مرض الحرب في التاريخ
بقلم: خالص جلبي
مع فجر الحضارة أصيبت الإنسانية بمرض الحرب، ومع الحرب تدفق نهم الإنسان لامتلاك القوة، ومع تكريس العنف والعنف المضاد تطورت التكتيكات والأسلحة على شكل حلقة متصاعدة، ومع عطش امتلاك القوة وتسخير العلم لإنتاج السلاح نمت العلوم والتقنيات العسكرية بما لا يقارن مع علوم تسخير النفس والمجتمع، إلا أن المفاجأة كانت أن الذين دفعوا سفينة الحضارة في هذا الاتجاه أدركوا في النهاية أن الطريق مسدود، والعدم يلف الكون، والانتحار ينتظر الجميع، فرأى جيلنا وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري بداية الرحلة لتوديع السلاح وثقافة البطولة. لنسمع خبر التاريخ في رحلة التكتيكات والأسلحة، ففيها عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
نظرتْ إلي ابنتي أروى بشيء من الدهشة: يا أبت ألا تعرف أهمية مسابقات تصفيات كأس العالم لكرة القدم، ولا أهمية ألعاب الأولمبياد، أو سباق الماراثون؟ اعترفت لها بقلة زادي في هذا الحقل على أهميته، كما أعترف للقارئ بأنني استغرب أحيانا وقوف الناس محملقين وهم يتابعون المباراة ساعات متواصلة، مع هذا فأنا أدرب نفسي على احترام اهتمام الناس وتبين سر هذا الاهتمام! قلت لصديقي الدكتور عماد: هل تعلم من أين جاءت فكرة سباق الماراثون؟ هز رأسه بالنفي، قلت له: إن هذا يرجع إلى قصة في التاريخ حدثت أثناء اجتياح ملك الفرس (دارا) لبلاد اليونان، في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث نشبت معركة عند مدينة ماراثون مما جعل العداء اليوناني (فيديبيدس ـ PHEIDIPPIDES) يركض إلى كل من أثينا التي تبعد بـ50 كيلومترا وإسبرطة التي تبعد بـ 224 كيلومترا) ليخبرهما بالهجوم الفارسي من جهة، وطلب المساعدة الإسبرطية من جهة أخرى، ويقال إنه قطع المسافة في يوم وليلة بركض متواصل، فهذا هو سباق الماراثون وأصله التاريخي.
وصف المؤرخ (هربت جورج ويلز H . G . WELLS) عبور (كزركسيس XERXES) لمضيق (الدردنيل HELLESPONT) عام 480 قبل الميلاد لاجتياح بلاد اليونان: «حتى إذا نظر فرأى الهلسبونت تغطيه السفائن ورأى كل شواطئ سهول أبيدوس غاصة بالرجال، قال عن نفسه إنه لسعيد، وما لبث بعد ذلك أن هملت عيناه بالدموع، فسأله عمه أرطبانوس: فإنك قد وصفت نفسك رجلا سعيدا تذرف الدمع الآن، فأجاب الملك: أجل إني بعد أن أحصيتهم عدا دار بخلدي إحساس بالشفقة والحسرة لتذكري كم حياة الإنسان قصيرة، لعلمي أنه من بين هذا الجمع الحاشد لن يكون واحد حيا بعد أن تمضي مائة من السنين»، («معالم تاريخ الإنسانية THE OUTLINE OF HISTORY BY» H . G . WELLS) – هـ. ج. ولز – المجلد الثاني – ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد – لجنة التأليف والترجمة والنشر – ص 367.
وفي معركة سلاميس هُزم كزركسيس أمام الإغريق بحرا، وبعدها بعام هُزم قائده (ماردونيوس MARDONIUS) في معركة بلاتيا عام (479 قبل الميلاد) برا، على الرغم من ضخامة الحملة التي شنت والاستعدادات البطيئة والهائلة التي أعدها كزركسيس، وكانت معركة (بلاتيا PLATAEA) من أكثر معارك التاريخ القديم حسما، لأنها أنقذت لنا الفكر الفلسفي اليوناني الذي ترعرع في ما بعد في جو الحرية، وكان التكتيك والسلاح الذي استخدمه الإغريق في هذه المعركة، هو الذي أنقذهم من العبودية لآلاف السنوات التي بعدها، والسؤال هو كيف كانت طبيعة التكتيك المستخدم في معركة بلاتيا؟ وما هو نوع السلاح الذي استخدم في هذه المعركة؟
رحلة القوة
نحن في هذه المسألة لسنا بصدد بحث العوامل النفسية والاجتماعية، التي دفعت الجماعات والمجتمعات الإنسانية إلى الصراع المسلح، فهذا له بحثه الخاص، والمقالة حصرت نفسها في تطور أداة القوة وطريقة استخدامها، وما نريد تسليط الضوء عليه هو «رحلة القوة» كيف بدأت؟ كيف نمت؟ كيف تطورت؟ وأين وصلت اليوم؟ أي إننا نطبق منهج «الجنيالوجيا GENIALOGY» على علم الحرب «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق»، (سورة العنكبوت- الآية 20)، فهي محاولة لفهم كيفية بدء «خلق» ظاهرة الحرب والصراع الإنساني المسلح؟ كيف تم تصعيد ظاهرة الحرب حتى وصلت إلى أفق لم يحلم الإنسان به، منذ أن خُلقت الخليقة!
يمكن بلورة الصراع المسلح عبر التاريخ في المراحل أو الأفكار الإحدى عشرة القادمة:
1- المرحلة الأولى: يذكر القرآن قصة أول صراع مسلح دموي، حدث بين ولدي آدم أثناء نزاع حدث بينهما، لجأ الطرف الأول فيه إلى التهديد بالقتل لينفذه لاحقا «أسلوب لأقتلنك»، في حين أن الطرف الثاني امتنع عن حل مشاكله بهذه الطريقة، مقابلا أسلوب «القتل» بأسلوب جديد مدهش هو «التخلي عن القوة من طرف واحد»، فكان تكتيكا عجيبا ومبشرا للجنس البشري للمستقبل في كيفية حل مشاكله وبطريقة أكثر جذرية… ويبدو أن أداة القتل في هذا العهد السحيق لم تكن لتتجاوز هراوة أو حجر.
2- المرحلة الثانية: دخلت الأسلحة الباترة والقاطعة والثاقبة، وبدأ الإنسان يفكر في كيفية التخلص من خصمه بنفي «التعددية» وعدم الاعتراف بالاختلاف، من خلال تطوير أدوات «لأقتلنك»، وبدأت يد الإنسان في التفاعل مع الطبيعة في إنتاج السلاح، كما تشكلت المجتمعات المنظمة التي بدأت في تشكيل الجيوش «الذكورية»، ومن الملفت للنظر أن ولادة الحضارة كانت مشوهة، لأن مرض الحرب دخل في تركيب الحضارة في ما يشبه الخطأ «الكروموسومي»، وتطلب هذا بالتالي رحلة مروعة عبر التاريخ قبل الوصول إلى الاعتراف بأن هذا «مرض». إذن ومع نمو الحضارات الأولى بدأت «دورة الحرب» تأخذ نظما تاريخيا، وإيقاعا مكررا عبر الزمن بدون توقف.
3- المرحلة الثالثة: أصبحت ظاهرة الجيوش «الذكورية» ظاهرة ثابتة في تشكيل كيان المجتمع وتحت ضغط فكرة «الدفاع» عن المجتمع، وهكذا عمدت الأنظمة السياسية التي تشكلت في كل دول العالم القديم وإمبراطوريات التوسع إلى ما يلي:
أولا: تشكيل الجيوش الجرارة المكلفة.
ثانيا: تطوير أداة البطش والتدمير الممثلة في تطوير أنظمة السلاح والتكتيكات العسكرية والتقنية الحربية بوجه خاص، بل وتسخير كل إمكانيات المجتمع لخدمة الهدف العسكري.