شوف تشوف

الرأي

مسلسل الصدف

جهاد بريكي

لكل منا صدفة غيرت مجرى حياته ونقلته من عالم لعالم آخر دون جهد أو تخطيط أو تصميم مسبق. مرة على شكل فرصة عمل ما أو مرض غير متوقع أو شخص لم يكن في الحسبان أو فكرة انبثقت من اللا شيء. فيتولد عن كل ذلك زلزال يهد كل أركان الحاضر ويقلب ما هو كائن وما كان يمكن أن يكون.
نتعلم منذ سنوات الدراسة الأولى كيفية التخطيط الصحيح وتوقع القادم والاستعداد له، نتنبأ بما سيأتي وكيف وأين، ونسخر كل طاقاتنا لإنزال مخططاتنا كما اتفق. حدث بسيط، قد يكون تافها في كثير من الأوقات، يعترض طريقك فتذوب مخططاتك من بين يديك كسراب لا وجود له.
أعيش مع أصدقائي والمقربين من معارفي صدفهم الغريبة، والانقلابات المدنية والعسكرية الطارئة عليهم بعدما اعتقدوا أن أركان حكمهم ضاربة في جذور الحياة. مرة على شكل مرض مزمن يجعل كل أولوياتهم تتغير في لمح البصر، مرة كحمل غير متوقع ولا مخطط له يأتي بطفل فيقلب الحياة رأسا على عقب. ومرات تتكالب عليهم صدف صغيرة لا يشعرون بها تحول مسار سفنهم إلى اتجاه لا تشير إليه بوصلاتهم. 
شخصيا أعتقد أن ما أعيشه هو مخطط كبير مكون من صدف مترابطة في ما بينها يتخللها بعض التوقع الفاشل أحيانا والمتوافق مع الصدف أحيانا كثيرة. تماما كأن تختار أمي اسمي تيمنا بثورة ما في بلاد ما، ليكون لزاما علي تجسيد دور الثائرة الغاضبة طيلة سنوات حياتي. أن ألج مدرسة عمومية كانت معلمة العربية فيها تفضل طفلة أخرى علي، فتدفعني الغيرة لبذل كل شيء لأكون الرقم الأصعب في الإنشاء والصرف والإعراب ومن ثم تصبح الكتابة شبحا يلازمني. أو أن أكون طالبة في صف أستاذ للعلوم ظل يخبرنا لثلاث سنوات متواصلة أن أفضل شيء للإناث هو الطب، فأختاره بحماس ملتهب وأجد نفسي كل يوم أجدف ضد الأمراض والأحزان والموت. ثم ماذا لو لم تصر صديقة لي في سنتنا الرابعة على الدخول إلى مركب جراحي واكتشاف ما يقع هناك، لأصاب أنا بذهول العشاق والسكارى وأقضي الليالي والسنوات أحلم بالتواجد في مركب جراحي بلباس أزرق كلون سماء صيف صافية. صديقتي أيضا أدركتها صدفتها فتركت الطب بعد أن التقت برجل أجنبي في مقهى ما على شاطئ ما، قررا الرحيل بعيدا لبلاد آسيوية أنسى دائما اسمها.
لا شك أن العمل والإنجاز والسعي المتواصل أمر حتمي للاستمرار، كيفما كان الاتجاه الذي تقودك فيه صدفك. فتكون الصدف كجرس الانطلاق المعلن عن بداية السباق ثم تطلق أنت رجليك للريح محاولا استغلالها بما يخدم مصلحتك. يعلموننا دائما، منذ السنوات الأولى وإلى الآن، خاصة أصحاب النصائح المجانية من يحملون حقائب المواعظ يوزعونها أينما توقفت بهم الركاب، كيف نخطط ونتوقع، يوصوننا بالتماسك وبالحفاظ على ما لدينا والثبات على ما نحن عليه. إلا أن لا أحد يهمس لنا خلسة عن إمكانية زوال كل شيء في لحظة ما، عن صدفة يمكن أن تقع في الساعات القادمة قد تكون كفيلة بجعل أولويات الوقت الراهن مجرد تفاصيل لا معنى لها. نتعلم التمسك والتشبث المحموم بما نحن عليه وما نملكه ثم يطرأ علينا تغيير صغير يربكنا ويهزنا ويدخلنا في دوامات الصدمة والهلع.
التخطيط العاقل يشمل التخطيط أيضا لصدف غير متوقعة، توقع زوال الحاضر بكل ما فيه وانقلاب الحال وتغيره. الإقبال المريح على غير المتوقع قبل المتوقع، مصالحة الصدف والتماهي معها، صمام أمان يحمينا من خوف المستقبل والهلع من دورة الحياة التي لا تستثني أحدا. مقدرتنا على التأقلم مع كل حادث واستيعاب حدود إمكاناتنا وتقبل سلطة الصدف علينا أمر حتمي للأمان النفسي، أو شيء منه، بدل الانهيار الكامل المصاحب لصدفة عابرة لم تكن بالحسبان. ومن ثم مواصلة السعي في انتظار الصدف الموالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى