مستقبل الأبحاث العصبية
بقلم: خالص جلبي
عملية زرع الدماغ اليوم تقترب من المسلمات التي لا تلمس، فعندما يزرع دماغ إنسان على رأس آخر من سيكون الجديد؟ هل هو رأس القديم، أم جسم الجديد؟ وبغض النظر عن المشاكل القانونية فإن هناك طابعا ثابتا (للتقدم العلمي) هو أنه يمشي بدون توقف، وينمو ضمن قانون (الحذف والإضافة)، وأنه يتقدم ثانيا بـ(ناظم أخلاقي ذاتي)، وأنه ثالثا يخترق فضاءات معرفية جديدة بدون تعب أو استراحة، ولا يقدم استقالته مطلقا، وكل تقدم علمي اقترن بضجة كبيرة حول ما أنجز، ولكنه بعد قليل يتحول إلى شيء عادي بل مطلوب. وقبل أربعين سنة وصل (كارل جيراسي) إلى (موانع الحمل)، فارتجت الأوساط العلمية وكادت السماوات أن تتفطر منه، واعتبر الأخلاقيون أنها كارثة ستشجع على الفسوق والعلاقات الجنسية المشبوهة، طالما ضمن الطرفان أن لا حمل مع الاتصال الجنسي، ولكن الذي حصل أن جميع النساء تستخدمها في العالمين. وتأكد المبدأ القرآني مرة أخرى أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال.
وينطبق الشيء نفسه على (الاستنساخ الإنساني) حين ارتج العالم له وصعق الناس، وقالوا لقد خرت الجبال هدا. وهو لا يزيد على تكرار لعمل الفلاح وهو يستنبت زرعة من نبتة فيعيد سيرتها الأولى. ولسوف نفاجأ بإنسان مستنسخ قريبا، ولن يزيد على ضجة (لويزا براون)، التي ولدت في أنابيب الاختبار عام 1978 م. ولا يستبعد أن يكون قد وصلوا إليه الآن في بعض المخابر السرية، كما صرح بذلك الطبيب الأمريكي (لي سيلفر) أنها قاب قوسين أو أدنى. ويعجبني في هذا الطبيب الفيلسوف (محمد كامل حسين)، الذي جمع بين عميق الإيمان وسعة الاطلاع والتمكن الطبي، ورأى أن العلم لو أوجد الإنسان صناعيا ما كان ذلك مدعاة للشرك بالله. يقول في كتابه: «متنوعات»: «وعندي أنه إذا استطاع العلم أن يخلق حيوانات جديدة كما خلق عناصر جديدة. بل إذا استطاع أن يخلق الإنسان نفسه، ما كان في ذلك مساس بوجود الله وقدرته، ولا يكون طعنا في الأديان»، وهو لا يعني بها مضاهاة الخلق الإلهي. ويعلل إيمانه العميق حول هذا الأمر في ما لو حدث فيقول: «والربط بين وجود الله سبحانه وتعالى وبين قدرته على الخلق، هو من قبيل الربط بين العامل وأعظم أعماله قدرا وأدعاها إلى الإعجاب. والخلق برهان على وجود الله، ولكنه ليس برهانا من النوع الذي إذا بطل، بطل معه وجود ما يقوم على هذا البرهان». وطبعا فكلامه هذا له وعليه.
وفي الواقع فإن الكثير من المسلمات هي تصوراتنا عن الأشياء، ولم يتقدم التاريخ إلا بكسر المسلمات. إن العلم قام حتى الآن بزرع الكلية والقلب، وبدرجة أقل الكبد والبنكرياس، ولكنه في طريقه الآن إلى القفزة الكبرى بزرع الدماغ. والتحدي في المادة العصبية أنها تتمتع بثبات خاص، كما أنها لا تعوض أو ترمم أو تخاط بسهولة في القطع، كما هو حاصل في الأوعية الدموية التي نخيطها فتعمل فورا وينقلب الوريد في القلب إلى شريان في فترة أسابيع.
وأمام تحدي ثبات الخلايا العصبية قام الطب بالالتفاف عليها بثلاث طرق: (زرع الخلايا العصبية)، فعالج مرض باركنسون الذي تقصر فيه الخلايا عن إفراز مادة (الدوبامين Dopamin)، ونجح في هذا فريق طبي من جامعة (لوند) بالسويد، بتقنية أخذ الخلايا من الأجنة المجهضة، أو تقنية (دمج الشرائح الكمبويترية بنهايات الأعصاب)، كما حصل مع (مارك ميرجر) في جامعة (مونبوليي) بفرنسا، الذي قام على قدميه بعد حادث سيارة أقعده في سريره بشلل نصفي، مع عجز جنسي وسلس بول وغائط لمدة تسع سنوات. أو (جيري) في نيويورك، الذي أبصر من خلال كاميرا وسونار متصلين بكمبيوتر ذكي وكابل كهربائي، مكون من 64 سلكا مزروعا في الفص القفوي في الدماغ.
ويقوم (روبرت وايتهد) الآن بنجاح بزراعة رؤوس للقرود. وعندما نسمع بنجاح زراعة الدماغ بالتعاون بين كل هذه التقنيات، بما فيها (جراحة الجينات) أو (زرع الخلايا الجذعية) أو تقنية (الإخوة فكانتي Vacanti) في تكوين الأعضاء من خلال زرع خلوي على (سقالات) من مواد حيوية مبنية بهندسة كمبيوترية، فلن يكون سوى تكرار لحركة التقدم العلمي، ولتعلمن نبأه بعد حين.
شبه (رامون كاجال)، وهو عالم تشريح إسباني نال جائزة نوبل لأبحاثه عن المخ، (شبه) العقل بحديقة مملوءة بالأشجار «تستطيع استجابة للزراعة الأريبة أن تزيد من عدد فروعها، وأن تمد جذورها لمساحات أكبر وتنتج المزيد من الأزهار الشذية والثمار اللذيذة».
كان الفيلسوف (محمد إقبال) يناجي ربه قائلا إن هذا الكون لم يعجبني، وكان الجواب بسيطا أنت خليفتي ومفوض، فاهدمه وابن كونا أفضل. كان إقبال يبحث عن الإنسان الجديد فأنشد يقول:
رأيت الشيخ بالمصباح يسعى له في كل ناحية مجــــال
يقول مللت أنعاما وبهــــــــما وإنسانا أريد فهل ينــــال
فقلنا ذا محال قد بحثنــــــــا قال ومنيتي هذا المحال.
إن العلم قام حتى الآن بزرع الكلية والقلب، وبدرجة أقل الكبد والبنكرياس، ولكنه في طريقه الآن إلى القفزة الكبرى بزرع الدماغ. والتحدي في المادة العصبية أنها تتمتع بثبات خاص، كما أنها لا تعوض أو ترمم أو تخاط بسهولة في القطع