»، وعندما يتحدث عن الحروب الدينية في أوروبا يقول: «زعزعت الخلافات الدينية أركان الإمبراطوريات، وأدت إلى الثورات، وخربت أوروبا بأسرها، ولم يكن من الميسور إخماد هذه النزاعات الحقيرة حتى في أنهار من الدماء. إن الأنصار المتحمسين لدين يدعو إلى البر والإحسان والتآلف، أثبتوا أنهم أشد ضراوة وقسوة من أكلة لحوم البشر أو المتوحشين». وعندما يصل إلى عقيدة الكنيسة في الفداء، طرح السؤال المربك: كيف يمكن أن يضحي الرب بابنه البريء يسوع، الذي لم يرتكب إثما؟
وعندما يتحدث عن ازدواجية رجال الدين في عصره، يقول: «ويكفي لنتحرر من الوهم، أن نفتح أعيننا على أخلاق أشد الناس تمسكا بالدين، ونفكر فيها مليا، وسنرى طغاة متعجرفين ورجال البلاط ومغتصبين لا حصر لهم، وحكاما لا ضمائر لهم، ودجالين وزانين وفاسقين وإباحيين فجرة وعاهرات ولصوصا وأوغادا من كل صنف». ليصل في نهاية أطروحته إلى أن «الناس أشقياء لمجرد أنهم جهلة، وهم جهلة لأن كل شيء يتآمر على الحيلولة بينهم وبين الاستنارة، وهم أشرار لمجرد أن عقلهم لم يتطور بدرجة كافية». «لقد طال العهد بمعلمي الناس، وهم يركزون أبصارهم على السماء، فليرجعوا بأبصارهم ثانية إلى الأرض. لقد تعب الذهن البشري من اللاهوت المبهم والخرافات السخيفة والأسرار العويصة والطقوس الصبيانية، فلينشغل هذا الذهن البشري بعد هذا الإرهاق بالأشياء الطبيعية، والأهداف الواضحة، والحقائق المعروفة والمعرفة النافعة».
يعلق «ديورانت» على صدق وصراحة هذا الرجل غير المعهودة، على هذا النسق من العبارات الصاعقة: «هل وجد ثمة عهد أو ميثاق مثل هذا في تاريخ البشرية جمعاء؟ يعيش منسيا لا ذكر له، في قرية قد ترتعد فيها كل النفوس رعبا وهلعا، إلا نفسه هو لمجرد الاطلاع على أفكاره الخفية، ولهذا لم يتحدث بمثل هذه الحرية إلا لمخطوطته… ومن ثم اختمر في ذهن فرنسا، وأسهم في التمهيد لسقوط النظام القديم ونشوة الابتهاج بالثورة الفرنسية».
قام «فولتير» بنشر أجزاء من كتاب الكاهن «مسلييه»، كما أن «ديدرو» و«دي هولباخ» قدما خلاصة له عام 1772 م تحت عنوان «رجاحة عقل الكاهن مسلييه»، ولكن النص الكامل للكتاب لم يطبع إلا بعد 130 سنة من موت صاحبه في عام 1864 م، والمخطوط اليوم محفوظ في المكتبة الوطنية في باريس.
نافذة:
لقد كانت كتابات «مسلييه» في مقاييس عصره أكثر الكتابات إيغالا في مخالفة السائد والمسيطر من الأفكار لذا لم يتجرأ «فولتير» نفسه إلا على نشر أجزاء منها