مستقبل العالم الإسلامي؟
بقلم: خالص جلبي
يجب أن نفرق أولا بين الإسلام والمسلمين، وبين العرب والمسلمين. فالإسلام مجموعة من القيم ذكرها الحديث أنها بضع وسبعون شعبة، وأي مجتمع يحقق قدرا من هذه القيم يقترب من الإسلام بقدر ذلك. وأي مجتمع يرفع الشعارات ولا يحقق هذه القيم، يوكله الله إلى الشعارات ويذله في الدنيا قبل الآخرة. وحقائق الأشياء تبقى والمظاهر تزول. وحقيقة الشيء أقوى من مظهره. ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. فإذا جعل لهم سبيلا، فمعنى هذا أن المؤمنين أصبحوا كافرين وأن الكافرين أصبحوا مؤمنين، في الواقع وليس في الاسم. ولي صديق اسمه عدنان النجار ولكن لا علاقة له بالنجارة، وهناك من سمى نفسه خادم الجامع وهو عدو الجامع والملة. وعبد الحليم خدام لم يكن يوما خداما، بل حكم سوريا مع عصابة الأسد وهو اليوم وعائلته ليس خادما بل مليارديرا؛ فهذه سنن الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.
وثانيا العرب غير المسلمين وهم أقل من خمس العالم الإسلامي. وإذا كان التشدد الديني قد بلغ حد الخطر، مثل من يشد الفرامل في سيارة تمشي وتبدأ تأشيرة الزر الأحمر في التوهج أن السيارة في خطر. فإن هذه المنطقة لا تشكل أكثر من ثدي الرجل في كامل البدن، وثدي الرجل ليس سوى عضو ضامر ولا يمارس وظيفة تغذية الطفل بحال. ولا تقارن هذه الأمكنة المحدودة بعواصم العالم العربي الكبرى، حيث يعيش المسلمون باعتدال وبدون جنون التشدد. وعاصمة إسلامية في الشرق الأقصى يبلغ تعداد نفوسها أكثر من عدد سكان دولة عربية شرق أوسطية. كما في أندونيسيا، واتصال أولئك بالثقافة العالمية أعظم عن طريق اللغة الإنجليزية.
إن التدين أساسي في الحياة مثل الملح في الطعام، ولكن نصف كيلوغرام من الملح في الحساء يجعل القطط تعافه فكيف بالبشر. وهو مقصد الدين ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير.
وعندما ندعو في صلاة الصبح «فإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت»، نعرف أن العز والذل مقسم في العالم على نحو مقلوب. ولا يمكن وصف العرب والمسلمين في العالم اليوم أنهم مهابو الجانب عزيزون، بينما الآخرون في عزة وشقاق.
واعتبر (باول كينيدي) في كتابه «الإعداد للقرن الواحد والعشرين»، أنه لا مكان لدول المحيط والأطراف، والعالم العربي من ضمنه وقسم كبير من العالم الإسلامي، وأن الفجوة التقنية تزداد اتساعا بين دول المركز والمحيط. ولكن قناة «ديسكفري» الأمريكية تنقل في برنامج لها عن المسلمين في أمريكا، أن هناك 22 ألفا من الأمريكيين يعتنقون الإسلام كل عام. وهو رقم أكدته السفارة الأمريكية في دمشق.
وفي ألمانيا توجد جمعية نسائية تضم المسلمات الألمانيات باسم (أخوات محمد) كان عددهن قبل سنوات 50 ألفا. وهن ألمانيات أقحاح بأسماء شرودر وشميت وريناته وراوخ، ولسن تركيات أو عربيات مهاجرات.
والسفير الإيطالي في السعودية، كورديللي، الذي اعتنق الإسلام وأشهره بعد أحداث شتنبر على رغم الكثيرين، ذكر أن عدد المسلمين في إيطاليا كان قبل 20 سنة 10 آلاف ولكنه الآن مليون، في الوقت الذي يتناقص النسل الأوربي، أي إن عدد المسلمين زاد أكثر من مائة ضعف بجانب مركز النصرانية الأعظم.
وذكرت مجلة (دير شبيغل) الألمانية أن الولادات كانت أقل من الوفيات بين الألمان، وحاليا مع الهجرة السورية بأطفالهم سوف تنقذ ألمانيا من الانقراض. وأعداد أولاد المهاجرين تزيد عن العشر ومعظمهم من المسلمين، ومعنى هذا أن ألمانيا خلال عشر سنوات ستتحول إلى دولة شبه إسلامية. وهو الذي عنونته المجلة الألمانية نفسها في عدد خاص، أنه أكثر دين ديناميكية وأنه أكثر دين يكسب الأتباع بدون توقف. إلى درجة أن أكبر عاصمة إسلامية أوربية هي موسكو، بمن فيها من المسلمين ونحن لا نعرف هذه المعلومة.
وبقدر زحف الإسلام في الأرض يكسب الأتباع في كل صقع، بقدر تآكل وانقباض الحياة السياسية في العالم العربي.
وهو مؤشر ذو ثلاث زوايا
(الأولى) أن الإسلام لا علاقة له بالقومية أو العنصرية، فهو دين الإنسان (وبتعبير جواهر لال نهرو الإخاء الإنساني) ولذا يبحث عن الإنسان وينفك عن العرب والأتراك ويلتحق بالأماكن التي تتيح له الانتشار، كما يبحث الماء في صدوع الصخر وباطن الأرض ينابيع فينبجس اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم. وإذا كانت الأرض قد خسفت بالعرب واكتمل كسوف قمرهم في سماء التاريخ، فإن الله يستبدل بهم قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم. سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون.
(الثانية) أن الأمة العربية تعيش أزمة فكرية طاحنة وهي على أبواب تجديد عميق، (الانتفاضات بتعبير المنجرة) لأنه بقدر الأزمة بقدر الضياع. وبقدر الضياع بقدر الانخلاع عن المسلمات والاعتراف أن هناك خطأ مدمرا في حياتنا، وهو ما يسميه القرآن التوبة. لأن قدرة مراجعة النفس تقود إلى التوبة والتطهير، وإن الله يحب التوابين ويجب المتطهرين. وبقدر المراجعة بقدر اكتشاف حلول جديدة. فهذه ثلاث مراحل نفسية ومعراج لأي أمة يعاد تشكيلها وولادتها من جديد: (الإحباط ـ المراجعة ـ التخلي عن الفكر القديم واكتشاف طرق جديدة).
كنت في جلسة مع أفاضل من الناس، وكان الحديث في غاية الإحباط فعرفت أننا دخلنا المرحلة الأولى، وهو مؤشر جيد أننا ربما قد ندخل المرحلة الثانية والثالثة من أجل تجديد الهوية.
ويذكر مالك بن نبي عن جيلين من الصينيين اجتمع بهم، كان الأول كثير التذمر والشك والحذر والانطوائية وعدم التصريح بآرائه، ثم التقى بجيل لاحق كان جريئا في التعبير، واضحا في وجهة الحياة، مشاركا في النشاط العام بدون خوف. وكان هذا مرتبطا بسيطرة الصينيين على أوضاعهم وطرد اليابانيين والأمريكيين والأثر الروسي من حياتهم والتخلص من المجاعات ودخول الأمم المتحدة كشريك هام ومجلس الأمن بمقعد ثابت.
وقد يكون ماوتسي تونغ سيئا جبارا، ولكنه حقق لأمته قدرا من العزة العالمية، وهو ما فعله أيضا كمال أتاتورك فهو فاسد أخلاقيا، زير نساء، مدمن على الخمرة، ولكنه من الناحية السياسية حقق وحدة تركيا وطرد الغزاة، في الوقت الذي أودت بنا القيادات السياسية إلى الكوارث. فهذا تفريق هام. وكان عمر (رضي الله عنه) يقول في دعائه: «اللهم إني أشكو إليك ضعف التقي وقوة الفاجر»، أي إنه كان يريد القوي الأمين. وهو ما كررته الآيات دوما. (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، (وإني عليه لقوي أمين). ونحن نعرف من تاريخنا أن الذي تولى الخلافة بعد كارثة الانشقاق الداخلي في معركة صفين، لم يكن أعدل الفريقين وأنزههما. والشعوب تميل إلى تقديس المنتصرين. ولو برزت قيادة ناجحة في العالم العربي حققت نجاحات ملموسة، لمشت خلفها الجماهير في ما يشبه العبادة. ويرى المؤرخ البريطاني (توينبي) أن هناك قانونا للحضارة والأقلية المبدعة، فهي تشق طريقها إلى الحضارة بآلية الإبداع وتمشي خلفها الجماهير متهادية بصوت مزمار الراعي. وعندما تنكمش الطاقة الإبداعية عند الأقلية تميل إلى سوق الجماهير بالسوط والمخابرات والحبوس. قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين. قال أولو جئتك بسلطان مبين؟
وأحيانا أفهم النبوة بهذه الطريقة فأقول إن ما أقنع العرب بالإسلام ليس قوة الحجة فهذه يأخذ بها النخبة، ولكن الجماهير تدخل في دين الله أفواجا إذا جاء نصر الله والفتح، هكذا جرت سنة التاريخ.
و(هتلر) مشت خلفه الملايين وصفقت له مع النجاحات، وهي الآن تلعنه لأنه قادها إلى المذبحة العارمة. ولم يكن مثل موسى الذي انشق له البحر فكان كل فرق كالطود العظيم. وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا بعد الباقين.
(الثالثة) فكرة النسخ الإسلامية، يجب استيعاب حقيقة كونية أن هناك تعددية في الكون في كل مستوى في النبات والطير والبشر، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن البشر والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء.
ويجب استيعاب الاختلاف في مستوى آخر وهو (التمثل والاستيعاب)، فالمسلمون الإيرانيون غير الأتراك، والبدو في الجزيرة العربية غير أهل ماليزيا وبلاد الشام. وهذه الحقيقة فاجأت الإمام الشافعي فكتبه فقهين في العراق ومصر. ومسلمو البوسنة وألمانيا غير صعيد مصر. وبالتالي فليس هناك نسخة واحدة موحدة مثل علب الكولا لكل المسلمين، بل يختلف تمثله وظهوره على السطح الاجتماعي بأشكال منوعة.
ومجتمع الشراكسة المسلمين فيه حضور كبير للمرأة. وفي ألمانيا حضرت امرأة ألمانية مع زوجها مؤتمرا إسلاميا، فأرادوا الفصل بينهما فقالت: نحن اعتنقنا الإسلام بحمد الله، وأما أنتم فابقوا مع تقاليدكم الشرقية ولا تفرضوها علينا، وأنا جالسة بجانب زوجي في المؤتمر فافعلوا ما بدا لكم.
أما في أمريكا فقد تم تدخل رجال الأمن الأمريكيين لحرمان امرأة مسلمة من حضور المؤتمر لهذه الحجة. وهكذا فهناك خلط كبير بين الأنثروبولوجيا والدين والعادة والمقدس. والانتباه إلى هذا يخلق مرونة تجعل الإسلام يمشي مع الحياة وليس ضدها عند بعض المتشددين، الذين حولوها على يد طالبان وداعش إلى كارثة كونية.
مستقبل الإسلام إذا يوحي بأنه نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره بالعرب وبدون العرب وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر. وفي منتصف القرن الثالث عشر للميلاد كانت المؤشرات مرعبة، فقد سقط جناحا العالم الإسلامي في فترة عشر سنوات. سقطت إشبيلية عام 1248 م وتلاها سقوط بغداد 1258 م، وطوق العالم الإسلامي بين جناحي الصليبيين والمغول. والذي حدث أن الصليبين لم يبق لهم باقية، وتحول المغول إلى الإسلام، وصعدت قوة جديدة إلى مسرح التاريخ كانت قوة عظمى هم العثمانيون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.