مدرسة الإقصاء
عندما نتحدث عن أزمة المدرسة المغربية، فإن هناك مستويات معينة يكون فيها هذا الحديث طبيعيا جدا، بل وحيويا بالنسبة للقطاع، قياسا إلى أن الخطابات التي تتناول «أزمة التعليم» أو «أزمة المدرسة» كانت دائما قوية وذات مصداقية عالميا، لذلك يتم التعامل معها دوما بموضوعية لتصحيح المسارات والاختيارات التربوية والمؤسساتية والمعرفية والمنهجية. ففي كندا، وهي البلد الذي يبدو لأغلبنا جنة تربوية وتعليمية، هناك دوما أحاديث لا تنقطع عن وجود أزمات بمدارسها، والأمر نفسه في أمريكا، والتي يعتبر نجاح نظامها التعليمي جزءا من نجاح نظامها الديموقراطي، وهذا بشهادة أحد أعظم مفكري العصر الحديث، ونقصد «أليكسي دوطوكفيل» في كتابه الشهير.
أما في فرنسا، والتي تعتبر بالنسبة لنا «ملهمة» لنظامنا التربوي، فمُساءلة النظام التعليمي هناك لم تنقطع منذ ظهور المدرسة العمومية رسميا مع الجمهورية الثالثة، وتحديدا منذ ظهور ما يعرف بقوانين «جُيْل فيري»، والتي أسست لتعليم عمومي مجاني وإلزامي، وصولا إلى المشاريع التي تم تبنيها منذ 2005 إلى اليوم، والمنصبة أساسا على «دمقرطة النجاح في المدرسة» بتبني قاعدة مشتركة للكفايات والمعارف والثقافة socle commun de connaissances de compétences et de culture . وما نريد أن نقوله في هذا المستوى الأول، هو أن أزمة مدرستنا العمومية بالمغرب ينبغي التعامل معها على أنها أزمة طبيعية، إذا اعتمدنا على أرضية التحليلات الموضوعية لمجمل التطورات التي عرفها المجتمع المغربي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وحقوقيا، وتحديدا منذ 1999، لكن في المستوى الثاني ينبغي الإقرار أن تعثرنا على مدى 16 سنة في ضمان دمقرطة واسعة لولوج المدرسة، والتي تتيح لجميع الأطفال المغاربة إمكانية لتنوير عقولهم وتطوير مهاراتهم، وبالرغم من كل المخططات والميزانيات الضخمة المرصودة، هو أزمة غير طبيعية، لأنها لن تتيح لنا أبدا الفرصة ذاتها التي تحققت لمعظم الأنظمة التعليمية الناجحة، وهي الانتقال إلى مستوى الحديث عن دمقرطة النجاح، أي أننا لا نراكم ولا نرصد أبدا، بل نحن أقرب لسيزيف في الأسطورة الشهيرة.
فمنذ سنتين مثلا، بدأ النقاش في فرنسا حول إعادة النظر في نظام التقويم، وخاصة إلغاء مسألة التنقيط، وهو نقاش صحي جدا، إذا علمنا أن التقويم ليس فقط عملية تربوية ومؤسسية، بل أيضا عملية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وطبقية، بالمعنى الذي حدده السوسيولوجي الفرنسي الشهير بير بورديو في كتابه «الورثة»Les Héritiers، وهو تحليل ما يزال اليوم ذا معقولية كبيرة في فهم نظامنا التعليمي أيضا، لاسيما في التطويرات التي ستخضع لها هذه النظرية من طرف عالم الاجتماع الفرنسي «فرانسوا دويبي»، وسيظهر هذا في نتائج التدبير الذي أقدمت عليه وزارة التربية الوطنية بالمغرب، والمتمثل في تحديد عتبات النجاح، والذي تم البدء فيه أواخر السنة الدراسية المنصرمة، والنتيجة هي الارتفاع الكبير لحالات الفشل الدراسي والتكرار، وما سيتبع هذا من مشكلات أخرى من قبيل الانقطاع والهدر المدرسي والاكتظاظ، وخاصة في العالم القروي والمناطق المهمشة، أي أننا كمن يسعى لمعالجة الحنجرة ولكن تسبب بإصابة الرئة، والوجه المأساوي لهذا الإجراء، هو أننا ندعم التلاميذ اجتماعيا، سواء عبر دعم مباشر للأسر أو عبر منح مدرسية، لدمقرطة ولوجهم للمدرسة، لكننا نحملهم مسؤولية فشلهم عندما نعاقبهم بالنقط، بالرغم من أننا نحن الفاشلون، فشلنا عندما لم نرعى المدرسين بالتكوين المستمر لتطوير ممارساتهم التربوية، وفشلنا عندما لم نرسم مؤسسيا الدعم التربوي الحقيقي، دون أن ننسى طبعا الفشل الفظيع على مستوى البرامج والمناهج، بمعنى أننا نلحق فتاة وطفلا قرويين بالمدرسة لأنهما ضحيتان للتهميش، وفي نفس الوقت نقصيهما منها لأنها «متهمان» بالفشل، إننا نحول المدرسة لآلة ضخمة محكومة بقانون دارويني لا يرحم الضعفاء.
إن فتح أبواب المدارس أمام كل الأطفال لولوجها لا يعني لزوما فتح أبواب النجاح أمامهم، ونحن بهذا الإجراء الجديد نحول المدرسة إلى مؤسسة للعقاب، فبسبب ضعف البنية الاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها عموم التلاميذ المتعثرين، والتي فرضت عليهم التواجد في مدارس عمومية هشة، نحول الامتحانات من محطة لتصحيح مسارات التعلم ودعمها ومعالجتها، إلى وسيلة للعقاب. عقاب أطفال كنا نعتقد أننا أنقذناهم من براثين الجهل، لكننا نلقي بهم في براثين اليأس والفشل.