أثار ظهور صور لحي «حوش الريح» بالقرب من مفتاح بولاية البليدة عند زيارة وزير السكن، لتفقد الأشغال فيه، استياء كبيرا عند الجزائريين، عبر عنه المواطنون بشكل واسع على الوسائط الاجتماعية، وهم يشبهون هذه المساكن بمحتشدات القولاق التي عرفتها التجربة الستالينية في عز عنفوانها، مساكن تدخل في إطار مشاريع «عدل» الموجهة إلى المواطنين من ذوي الدخل المحدود، التي تبناها بوتفليقة في بداية عهدته الرئاسية الطويلة، كسياسة سكن اجتماعي، مساكن لم يسمح للمستفيدين ببيعها، ما جعل كل هذا المجهود الذي قامت به الدولة في توفير ملايين المساكن لسنوات طويلة خارج السوق العقاري الذي بقي تحت ضغط الطلب، مشاريع بناء تم تكليف شركات دولية، صينية في الغالب بإنجازها، ارتبطت، كما أصبح سائدا في الجزائر بأشكال فساد عديدة ومتنوعة وصلت بعض حالاتها إلى قاعات المحاكم، كان من بينها ذلك الفساد الذي كانت وراءه الفئات المتنفذة وهي تتلاعب بهذه المساكن التي تبنيها وتسيرها.
سياسة سكن اجتماعي تم الانطلاق فيها تحت ضغط الطلب الاجتماعي الكبير، في وقت زادت فيه وفرة المال العام، تحولت إلى سياسة رشوة اجتماعية واسعة للمواطنين الذين عانوا طويلا من أزمة سكن مستفحلة، ارتبطت بشكل واضح بالحملات الانتخابية للرئيس وهو يقرر الاستمرار في الحكم لعقدين كاملين، بعد انتهاك دستور البلد وفتح العهدات الرئاسية.
سياسة سكن لم تستغل، عند انطلاقها في الحفاظ على النسيج الصناعي لمؤسسات البناء، التي تم القضاء عليها، وتسريح عمالها في القطاعين العام والخاص، لنكون أمام وضع غريب، في الوقت الذي انطلقت فيه الجزائر في تبني سياسة سكن اجتماعي، تم القضاء على مؤسسات البناء والإنجاز الوطنية، ليستمر فيه غول البطالة..
سياسة سكن اجتماعي كانت في بعض جوانبها مبررة، عند الإعلان عنها، نظرا إلى الضغط الاجتماعي الكبير، لكنها الآن وبعد ربع قرن تقريبا من انطلاقها، لم يعد هناك ما يبرر بقاءها في هذا الشكل البشع الذي ظهرت به، في كم المشاكل التي تولدت عنها، على أكثر من صعيد، أنتجت فيه هذه السياسة أحياء تحولت إلى بؤر للعنف الاجتماعي بكل أشكاله، لم يتوقف بعد عقود من الانتهاء من بناء هذه الأحياء – الغابة الاجتماعية، الفاقدة لكل إنسانية، حالة عنف اجتماعي مستدامة يكفي متابعة الصحافة اليومية لمعاينة نتائجها المدمرة للنسيج الاجتماعي، بآثارها الدائمة في الأجيال التي تولد وتكبر داخلها، في غياب شبه كلي لكل المرافق الاجتماعية التي تشكو منها هذه الأحياء، كالنقل العمومي والخاص والمرافق الاجتماعية والأمنية، حالة تستمر لعدة سنوات، حولتها في نهاية الأمر إلى مراقد عمومية، يصعب الدخول إليها والخروج منها، ناهيك بنوعية بنائها السيئة ومساحاتها الضيقة، هي التي تبنى بالمساحة والشكل القبيح نفسيهما في كل مناطق البلاد الساحلية والصحراوية والجبلية، على طول البلاد وعرضها، لا يكل أبناؤها عن وصفها بالبلد القارة لشساعة أراضيها وتنوع مناخها، استهلكت فيه هذه المساكن أحسن أراضيه الزراعية، حتى وهي تلجأ إلى البناء العمودي الذي لا يملك الجزائري الثقافة القادرة على تسييره اليومي، في مجتمع تحول فيه تسيير مصعد البناية إلى أمر جلل، داخل أحياء سكنية قبيحة، غاب قبل الانطلاق في بنائها ووضع تصوراتها الأولية، أي دور لعالم الاجتماع أو الأنثروبولوجي، بل تقلص حتى دور المهندس المعماري الذي أخذ مكانه البيروقراطي، صاحب القرار الإداري، فكانت النتيجة ما نعيشه في هذه الأحياء القبيحة، لنكون أمام تخطيط عمراني بيروقراطي لم يحترم لا الطبيعة ولا القيم الاجتماعية، ولا عادات وتقاليد العائلة الجزائرية في مختلف جهاتها، وهي تعيش عملية تحول أكيدة تتجه فيها نحو التقليص من الإنجاب والبحث عن فضاءات فردية للعيش داخلها في السكن العائلي، من قبل أبناء وبنات العائلة.
سياسة سكن اجتماعي جعلت المواطن يعول كليا على الدولة لحل مشكل السكن لديه، ولا يقوم بأي جهد للتدخل في بناء سكنه الذي أصبح يتطلب منه عمرا كاملا إذا غامر وانطلق في بناء سكنه العائلي الذي تحول إلى مشروع جيل كامل، لا ينتهي منه الأب إلا وهو على أبواب التقاعد، وانتهاء الأبناء من الدراسة وبداية تفكيرهم في دخول سوق العمل والهجرة، ومغادرة البلد والسكن العائلي نفسه، ليجد الأب نفسه وحيدا في هذا السكن – عادة ما يكون كبيرا جدا تعبيرا عن هذه العقدة التاريخية للجزائري مع أزمة السكن – الذي أفنى كل حياته في توفيره لأبنائه، كما هو حال الكثير من أبناء الفئات الوسطى، نظرا إلى الصعوبات من كل نوع التي وجدها أمامه، بدءا من الحصول على قطعة أرض ومواد البناء، كما كان الحال لوقت قريب، وانتهاء بالتمويل المالي الذي ضاق في وقت اشتدت فيه أزمة البلاد الاقتصادية، وتدهورت فيه القدرة الشرائية للمواطن، مست بشكل كبير أبناء هذه الفئات الوسطى، بما فيها المالكة، زيادة على تلك الفئات الأجيرة، التي كانت تبادر ببناء سكنها العائلي.
سياسة سكن منحت لأحيائنا الجديدة ومدننا التي توسعت بشكل عشوائي بعد الاستقلال طابعا في غاية القبح، جعلت المواطن الجزائري يتحسر على العمران الكولونيالي الذي ميز المدينة الجزائرية تقليديا، رغم أنه لم يكن موجها إليه في الأساس، لكنه استفاد منه بُعيد الاستقلال مباشرة، بعد مغادرة المعمرين الأوروبيين لأحيائهم التي كانوا يسكنونها في أغلبية المدن الكبرى والمتوسطة.
ناصر جابي