مسلسل تركي اسمه خاشقجي 2.1
البعض يريد أن يوهم الناس بأن ماضي الصحافي جمال خاشقجي الاستخباراتي داخل النظام السعودي وعلاقاته المتشعبة مع حركة طالبان وبلادن وتنظيم الإخوان المسلمين يبرر قتله بتلك الطريقة المقززة في قنصلية يفترض أنها المكان الأكثر أمانا.
هناك حملة منظمة لتشويه سمعة خاشقجي تصوره كسليل عائلة ثرية من أصول عثمانية لتبرير خنقه حتى الموت أو تقطيعه إربا أو غير ذلك من الروايات المتضاربة بحيث حارت السعودية في تفسير وتبرير مقتله وحيرت معها العالم بسبب سرعة تغير رواياتها، مما دفع ترامب إلى مطالبة الرياض بتقديم سيناريو جدي وجدير بالتصديق لكي يستطيع الدفاع عنه أمام العالم، فترامب يعيش في بلد يتنفس مواطنوه السيناريوهات والمؤامرات والضربات تحت الحزام، شرط أن تكون بإخراج محكم لا يستبلد الذوق والذكاء.
جمال خاشقجي لم يكن ملاكا، هذا شيء لا جدال حوله، فسيرته والمسؤوليات التحريرية والاستخباراتية التي تحمل كلها تجعل منه مسؤولا عن أخطاء سياسية ارتكبت في فترة من الزمن ضد دول وأنظمة وأشخاص، لنتذكر ماذا حدث لصدام حسين فجر عيد الأضحى، وهي فترة كان فيها جمال خاشقجي يمارس السلطة من داخل نظام الحكم، وقد ظل إلى حدود 2017 يعيش تحت عباءة هذه السلطة. لذلك فهو من دون شك كان يعرف أشياء حساسة وخطيرة يمكن أن تهدد النظام، وقتله لم يكن بسبب ما كان يكتبه أو يقوله بل بسبب ما لم يكتبه وما لم يقله بعد.
لكن هذا كله لا يبرر المصير الوحشي الذي لاقاه في قنصلية بلاده بتركيا، ولا أحد في هذا العالم مهما صغر شأنه يستحق أن يموت بتلك الطريقة الهمجية، خصوصا إذا كان السبب هو الأفكار المعبر عنها.
إنها بكل بساطة جريمة شنعاء وحشية وغير قابلة للتبرير بتاتا، وكل من تورط فيها يجب أن ينال عقابه.
لكن هل هي فقط جريمة كشفت عن دموية مخيفة عند مقترفيها أم أنها جريمة أماطت اللثام عن لعبة مصالح كبرى وتوازنات اقتصادية عالمية تتجاوز الصحافي المقتول ؟
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبان عن قدرات خارقة في المتاجرة بدم الصحافي المقتول، وعلى عادة المسلسلات التركية المليئة بدموع التماسيح والخيانات والتي تبدأ لكي لا تنتهي، أعلن أنه سيكشف كل شيء الثلاثاء الماضي، لكنه عندما ظهر في التلفزيون لم يفعل غير إعادة ما كان معروفا من أن الجريمة كان مدبرا لها ولم تكن صدفة، وأنهم يعرفون التفاصيل وسيكشفون عن المزيد منها، ثم عاد مجددا للظهور في التلفزيون وقال إنهم يملكون أدلة على قتل خاشقجي وأنهم سيعلنون عن ذلك قريبا، مما يعني أن هذا القتيل سيعيش طويلا، ما يكفي لكي يحصل كل طرف على أقصى ما يطمح إليه من الكعكة.
والغريب أن الآلة الإعلامية الراعية لهذه الجريمة تغاضت عن كون الرئيس التركي قام بصفقة مع أمريكا في عز وقوع الجريمة وأطلق سراح القس الأمريكي المتهم بالتجسس، دون أن يتساءل أحد عن المقابل، وطبعا فالمقابل كان هو رفع العقوبات التجارية الأمريكية عن أنقرة مقابل استعمال الأدلة التي لدى الأتراك في التهديد والابتزاز فقط وليس للنشر، ويكفي فقط مراجعة تقلبات أسعار الليرة في السوق العالمية لكي نكتشف أنها بدأت في التحسن مباشرة بعد إطلاق سراح القس الأمريكي، فقد أصبح سعرها اليوم في حدود 5,73 دولارا بعدما كانت في حدود 7,80.
لذلك فكل من ينتظر نشر تركيا لما تقول إنه أدلة مرئيّة ومسموعة لديها حول الجريمة سوف يطول انتظاره، فالهدف من إطالة أمد هذا “المسلسل التركي” ليس تحقيق العدالة في قضية جمال خاشقجي بل تحقيق أكبر قدر من المكاسب لإنقاذ الليرة ومعها الاقتصاد التركي من الإفلاس.
ولذلك فمن الواضح جدا أن استراتيجية سلطان تركيا الجديد أردوغان تختلف عن استراتيجية السلطان العثماني محمود الثاني الذي قام قبل 200 سنة من الْيَوْمَ بقطع رأس عبد الله بن سعود أول ملك للدولة السعودية وتعليقه على بوابة القسطنطينية، فأردوغان يبحث إنقاذ عنقه وإخراج رأسه من عنق الزجاجة التي وضعته فيها الولايات المتحدة بسبب الحصار التجاري، ولذلك فهو يتوسل باستراتيجية شهرزاد كما هي في الحكاية الفارسية التي تؤجل كل ليلة إنهاء حكايتها لشهريار لكي تعيش إلى الليلة المقبلة.
وهكذا فأردوغان يحكي كل يوم جزءا من حكاية خاشقجي ويؤجل البقية إلى الغد.
ومباشرة بعد إطلاق أردوغان سراح القس الأمريكي تم رفع العقوبات التي فرضتها واشنطن على تركيا، وأخذ الرئيس التركي وعودا بالكف عن تسليح أكراد سوريا ووافقت أمريكا على التنسيق بشكل أكبر مع القوات التركية في سوريا، ورفع الحصار الاقتصادي السعودي الإماراتي عن قطر.
أما بالنسبة للغرب فيجب على العرب والمسلمين أن يكفوا عن ترديد السخافات والاستمرار في الاعتقاد أن بلدانهم أو أرواحهم أو أموالهم أو كرامتهم تهمه في شيء حتى ولو أبيدوا عن بكرة أبيهم من فوق سطح الكرة الأرضية، فما يهم الغرب هو المواد الأولية التي ترقد في باطن بلدان العرب، أما خطابات حقوق الإنسان والعدالة والحريّة فهذه ليست سوى أدوات يستعملها الغرب لتبرير وشرعنة حشره لأنفه في الشؤون الداخلية لهذه الدول وابتزاز أنظمتها حتى آخر قطرة غاز وبترول.
ولذلك فهذه الجريمة النكراء سوف تنسى كما تم نسيان جرائم أكثر دموية منها بمجرد حصول كل دولة من الدول الأوربية التي ترفع شعار القصاص من النظام السعودي على نصيبها من الكعكة.