مستويات الخطاب
ما الذي يدفع رئيس دولة، غير النخوة، إلى مد يده نحو دولة جارة استدعت سفيرها للتشاور قبل أسابيع احتجاجا على تصريح لسفير مغربي بالأمم المتحدة حول حق القبايل في تقرير مصيرهم، واستقبل رئيسها سفير البوليساريو في قصر المرادية؟
ما الذي يدفع رئيس دولة، غير الشهامة، إلى تجديد دعوته لفتح الحدود المغلقة مع دولة جارة نددت في بيان رسمي بما أسمته “قيام سلطات المملكة المغربية باستخدام واسع النطاق لبرنامج التجسس المسمى بيغاسوس ضد مسؤولين ومواطنين جزائريين”؟
الجواب لخصه الملك في جملة واحدة في خطاب العرش عندما خاطب الأشقاء الجزائريين شعبا وحاكمين قائلا “المغرب والجزائر توأمان متكاملان فرق بينهما جسم دخيل. الشر والمشاكل لن يأتياكم أبدا من المغرب. ما يمسكم يمسنا وما يصيبكم يضرنا”.
يجب أن نميز في الخطاب الملكي بين ثلاثة مستويات للخطاب، هناك الخطاب الموجه إلى الشعب الجزائري والذي عليه أن يفهم أن المغرب يعتبره أخا توأما وأن المشاعر الوحيدة التي يضمر له هي مشاعر الود والمحبة والخير، وهو خطاب القلب والوجدان والمشاعر النبيلة التي يكنها الملك لشعب شقيق وجار.
وهناك الخطاب الموجه للرئيس الجزائري والذي يدعوه الملك لتحمل مسؤوليته الأخلاقية والتاريخية والدينية لتحديد الوقت الذي يراه مناسبا لبدء الحوار حول فتح الحدود وملفات المستقبل، وهو خطاب الملك رئيس الدولة والقائد الإفريقي الذي يطمح لرأب صدع الخلافات الإقليمية لما فيه مصلحة الشعبين.
ثم هناك الخطاب الموجه للقوات المسلحة الملكية والتي شكرها الملك على ما تبذله من تضحيات لحماية وحدة الوطن، وهو خطاب القائد الأعلى للقوات المسلحة المستأمن على حماية أمن البلاد والعباد بقوة الحديد والنار عندما تفشل لغة السلم والحوار.
ثم هناك مستوى من الخطاب موجه للرأي العام الدولي والأممي مفاده أن المغرب يجنح إلى الحوار والسلام مع جاره ويمد للمرة الألف يده نحوه رغم كل ما يصنعه هذا الجار ضد وحدة واستقرار المملكة.
لقد أزاح الملك بحركة كف واحدة كل البروباغندا التي ظلت تروجها مجلة الجيش الجزائري من كون المغرب غدر في السابق بالجزائر وينوي أن يغدر بها مجددا، إذ بدد الملك كل هذه الأباطيل وطمأن الشعب الجزائري بأن المغرب لن يمد له يده سوى بالخير.
إنها رسالة واضحة إلى الشعب الجزائري مفادها أن المغرب لم ولن يكون خصما لهم، وأن الصورة التي يرسمونها لهم حول المغرب كخطر يتهدد أمنهم وسلامتهم وحدود بلدهم ما هي إلا وهم يغذيه البعض لكي يغطي على فشله.
قد يقول قائل ما جدوى توجيه دعوة إلى القادة الجزائريين لفتح الحدود والشروع في بناء علاقات جديدة بين البلدين الجارين، خصوصا أن دعوات مماثلة سبق أن وجهها الملك في خطاب المسيرة الخضراء نونبر 2018 وخطاب 2014، وخطاب طنجة سنة 2011، وخطاب 2009 بمناسبة الذكرى العاشرة للجلوس على العرش، وسنة 2008، ولم يتلق المغرب بشأنها أي جواب إيجابي، بل بالعكس جاءت الأجوبة السلبية والعدوانية التي صبت الزيت على النار وتسببت في تردي العلاقات المتردية أصلا.
الجواب عن هذا التساؤل لخصه الملك في خطاب العرش في الآية الكريمة “إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا”. وهي آية تلخص المبدأ الذي يجب أن تقوم عليه كل العلاقات الإنسانية والدولية، أي صناعة وإشاعة الخير كقيمة منتجة للسلام والرفاهية للحاضر وللأجيال القادمة.
وهنا نصل إلى مربط الفرس في خطاب الملك الموجه إلى أشقائنا في الجزائر، فالدعوة الملكية لإعادة فتح الحدود وإعادة المياه إلى مجاريها بين البلدين ليست مطلبا عابرا أو ترفا لغويا بل هي مبادرة مسؤولة وواعية وحتمية تؤسس للمستقبل الذي على البلدين الانخراط فيه في أسرع وقت، لتفويت الفرصة على الدخلاء من كل نوع الذين يتربصون بدول شمال إفريقيا ويضمرون لها من الشرور والمؤامرات عكس ما يظهرون من بديع الكلام وجميل القول.
إنه من السهل الرد على الإساءة بالإساءة ومقابلة القول الغليظ بما هو أغلظ منه، لكن الأصعب هو أن تكون شهما وتقابل الفظاظة بالقول اللين والكلمة الخبيثة بالطيبة.
وليس في الإصرار على مد اليد رغم الصد ما يوحي بالخوف أو الضعف، بل إن من يحمل على كتفيه أعباء الدولة وتاريخ مؤسسة ملكية يمتد لقرون يكون خوفه الوحيد هو أن يخلف الجيران موعدهم مع التاريخ ويمكنون الدخلاء من فرصة رؤية بلدهم يفتح الباب للفتنة الباحثة عن التسلل إلى البلدان الآمنة لتدميرها.
إن قدر المغرب والجزائر هو العيش المشترك بسلام وفي تعاون، وكل من يعمل على معاكسة هذا القدر فإنه لا يصنع غير إضاعة وقت ثمين على المنطقة كلها وعلى شعوبها وأجيالها القادمة.
عندما يقول الملك بأنه ليس مسؤولا عن الأسباب التي أدت إلى إغلاق الجزائر لحدودها مع المغرب، فإنه يقول بصريح العبارة لحكام الجزائر “نحن أبناء اليوم، ولا شيء يجبرنا على الاستمرار في دفع ثمن أخطاء لم نرتكبها”.
فهل ستلقى كلمات الملك آذانا صاغية في الجهة الأخرى للحدود؟ وهل سيدرك الجيران أن الوقت حان لتفويت الفرصة على الدخلاء الذين يفعلون كل ما بوسعهم لكي تتباعد الهوة كل يوم بين المغرب والجزائر، حتى يظل كل بلد معزولا عن الآخر ومنهكا اقتصاديا بسبب كلفة هذا العداء المجاني؟
اليوم لن يكون بمستطاع أحد أن يعاتب الملك على عدم محاولته، بإصرار المؤمن بحتمية التعايش، ردم الهوة مع الجزائر، إذ لم يفوت الملك مناسبة إلا ودعا فيها الأشقاء الجزائريين لطي الصفحة بدون شروط مسبقة والشروع في بناء المستقبل.
ومنذ سنوات والملك يشهد الشعب الجزائري على حكامه المتعاقبين، وكل خطاباته التي تناولت العلاقة المغربية الجزائرية أثنى فيها على الشعب الجزائري الذي يعرف أن المغرب يكن له كل التقدير والاحترام ويعرف أيضا أن ما يروجه نوع من الصحافة الجزائرية حول المغرب ليس صحيحا، ويعرف أيضا أنه إذا استمرت الحدود مغلقة بين البلدين فلأن حكام الجزائر هم من قرر ذلك، والملك من جانبه لم يتعب يوما في مطالبتهم، أمام أسماع وأنظار العالم، بفتحها أمام الشعبين دون شروط مسبقة.
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل، خصوصا مع هذه الجائحة التي زعزعت أعتى الديمقراطيات، لكن كل شيء يقول إن الأيام المقبلة ستكون صعبة، خصوصا بالنسبة للدول التي لم تلتقط الإشارة في الوقت المناسب وتأخرت في أخذ الجائحة على محمل الجد.
فهل يستيقظ حس المسؤولية لدى هؤلاء ويشرعوا في رتق الجرح عوض رمي الملح داخله في كل مرة؟