في هذه المدينة، ولد من يكتب لكم عام 1945م، وحين سألت أمي متى ولدت؟ قالت بلهجتها المحلية (الماردلية): حين كانت تحتفل سوريا بالاستقلال والمدافع تضرب ابتهاجا.. ومع كتابة هذه الأسطر، أعلم أن فرنسا خرجت بدون أن تخرج، بل تركت خراجا متقيحا يقذف بالقيح كل يوم. القامشلي بالنسبة إلى المغرب مثل مدينة أحفير القصية، على الحدود الجزائرية بأسلاك وحواجز، فلا يمر من الحدود إنس ولا جان وكذلك الحال مع تركيا للسوريين..
القامشلي بلدة وديعة تقع في أقصى الزاوية الشمالية الشرقية من سوريا. ظهر القامشلي للعراق، وبطنها إلى حلب، وأطرافها إلى درعا وحوران، وخاصرتها لتركيا بحاجز من أسلاك شائكة وألغام، وتلتصق من الطرف الآخر بالطريقة نفسها بنظيرتها مدينة نصيبين التركية التاريخية، وكثير من أهالينا هناك وأهل المدينتين عائلة واحدة، ولكنهم قطعوا بمنشار من السياسة. وفي الجزيرة خامات البترول، حيث كان القصر الجمهوري لعائلة الأسد ينهبه بالليل وسارب بالنهار، ولا أحد يعلم مقدار المال الذي حصدته عائلتا خالف ومخالف من الأسديين، وكان من يسأل عن مصير النفط ولو عضوا في البرلمان يختفي.
إذا ولجت القامشلي لا يطالعك في مدخل المدينة الشجر الجميل، بل صنم سياسي يحيي جماهير ميتة. وكنت أدرس فيها الثانوية العامة بجانب (القشلة)، وتعني باللغة التركية الثكنة. وعندما رجعت إليها بعد 17 سنة وأردت زيارة مراتع الطفولة، صدمت لأن المكان تحول إلى مدينة مخابرات، وكانت لهؤلاء القتلة بناية ضئيلة معزولة قميئة فتحولت إلى مدينة رعب، وحيل بيني وبين الذكريات وتحولت إلى حسرة. وعندما مررت بشوارعها وأنا الذي رأى ألمانيا وكندا والسعودية، خيل إلي أنه لا توجد فيها بلدية.
ومن سافر من حلب شرقا إلى العراق يشعر أنه يغادر سوريا. والمسافة بينها وبين العاصمة 900 كيلومتر ويزيد. فسوريا الفعلية هي الشريط الممتد من درعا جنوبا حتى حلب شمالا. وكنا إذا أردنا السفر إلى العاصمة (وكل شيء في العاصمة) كان علينا قطع مسافة ألف كيلومتر، نتكلف فيها مشقة السفر ونزول الفنادق وبذل الأموال في كل مرفق. وكان الطريق بالباص يأخذ يومها عشر ساعات، نصل فيها إلى حلب نصف مرضى. فإذا نزلنا كان علينا دفع مبالغ كبيرة للحمالين في حلب؛ فلم يكن يسمح لنا بإنزال حقائبنا شخصيا. وكان علينا من جديد ركوب سيارات جديدة باتجاه العاصمة الأموية دمشق. وكنا بذلك نقطع يومين في سفر متواصل للوصول من زاوية القامشلي الشمالية الشرقية إلى دمشق الزاوية الجنوبية الغربية. ومن عجائب الصدف أنني نزحت إلى هذه الزاوية، فبنيت لي فيلا في سفح الجولان لا تبعد عن استحكامات اليهود أكثر من كيلومتر واحد. وسبب سحبي إلى الزاوية الجديدة زوجتي الجولانية؛ فلم نسكن بيتنا، بل هي غادرت إلى مقابر كندا، واحتلت الفيلا بعناصر من أوغاد المخابرات وحولوها إلى مركز رعب مقيم، فهم يعتقلون الناس؛ ففريقا يقتلون وفريقا يعذبون، ونساء وأطفال يغتصبون، وأقداح «الويسكي» مع الموساد يشربون..
وعندما يغادر المسافر حلب باتجاه الشرق يتعجب من كثرة الشعارات السياسية، مقابل انحطاط البنية التحتية. ويمر الإنسان على القرية بعد القرية، بدون شجرة واحدة أحيانا. ويتذكر رحلة هارون الرشيد من بغداد إلى مصيفه في الرقة في طريق محفوف بالشجر، لم يبق منه اليوم إلا حر قائظ وغبار قاتل وذباب يطن وبعوض يثقب..
والقامشلي مدينة يختلط فيها البشر بأشد من بابل القديمة، فيها ما لا يقل عن ثماني لغات وستة أديان. ويوجد فيها المنقرض من الطوائف المسيحية، فهي متحف حي.. ولم أكن أعلم عن النسطورية شيئا حتى قرأت للمؤرخ “توينبي” الذي ذكر هذه الفرقة، وهم الكلدان الذين يقولون إن “يسوع المسيح مكون من جوهرين يعبر عنهما بالطبيعتين وهما: جوهر إلهي وهو الكلمة، وجوهر إنساني أو بشري وهو يسوع، وبحسب النسطورية لا يوجد اتحاد بين الطبيعتين البشرية والإلهية في شخص يسوع المسيح، بل هناك مجرد صلة بين الإنسان والألوهية”. وكل فرقة مسيحية لها مدرستها ولغتها وكنيستها وفرقتها الموسيقية، إلا الأكراد فكانوا ممنوعين من تعلم لغتهم أو تسجيل أولادهم كما يشاؤون، والآن انقلبت الأدوار وأصبح الأكراد هم سادة المنطقة، بدعم أمريكا من سلاح ومعدات وخبراء وأموال، والمهم شرب أقداح البترول دهاقا.. وكل مولود هناك لا يولد على الفطرة، بل على مراجعة فرع أمني ليفتح له ملف. وهي ليست نكتة، بل حقيقة رواها لي شخص أثق به، أنجب طفلا وكان عليه مراجعة دائرة أمنية قبل التسجيل. وكل من له قيد نفوس في القامشلي لا يستطيع نقله إلى أي مكان آخر مثلما كان حاصلا معي. وإذا سرت بشوارع القامشلي تعجبت من رطانة الألسنة وتباين اللهجات بين كردي وعربي وتركي وسرياني وآشوري وكلداني وأرمني وكاثوليكي وبروتستاتني وماردلي وشيشاني وحلبي وحوراني، ومن ينشأ هناك يجب أن يتكلم ثلاث لغات بحد أدنى. وهذا التنوع جيد في ما لو قام على تبادل الآراء والاعتراف بالآخرين، ولكن هذه الإثنيات تعيش في شرانق من الخوف والريبة والكراهية المتبادلة. وأحداث القتل التي انفجرت يوما بسبب مباراة رياضية ليس سببها رياضي، كما زعم كذبة السياسة مع المحطات الفضائية، بل نتيجة الاحتقان السياسي. وعندما نعرض الماء والشمع والبارود للنار نأخذ ثلاث نتائج، فأما الماء فيتبخر، وأما الشمع فيذوب، وأما البارود فينفجر والمصدر واحد. وإذا ألقينا عود ثقاب ملتهب في برميل ماء انطفأ، وإذا ألقيناه فوق حوض بنزين انفجر. وما انفجر في القامشلي في مارس 2004 لا يخرج عن هذا القانون. وهو رأس جبل الجليد والقادم أفظع والاحتمالات مفتوحة لكل شيء، طالما كانت الأمور خارج الشرعية تدار بقانون الطوارئ، ويحصد الناس بالرصاص في أقل تظاهر. وقد حصل ما توقعت حين أخبرت بناتي بأن القتل سيرتفع إلى الرقم المليوني، فوضعت ابنتي يدها على فمي. وليس أفضل من العدل والإحسان إلى الناس. والقوة التي تضغط شعبا في قمقم عقودا ستنفجر مثل البركان المحبوس، فهذه قوانين وجودية. وتيتو استطاع حبس يوغسلافيا حتى مات، فلما انفجرت الأوضاع سالت الدماء انهارا. والجبارون لا يتعظون حتى يأتيهم العذاب، فيقولوا هل إلى مرد من سبيل؟ ومن يتغافل عن قوانين الكون فإن قوانين الكون لا تتغافل عنه. وما ربك بظلام للعبيد.
خالص جلبي