شوف تشوف

الدوليةالرئيسيةسياسية

مداهمة مقر ترامب دولة الأمن القومي تثأر لإهانتها

سيقت جملة تكهنات رسمية لتبرير قيام جهاز «مكتب التحقيقات الفيدرالي»، أف بي آي، بمداهمة منتجع الرئيس السابق دونالد ترامب، مارا لاغو، في ولاية فلوريدا، «غير مسبوقة» في ظل التاريخ السياسي لأمريكا، محورها اتهامه بالاحتفاظ بوثائق رسمية مصنفة «سرية وبالغة السرية»، وإتلاف سجلات رسمية أخرى تستدعي محاكمته وتلقيه عقوبة بشأنها.

 

منذر سليمان وجعفر الجعفري

 

 

تنبغي الإشارة إلى الظروف الخاصة المتعلقة بالرئيس ترامب قبيل مغادرته البيت الأبيض، بصرف النظر عن مزاعمه بتزوير خصومه للانتخابات الرئاسية، إذ إنه واجه حملة متواصلة من مساعي الإقصاء وجلستي محاكمة في الكونغرس، وحتى التلويح بتطبيق المادة 25 من لائحة التعديلات الدستورية، التي تفوض نائب الرئيس إعلان عدم أهلية الرئيس مواصلة عمله، وتخول نائبه القيام بمهام الرئيس رسمياً، بدعم من أعضاء الحكومة الرسمية، أي إزاحة ترامب من موقعه بمستند دستوري.

من ضمن صلاحيات الرئيس الأمريكي، بحسب الدستور، إصداره قرارات برفع تصنيف «السرية» عن بعض الوثائق الرسمية التي يراها ضرورية، وهنا تكمن إحدى الثغرات القانونية التي يسعى كل فريق إلى استغلال ما تنطوي عليه من نصوص مبهمة لتدعيم وجهة نظره الخاصة.

 

قانون الوثائق الرئاسية

أصدر مركز الأبحاث الرسمي، «خدمة الكونغرس البحثية»، دراسة مفصلة حول «قانون الوثائق الرئاسية»، جاء فيها أنه «يخلو من أي أدوات لتطبيقه، ولا يسمح للسلطات القضائية بمراجعته»، كما أن لجهاز الأرشيف «الصلاحية لتحديد القيود المفروضة على رئيس سابق بالتشاور معه للتوصل إلى فترة زمنية احتفاظه بتلك السجلات تتراوح بين 5 و12 عاماً، بالتشاور معه، وفق المادة 44 الفقرة 2204 من قانون الجنايات الأمريكي». وأضاف أنه بعد انقضاء «12 عاماً تنتهي القيود المفروضة من قبل الهيئة» على تصنيفها سرية. اللافت في نص الدراسة أن القانون سالف الذكر لا يتضمن إنزال عقوبات جرمية بمن يزيل أو يتلف تلك الوثائق. (دراسة بعنوان «قانون الوثائق الرئاسية: مراجعة شاملة»، 17 دجنبر 2019)

الفريق المناوئ للرئيس ترامب تدحرج في توجيه اتهاماته، من «سوء استخدام الوثائق الرسمية»، إلى «إتلاف بيانات رسمية»، ثم إزاحته وثائق تتعلق بالأسلحة النووية، وصعوداً إلى تفعيل محاكمته بحسب قانون التجسس الذي يحظر على المحاكم، ومن ثم العامة، الاطلاع على طبيعة الدلائل التي تستند إليها التهم الموجهة.

الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية، مايكل هايدن، ألمح إلى «إعدام ترامب»، أسوة بالثنائي جوليوس وإيثيل روزنبيرغ، يونيو 1953، بعد إدانتهما بتسليم وثائق نووية سرية إلى موسكو، وذلك في تغريدة جوابية له للمؤرخ الأمريكي الشهير، مايكل بيشلوس، في 12 غشت 2022.

كما من صلاحيات الرئيس، أي رئيس، الاحتفاظ بوثائق رسمية بصفة خاصة لمدة 12 عاماً، باعتبارها «ملكية خاصة للرؤساء المعنيين»، تُودَع بعد ذلك في الأرشيف الوطني. القانون الناظم لتلك المسألة تم إقراره بحسب اختصاصيي القانون الدستوري عام 1955، والذي «شجع، لكنه لم يشترط قيام الرؤساء السابقين بإيداع تلك السجلات» في الأرشيف الوطني (مقال لديفيد ريفكين ولي كايس في صحيفة «وول ستريت جورنال»، 11 غشت 2022).

بيد أن فضيحة ووترغيت عام 1974 استدعت استصدار قوانين جديدة للحد من قيام أي رئيس بإتلاف سجلات رسمية، وكانت شرائط التسجيل آنذاك هي المقصودة. وصادق الرئيس الأسبق جيمي كارتر على قرار سجلات الرؤساء عام 1978، والذي يحيل بموجبه مسؤولية حفظ الوثائق الرسمية في عهدة هيئة الأرشيف الوطني، لكنه ينطوي أيضاً على عدد من الثغرات والنصوص المبهمة التي يستند إليها كل الرؤساء لتبرير تصرفاتهم وفق تلك النصوص.

واجهت المؤسسة الأمريكية الحاكمة في التاريخ القريب بعض السلوكيات المماثلة بالتعامل مع الوثائق الرسمية من قبل مسؤولين سابقين وباتهامات مشابهة، لكن لم تتطور مسألة «العقاب» إلى قضاء المسؤول المتهم فترة في السجن كما تنص القوانين السارية، وكما يُطالب بتطبيقه على الرئيس السابق.

من أبرز تلك الأمثلة، المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية، ديفيد بيترايوس، الذي اتُهم عام 2015 بـ «إساءة استخدام بيانات سرية»، وعقد تسوية مع القضاء تفادى بها عقوبة السجن.

والمثال الآخر، قيام مستشار الأمن القومي الأسبق، صمويل بيرغر، بـ «نزع وثائق رسمية تخص الإرهاب من مقر الأرشيف الوطني، والاحتفاظ بها»، عام 2005، والذي عقد «تسوية» مع القضاء أيضاً جنبته عقوبة السجن.

 

وثائق سرية ببيت ترامب

قام الرئيس ترامب، بحسب وزارة العدل، بإزالة نحو «15 صندوقاً» فيها وثائق رسمية والاحتفاظ بها، أرسلها إلى مقر إقامته في ولاية فلوريدا قبيل مغادرته البيت الأبيض، وجرت تسوية مصير بعضها لاحقاً بتسليمه إلى هيئة الأرشيف الوطني، بعد عام من انتهاء ولايته الرسمية. حينها أخطرت الهيئة وزارة العدل الأمريكية بأن المواد التي تسلمتها تحتوي على وثائق سرية.

عند هذا المفصل التسلسلي للأحداث برزت إشكالية: «هل قام الرئيس ترامب بنزع تصنيف السرية عن تلك الوثائق قبل مغادرته» أم لا؟ وزارة العدل وذراعها التنفيذية مكتب التحقيقات الفيدرالي «يعتقدان» أن الوثائق التي تم تسلمها من الرئيس ترامب «تنطوي على أدلة محتملة لارتكابه جريمة»، نظراً إلى فرضية مواصلة احتفاظه بوثائق سرية أخرى.

في حال استطاعت وزارة العدل إثبات شكوكها المتعلقة بتصنيف تلك الوثائق، وهو أمر من شأنه تعزيز فجوة الشرخ الأفقي والعمودي في المجتمع الأمريكي، تستطيع بموجبه تطبيق المادة 2071 من قانون العقوبات، التي تنص جزئياً على أن «يفقد (المتهم) صلاحيات منصبه ويُمنع من تسلم مهام أي منصب يخضع لسلطة الولايات المتحدة».

مؤيدو الرئيس ترامب، ومن ضمنهم بعض الأقطاب والقيادات في الحزب الجمهوري، يعتبرون أن ذلك هو المقصود بعينه، أي اغتياله سياسياً وحرمانه من الترشح لجولة الانتخابات الرئاسية المقبلة، أقله إلقاء ظلالٍ من الشك حول أهليته ومصداقيته للتأثير على قواعده الانتخابية. يعتقدون أيضا أن التحقيق الجاري في مجلس النواب، بشأن اقتحام الكابيتول في 6 يناير 2021 من قبل أنصار الرئيس ترامب، هو من أجل التمهيد للحلقة التالية من إنهاء طموحاته السياسية، وحصر المسألة في تطبيق «قانون التجسس» ضده، لمنع الإفصاح عن أي من الأدلة المحتملة أو تداولها.

 

اتهامات باستهداف ترامب

من بين «الشكوك» التي يسوقها أنصار الرئيس ترامب أن وزارة العدل، في البداية، استندت إلى اتهامها بسوء استخدام الوثائق السرية كحجة للحصول على قرار قضائي لإجراء مزيد من التفتيش والعبث بمحتويات مقار إقامته الخاصة، وتدبير ملف به بعض الأدلة الظنية، ربما لربط الرئيس ترامب مباشرة بالعناصر الذين داهموا مقر الكونغرس، بغية إرساء تهمة ارتكابه أو مساعدته لارتكاب جريمة ضد الدولة.

وسرَتْ مشاعر الإهانة بين أنصار الرئيس السابق، لاعتبارهم عملية المداهمة تنافي نصوص الدستور لحماية حرية الفرد من «التفتيش ووضع اليد على ممتلكات خاصة»، وبذلك فإن عملية المداهمة «غير قانونية»، بحسب معطياتها العملية ومسبباتها غير المعلنة إلا بعد إنجازها.

أما وقد استقر رأي المؤسسة على استهداف الرئيس السابق، فقد تسارعت الاتهامات من قبل أنصاره بأن ما يجري هو «تسييس» الموسم الانتخابي المقبل، الانتخابات النصفية بعد شهرين والانتخابات الرئاسية بعد سنتين، وبأن وزارة العدل وأجهزتها ليست سوى «أدوات لجأ إليها الحزب الديموقراطي» لاستهداف المرشح الرئاسي المحتمل عن الحزب الجمهوري.

لوحظ أيضاً مدى الامتعاض الشعبي من تصرفات مكتب الـ «أف بي آي» الأخيرة، وسجله الحافل بالتجسس على الناشطين المناوئين للسياسات الرسمية، عبر حملة مكافحة التجسس «كو إنتل برو»، واغتيال بعض قادتهم منذ عقد الستينيات الماضي. وجاءت نتائج استطلاعات للرأي أجراها معهد «غالوب» الرصين لتشهد على ذلك، بأن 66% من المواطنين فقدوا الثقة بالجهاز وبقدرته على استمرار الادعاء بمساواة الجميع أمام القانون.

المؤرخ والصحافي الأمريكي فيكتور ديفيد هانسن أوضح بعضاً من سلوكيات مكتب التحقيقات الفيدرالي، وسوء استخدامه للصلاحيات الممنوحة له قائلاً بوضوح إن «كبار مديري الـ «أف بي آي» يخدعون الكونغرس دورياً، وقاموا بمسح أو تعديل الأدلة المقدمة إلى المحاكم، ويسربون معلومات سرية عمداً إلى الصحافة، وكذبوا أيضاً تحت القسم القانوني أمام المحققين الحكوميين» (صحيفة «واشنطن تايمز»، 11 غشت 2022).

في المقابل، لا تزال استطلاعات الرأي المختلفة تفيد بتنامي شعبية الرئيس الأسبق دونالد ترامب بين جمهور الناخبين، مع فوز كبير لمناصريه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري التي جرت في بعض الولايات، ومنها ولايات حاسمة في الانتخابات الرئاسية. أما الرئيس جو بايدن، فيستمر مؤشر شعبيته في السقوط، فضلاً عن أدائه في المناسبات العلنية التي دلت على إصابته بمرض الشيخوخة، بحسب اختصاصيين.

 

غياب مرشح ديمقراطي

أمام تفاصيل اللوحة الانتخابية بصورتها الراهنة، يبدو أن الحزب الديموقراطي مقبل على مرحلة شديدة القسوة في جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة. نائبة الرئيس، كمالا هاريس، لا تحظى بدعم حاسم من قيادات الحزب، فضلاً عن تخبط مواقفها بالنسبة إلى بقية الشعب. أما المرشح الرئاسي السابق ووزير النقل الحالي، بيت بوتيجيج، فهو حديث الحضور سياسيا، ولا يتمتع بالدعم الكافي من مراكز القرار في واشنطن.

بعض المخضرمين في الحزب الديموقراطي يذهب إلى صوغ نتيجة مؤلمة بالنسبة إلى القيادات التقليدية، مفادها عدم توفر مرشح رئاسي مناسب للحزب في الجولة المقبلة، ولذا ينبغي إتاحة الفرصة للمرشح المقبل دونالد ترامب، إن استطاع البقاء سياسياً، على أن يجري البحث عن شخصية جذابة وقوية لدخول الجولة المقبلة عام 2028.

من بين الدلائل الداعمة لمشاعر استهداف الرئيس ترامب بدوافع سياسية علاقته المتوترة مع وزير العدل الحالي، ميرك غارلاند، الذي رشحه الرئيس الأسبق باراك أوباما لمقعد في المحكمة العليا، واضطر إلى سحب ترشيحه نتيجة مناهضة قوية من الحزب الجمهوري.

الرئيس ترامب خاض حملته الانتخابية، عام 2016، واعداً جمهور ناخبيه بسحب ترشيح غارلاند من قائمة المرشحين للمحكمة العليا، والذي انتظر الرئيس جو بايدن ليعينه وزيراً للعدل.

كما تجنب وزير العدل، غارلاند، الإجابة على أسئلة الصحافيين خلال مؤتمره الذي عقده يوم الخميس، 11 غشت الحالي، معلناً مسؤوليته عن التوقيع على قرار موجه إلى قاضي فيدرالي يطالب فيه بدهم مقر إقامة الرئيس ترامب. غارلاند لم يُرد الإجابة عن سؤال أحد الصحافيين، طالباً تفسيره لعدم شروع وزارته في دهم مقر إقامة الرئيس الأسبق باراك أوباما بشأن حيازته لوثائق رسمية مفقودة، بل الأهم عدم متابعة وزارة العدل لوثائق إلكترونية رسمية تخص وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، وآخرين أيضاً من طاقم الرئيس أوباما.

أحد الأذرع الفكرية للحزب الجمهوري واليمين التقليدي، «ذي فيدراليست سوسيتي»، شنت بدورها هجوماً لاذعاً على الأجهزة الأمنية الأمريكية، مستعيدة ما سمته «أكبر خديعة أمنية في التاريخ الأمريكي المسماة فضيحة التجسس»، ضد الرئيس دونالد ترامب، باتهام «مسؤولي إدارة الرئيس باراك أوباما بالتآمر لشيطنة والقضاء على رئيس منافس قادم باستخدام أدلة مصطنعة، والكذب أمام محاكم أمن سرية، وعمليات بروباغندا إعلامية، وانتهاك عدد من القوانين»، كلها بهدف القضاء على المشاكس القادم إلى البيت الأبيض.

وحذر قادة الحزب الجمهوري وجمهوره من تبعات عدم وضع حد لاتهامات باطلة بحق الرئيس السابق من قبل الأجهزة الأمنية، التي «ستصوب سهامها ضدهم» إن سمحوا لها بالإفلات من المحاسبة (مقال بعنوان «مداهمة ترامب تؤكد تقرير (دولة) الأمن القومي لمن يُسمح للأمريكيين التصويت له»، موقع «ذي فيدراليست سوسيتي»، 9 غشت 2022).

واستندت الذراع الفكرية للحزب الجمهوري إلى «قيام القيادات العسكرية بالكذب المتعمد على الرئيس دونالد ترامب بشأن أفغانستان، لثنيه عن سحب القوات الأمريكية من هناك». أما في عهد الرئيس جو بايدن، فقد «وجد مسؤولو (دولة) الأمن القومي فرصة مريحة برفض الانصياع لقرارات قائدهم الأعلى المفترض»، في إشارة واضحة لدور قائد هيئة الأركان المشتركة مارك ميللي معارضة القيادة السياسية، في أسطع مثال على «الانقلاب العسكري» غير المعلن.

في المحصلة النهائية، أسهمت عملية دهم منتجع الرئيس السابق والاستيلاء على وثائق رسمية بحوزته في تبلور سلسلة من الانهيارات المجتمعية والسياسية، على السواء، ينذر بعضها بمواجهة قد تُفضي إلى عصيان مدني أو أكثر حدةً، وُجهتها الأذرع الأمنية للدولة، على خلفية انتهاكاتها للحرية الفردية، وما يشكله ذلك من صدمة قاسية في الوعي الأمريكي العام.

 

 

نافذة

من بين الدلائل الداعمة لمشاعر استهداف الرئيس ترامب بدوافع سياسية علاقته المتوترة مع وزير العدل الحالي، الذي رشحه أوباما لمقعد بالمحكمة العليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى