مذكرات غير مهمة
بريكي
لقد تشبثتُ دائما بمن أحببت ليس خوفا من الوحدة لكن شفقة على ضياع كل تلك الذكريات وانمحاق كل تلك المآسي التي تقاسمنا مرارتها معا، كل تلك الأسئلة التي لم نجد لها جوابا وكل تلك الضحكات التي كادت أن تفنينا وكل تلك الدموع التي جففنا بركها الراكدة على الخدود المحمرة. لقد تشبثتُ دائما بمن أحب فلا طاقة لي بالبدء من جديد، ولا رغبة تزدحم بداخلي لبدء حب جديد وتفهم أخطائه ونزواته وتجرع آثامه وتجاوز حماقاته، كنت دائما أما عاقة لأبنائها تذيقهم سخطها دون سبب، فقط لتثبت لنفسها أنهم عاجزون عن التخلي عنها. وتخلوا، الأبناء كلهم عاقون.. ولكل سببه المقنع.
لقد تشبثتُ دائما لآخر لحظة، رغم قناعتي بأن كل ذلك هلوسات مضحكة، ورقصت أنا والطائر المذبوح على نفس الحبل المعلق في الفراغ، رأيته يسقط مدمى وباكيا وتماسكت، معتقدة أن امرأة تهتم جدا، رغم نرجسيتها لا يمكن أن تترك رفيقة سقوط لطائر ميت.
انتهيت وأنا أرى الفراغ يلفني من كل جانب، لا أدري أي شيء كفيل بملئه، دموع مالحة أم قهقهات عاجزة، أم أغاني مطربين لم يشعروا بما يخرج من بين حبالهم الصوتية، حبالهم كانت معلقة في فراغ أسقط عنها كأنثى بط نسيت تفقد صغارها من ورائها، وحين فعلت لم تجد شيئا.
أبكي، والبكاء علاج لا يوصي به الأطباء. ولا أعرف لأي سبب. كل الأسباب تتلاشى أمام دموع هادئة ناضجة صريحة لا تخجل من انهمارها، تصدر عن طبيبة عجزت عن فهم سبب موت مريضتها، فنسبته للقضاء والقدر. كم هو رائع هذا القضاء، مخدر نرتمي منعمين في أحضانه محملين إياه كل تفاهتنا وعبثية حياتنا وسوء أحوالنا. أنا غير مسؤولة عن أي شيء، هو القضاء والقدر لعنتنا الدائمة وكرامتنا الربانية. مقدر لها الموت ومقدر لي البؤس كلما تذكرت شامة، خدها وسواد شعرها.
أقبع تحت الصفر وأتمنى لو صعدت إلى الحضيض، أنا الآن خارج تصنيف القاع، لقد سحقت القاع. لا أدري هل موت مريضة تشاركنا ابتسامات عابرة هو ما يسحقني أم أنها الحياة التي لم أعد أفهم قواعدها ولا منطقها. أفقد يوما بعد يوم يقيني بخطة محكمة تعطي لكل شيء معنى. هل هناك وجود لمعنى ما؟ وهل يحق لي البحث عنه أم أن ذلك محصور على فلاسفة الإغريق وسكارى الحانات؟
الاستثناءات التي تختارنا دون سوانا مربكة، لمَ أنا التي يحصل معها كل هذا دون غيري، سيقولون لك أنت الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. بأي حق تستثنيني القاعدة، وهل خيرتني لأختارها أم أختار تأكيدها باستثناء غبي؟
ملعونة كل الاستثناءات التي تحرمك دفء الالتحام والانصهار بالجموع فتلقي بك لصقيع الوحدة، بعيدا منبوذا كمصاب سل في بلد أوروبي اجتث مرض دول العالم الثالث هذا من الجذور.
يشرق يوم جديد، أبواق سيارات القروض تخترق سمعي. ملقاة كجثة تكافح للنهوض، مثقلة بكل الذكريات. ذكريات الأحياء الموتى، والموتى الأحياء. شمس لا تكترث لأحد تأتي في موعدها لتخرجني من كوابيس أنثى لا تملك سوى عاطفتها المنهكة. هناك أناس ينتظرونني بالخارج، أهل وأصحاب ومرضى يحملون ملفاتهم وجراحهم وآمالا بالشفاء. أتحسس قلبي فأشعر بخفته، كيف تخلص من كراكيبه بهذه السرعة؟
فليكن، إذن، يوما جديدا أفتح فيه صفحة جديدة، وأقدم فيه تنازلات كثيرة. أولها التخلي عن هوسي المحموم لفهم مغزى الأحداث وتوديع المترددين في قرار الرحيل.