لم يمنع انشغال الأدب بالحياة الإنسانية خلال كلّ مراحل العمر، من طفولة ومراهقة إلى الشيخوخة، من النظر إليها من زوايا متعددة تصل إلى حدّ الاختلاف أحيانا والتناقض أحيانا أخرى. ولعل موضوع الشيخوخة حاز على الكثير من الاهتمام والتأمل العميق من العديد من الكتّاب والمفكرين باعتبارها مرحلة من مراحل العمر المشرعة حتما، أوّلا، باتّجاه الموت وثانيا ترسم للإنسان مسارا، قد يطول أو يقصر، من الضعف والوهن وفقدان كل القدرات البدنية والذهنية والحسية. لذلك كان أغلب الكتاب والمبدعين، في مراحل تقدم العمر، منشغلين بهاجس ضياع ملكاتهم الإبداعية وعدم امتلاك كلّ إمكانياتهم التعبيرية والجمالية… في المقابل، تمّ النظر إلى الشيخوخة من خلال صور نمطية شائعة تصل إلى حدّ التقديس، بوصفها مرحلة يبلغ فيها الإنسان أقصى درجات الحكمة وسداد الرأي… ومن جهة أخرى تميزت رؤى مغايرة حاولت تجاوز هذه الصورة النمطية الجاهزة لهذه المرحلة العمرية وأخضعتها، بالتالي، إلى التساؤل والدراسة والكشف عن مميزاتها دون إغفال معاناتها الشخصية والخاصة.
إعداد وتقديم- سعيد الباز
ثيودور كاليفاتيدس.. حياة أخرى
الكاتب الأديب والفيلسوف السويدي من أصل يوناني، ثيودور كاليفاتيدس Theodor Kallifatides، الذي عاش بين ضفتين، أو كما قال: «أنا غريب في كليهما اليونان والسويد»، اكتسب شهرة أدبية كبيرة بفضل منجزه الشعري والروائي وترجماته من اللغتين اليونانية والسويدية. لكن كتابه «حياة أخرى»، الذي كان عبارة عن سيرة ذاتية يتطرق فيها إلى الشيخوخة والكتابة والذاكرة والهجرة واللغة والحب وأشياء أخرى، أو ما أسماه (مذكرات أديب مهاجر)، كان في الحقيقة ثمرة حياة ثرية وغنية. يقول فيها:
«كان وقتا صعبا. التهمتْ روايتي الأخيرة كلّ قواي. كنتُ منهكا، وفكّرت أن أتخلّى عن الكتابة: أتخلّى عنها قبل أن تتخلّى هي عني.
فبعد أن أتممتُ أعوامي السبعة والسبعين، غدت الكتابة لي كمن يعمل عملا إضافيا. ذات مساء، التقيتُ بيورن ويمان، المحرر الثقافي في صحيفة «داغنز نيهيتر» (أخبار اليوم)، في دار الأوبرا فأخذنا ندردش في الأمر. طرح بيورن الرأي القائل بأنّه يجب التوقف عن الكتابة بعد سن الخامسة والسبعين.
«لا بأس حتّى خمسة وسبعين، لكن بعد ذلك، هناك شيء ما يحدث لهم».
كان يقصد بـ«لهم»، الكتّاب.
هل حدث هذا «الشيء» لي الآن؟
لقد قمت فعلا ببعض المحاولات المتهوّرة للعمل على بعض الأفكار، لكنني لم أصل إلى أيّة نتيجة. ففي منتصف جملة ما، كان سرعان ما يغزوني شعور بالتعب، ولا تعود الكلمات ذات مذاق سلس في فمي. فكيف يمكنني أن أمضي قدما؟
في أحد تلك الأيام، وقفت أستحمّ في أستوديو العمل الخاص بي بكل ملابسي، تاركا نفسي أتبلّل كليّا. كان هدفي هو محاولة الأخذ بنصيحة الأديب الروسي أنطون تشيخوف حول كيفية التعافي من الفشل. كان ذلك شعوري تماما، إذ إن عدم قدرتي على الكتابة كانت تشكّل فشلا كبيرا، فشلا ذريعا بالنسبة لي. وكان أنطون تشيخوف المتواضع قال يوما إن المرء، في تلك الحالة، يفعل ما يفعله الكلب المبلول، ينفض الماء عنه.
لم تنجح الفكرة، وعلى العكس تماما. انتهى بي الأمر أن أرتجف بردا، فتسلل الحزن عميقا إلى روحي. ولم أكن كلبا مبتلا فحسب، بل كنت كاتبا سابقا متجمدا من البرد.
لقد عشت سبعا وسبعين سنة. وكان وزن الوقت أثقل من الماء. ولم أستطع أن أنزل ذلك الثقل عن كتفيّ. فكيف، إذن، سأتمكن من أن أكتب مجددا؟
… كان خوفي الأكبر دائما هو أنني قد أجعل نفسي محطّ سخرية. فأكتب شيئا فظيعا، يُضحك عليّ حتّى طيور النورس المحلقة فوق خليج سترومن في ستوكهولم. كنت خائفا أن أكتب بشكل سيئ أكثر من خوفي ألا أكتب على الإطلاق. لكن كيف لي أن أعرف إن كان ما كتبته سيئا؟ وهل سأخيف ناشري الرصين بكتاباتي هذه؟
بالطبع يمكن للمرء أن يعتمد دائما على النقّاد. أمّا أنا فلم أستطع ذلك. لقد كنت جزءا من لعبة النقد الأدبي لفترة طويلة مما يجعلني لا آخذها على محمل الجدّ. لقد كان قرار الكتابة أو عدم الاستمرار بالكتابة هامّا للغاية بالنسبة لي، ممّا لا يمكن أن أسمح لشخص آخر أن يتّخذه عنّي.
كان الأمر يتعلّق بحياتي».
جونيتشيرو تانيزاكي.. يوميات عجوز مجنون
يعدّ الكاتب الياباني جونيتشيرو تانيزاكي، Junichiro Tanizaki، أسبق الروائيين اليابانيين إلى التطرق لموضوع الشيخوخة من زاوية مختلفة أقرب إلى الجنون وهلوسته المندفعة، ما نجد له أثرا لدى غيره من الروائيين اليابانيين مثل شيتشيرو فوكازاوا في «ناراياما» أو ياسوناري كواباتا في «الجميلات النائمات»:
«… لا يوجد لديّ اليوم شيء أكتبه، لذلك سأحاول أن أدوّن عددا من الأفكار التي تجول في خاطري.
لعلّ الجميع يصبحون هكذا في شيخوختهم، لكن، في الآونة الأخيرة، لا يكاد يمضي يوم إلّا وأفكّر فيه بموتي، مع أنه لم يكد يطرأ أيّ شيء جديد على حالتي. وكان ينتابني هذا التفكير منذ فترة طويلة، حتّى عندما كنت في العشرينات من عمري، لكن الأمر ازداد الآن. وكنت أردد لنفسي مرتين أو ثلاث مرات في اليوم: ربما متّ اليوم، وهذا لا يعني بالضرورة أنني أخاف من هذه الأفكار. فعندما كنت شابا، كانت هذه الفكرة تثير فزعي، أمّا الآن فقد أصبحت تمنحني سعادة أكيدة. وأطلقت العنان لخيالي لتصوير مشهد لحظاتي الأخيرة، وماذا سيعقب موتي. فبدلا من أن يقيموا الصلاة عليّ في قاعة المآتم في مقبر «أوياما»، أريد أن يضعوا تابوتي في الغرفة التي تقع قبالة حديقتنا. لأن ذلك سيسهّل الأمر على الأشخاص الذين سيأتون لحرق جثماني: إذ يمكنهم التوجه من البوابة الرئيسية إلى البوابة الداخلية، والهبوط على الدرجات الحجرية. ولا تهمني تلك الموسيقى من نوع «الشنتو» بالمزمار والناي. لكني سأطلب من أحدهم، مثل «تومياما سيكين»، أن ينشد أنشودة «القمر عند الفجر». إني أكاد أسمع صوته الآن…
يفترض أنني ميت، لكن يخيّل إليّ أنني أسمعه في جميع الأحوال، وأسمع صوت زوجتي أيضا وهي تبكي. حتّى أصوات «إتسوكو» و«كوغاكو» وهما تنشجان، مع أنني لم أتمكن من التوافق معهما. من المؤكد أنّها ستكون هادئة، أو لعلها ستفاجئ الجميع بالبكاء، أو على الأقل تتظاهر بأنّها تبكي. أتساءل كيف سيبدو شكل وجهي وأنا ميت. أريد أن يكون ممتلئا كما هو الآن، حتّى لا يكون منفّرا…
حتّى أصبحت في الخمسينات من عمري، لم يكن ثمة شيء يخيفني أكثر من هواجس الموت، لكن ذلك توقف الآن. لعلي تعبت من الحياة، لم يعد يهمني إن مت أم لم أمت. فقد أصبح الأمر سيّان بالنسبة لي.
… أعرف تماما أنني رجل عجوز قبيح تكسو وجهي التجاعيد.
عندما أنظر في المرآة قبل أن آوي إلى الفراش وبعد أن أنزع طقم أسناني، يصبح الوجه الذي أراه في غاية الغرابة، فلم تعد في فكيّ ولا حتّى سنّ واحدة، حتّى أنه لم تعد تكاد توجد لثة في فمي. وإذا أطبقت فمي، أصبحت شفتاي مستويتين معا، ويتدلّى أنفي إلى ذقني. أدهش عندما أفكر أن هذا هو وجهي. حتّى القرود لا تمتلك مثل هذه الوجوه القبيحة. وكيف يمكن لشخص له وجه كهذا أن يأمل في أن يغوي امرأة؟ لكن مع ذلك، فإنّ لهذا الأمر ميزة وهي أنّه لا يجعل النساء يحترسن منك، ويقتنعن بأنّك رجل عجوز يعرف أنّه لن يحظى بأيّ عطف منهن. لكن مع أنّه لا يحقّ لي أن أستغل هذه الميزة التي أتمتع بها، وأنني لست قادرا على ذلك، فإنّي أستطيع أن أتقرب من الحسناوات من دون إثارة أيّ شكوك لديهن. وللتعويض عن عدم قدرتي، يمكنني أن أجعلها تنهمك في حديث مع شاب وسيم، وأجعل البيت كلّه يغوص في حالة من الاضطراب، وأستمتع بذلك.
حنا مينه.. نهاية رجل شجاع
حنا مينة، الروائي السوري العصامي، صاحب الأعمال الروائية ذات الطابع الواقعي والأكثر انتشارا في العالم العربي، من «نهاية رجل شجاع» و«المستنقع» و«الياطر» و«الشمس في يوم غائم»، إلى «المصابيح الزرق»… تعامل مع الشيخوخة، خلال الفترات الأخيرة من حياته، بروح البحار التي تسكنه بكل قوة وعناد مواظبا في عمله الروائي والإعلامي، بل ذهب، في إصراره على الوقوف أمام الزمن الهارب، إلى كتابة وصيته وإرسالها إلى الصحف، فهو، حسب قوله، عمّر طويلا ويخشى ألّا يموت، يقول فيها: «أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه «لكل أجل كتاب». لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين. عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية. كل ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولمّا أزل. لا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النِعم. أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قُرّاء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاصٍ مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأُغلقت الدائرة. لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي،
أستغيث بكم جميعا، أن تريحوا عظامي منها. كل ما أملك في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنّهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا منّي، وكنّا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي. زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكلّ إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها…
شيشرون.. في مديح الشيخوخة
ماركوس شيشرون، كاتب وخطيب ومفكر وسياسي روماني، ولد سنة 106 ق م. بعد انسحابه من عالم السياسة وشعوره بالتقدم في العمر، شرع في كتابه «في مديح الشيخوخة» على شكل محاورات:
********
… وعلى ذلك، فإنّ من ينكرون أن سنّ الشيخوخة حافل بالنشاط في المشاركة في الشأن العام، ليس لديهم أيّ برهان على رأيهم، وهم يشبهون من قد يقولون إن ربان السفينة لا يفعل شيئا مفيدا في إبحار السفينة، لأنّه بينما يقوم آخرون بتسلق السواري، ويجري آخرون بين الممرات، ويقوم آخرون بتشغيل مضخات المياه، فإنّه، أي ربان السفينة، يجلس مستريحا في قمرة السفينة ممسكا بدفتها، لعله لا يفعل الأشياء التي يؤديها الشباب من طاقم السفينة. لكنه بحق يفعل أمورا أعظم وأفضل بكثير. فالأمور العظيمة تُؤدى ليس بالقوة العضلية والرشاقة والسرعة، بل بالحكمة وقوة الشخصية والرأي السديد، تلك الخصال التي عادة لا تفتقر إليها الشيخوخة، بل إنّها تزداد مع التقدم في العمر.
********
… وماذا عن المسنين من رجال القانون، والكهنة، والعرافين والفلاسفة؟ كم من الأشياء الكثيرة يتذكرونها. يحتفظ المسنون بقدراتهم الذهنية، فقط بشرط أن يبقى حماسهم نحو المعرفة ونشاطهم على حاله، وهذا الحال لا ينطبق فقط على المشاهير من الرجال وذوي المناصب الرفيعة، بل أيضا على الرجال في حياتهم الشخصية وأنشطتهم الآمنة. ظلّ سوفوكليس يؤلف مسرحيات تراجيدية إلى أن بلغ مرحلة متقدمة جدا من الشيخوخة، وعندما بدا أنّه يُهمل في إدارة شؤون أسرته بسبب اهتمامه بعمله الأدبي، فقد تمّ استدعاؤه إلى ساحة القضاء من قبل أبنائه من أجل جعل القضاة يقضون بحرمانه من إدارة ممتلكات العائلة على أساس أنّه يتصرّف بحماقة على هذا النحو، وذلك طبقا لقانون مشابه لقانون لدينا يقضي بعزل كبير العائلة إذا أساء التصرف في ممتلكات العائلة. عندئذ قيل إن الشيخ قرأ على القضاة تلك المسرحية التي كانت بين يديه والتي انتهى منها لتوه، وهي أوديب في كولونوس، ثم سألهم: هل تبدو هذه القصيدة لرجل مختل، وبمجرد تلاوته لهذه المسرحية حصل على البراءة بحكم القضاة.
********
… فينبغي ممارسة تمارين معتدلة، وينبغي تناول ما يكفي من الطعام والشراب لتجديد قوتنا دون أن نثقل عليه. ولا ينبغي أن ندعم قوة الجسد فقط، بل ندعم على نحو أكبر بكثير قوى العقل والروح، وذلك لأنهما أيضا يخبوان بالشيخوخة مثل المصباح إذا لم تصب الزيت فيه. والحق أن الأجساد تُصاب بالإرهاق جراء التدريبات البدنية، في حين أن العقول تصير نشطة من خلال النشاط الذهني. لأنّ ما كان يعنيه كايكيليوس في قوله: «شيوخ الكوميديا الحمقى» كان يقصد به هؤلاء السذج كثيري النسيان البلهاء، وتلك الرذائل لا ينبغي أن تُنسب إلى الشيخوخة بشكل مطلق، بل إلى الشيخوخة التي تتسم بالكسل والخمول وكثرة النوم. إن الاستهتار والفسق هي رذائل تُعزى إلى الشباب أكثر من كبار السن، ومع ذلك فليس جميع الشباب يتسمون بذلك، وإنما غير الصالحين منهم، وهكذا فإنّ حماقة كبر السن تلك، التي عادة ما تُسمّى خرف الشيخوخة، لا يتصف بها كلّ الشيوخ، وإنّما الحمقى منهم فقط.
الشيخوخة.. كتّاب وتجارب
غابريال غارسيا ماركيز: ألّا يسعفك الجسد
يتحدث الروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز عن تجربة الشيخوخة: «… خوفي الأساسي هو ألاّ يُسْعفني الجسد. هناك فترة زمنيّة لا يكون فيها نظام الأكل، والتمارين كافية لإبعاد خطر العجز والمرض، فيفقد الجسد القدرة على المقاومة. وأعتقد أنني بلغت تلك الفترة من العمر التي نقول فيها: آه… أبدا لم يحدث لي هذا من قبل… وهذا الألم لم أعرف له مثيلا من قبل أبدا… وهذا الإحساس أيضا… وأنا لم أكنْ أتردد على بيت الراحة مرات عديدة في الليل مثلما هو حالي راهنا… كما أني أصبحت أستيقظ مبكرا جدا لأواجه قلق السهاد… غير أن أهم شيء هو ما يحس به كل شخص وهو يستمع إلى نبضات قلبه. هذا يظل لغزا. وأنا أكتب روايتي هذه، لا أدري كيف سيكون شعور شخصياتي وهي تستمع إلى نبضات قلبها في زمن الشيخوخة. إنه تحقيق بالمعنى الدقيق للكلمة. لذا يمكنني أن أقول إنني أواصل الكتابة لكي أعرف ماذا سيحدث، وأكون قادرا على قراءته». وعن طريقة الكتابة في زمن الشيخوخة يقول ماركيز: «طريقة الكتابة مختلفة للغاية. في فترة الشباب نحن نكتب-على الأقل في ما يخصني لأن الأمر يختلف من كاتب إلى آخر- وكأننا نكتب قصيدة. نحن نكتب بوحي من المشاعر، ولنا قوة إلهام خارقة حتى أننا لا نُعير اهتماما للتقنية. ونحن نكتفي بما يردُ على أذهاننا، من دون أن نهتم بالكيفية وبالطريقة التي ستعبّر بها عن ذلك. لكن في ما بعد، نحن نعرف ماذا يتوجب علينا قوله، وكيفية التعبير عنه. وحتى وإن أمضينا العمر كله في الكتابة عن طفولتنا، فإننا نجد أنفسنا قادرين على التعبير عنها بطرق وبأساليب مختلفة. لكن عندما نشيخ، تنضب طاقة الوحي، وتصبح التقنية أمرا ضروريا ومُلحّا. وإذا ما افتقد الكاتب للتقنية، فإن كل شيء ينهار.
الآن، أنا اقترب من الشيخوخة إلاّ أنني أستيقظ بأكثر حيوية ونشاط. الفرق الثاني بشأن موضوع السن هو الذاكرة. في فترة الشباب، لم أكن أسجل الأفكار التي تراودني أثناء الكتابة. وكنت أظن أني إذا ما أنا نسيتها فلأنها ليست مُهمّة جدا. وكنت أتذكر تلك التي لها أهمية بالنسبة لي. أما الآن فإنني أقوم بتسجيلها. وما يحزّ في نفسي هو نسيان فكرة راودتني، أو شيء ما كنت أرغب في قوله، أو كنت قد قرأته، أو موسيقى تبخّرت من ذاكرتي. وفي سنّ معيّنة، نحن ننسى الأسماء والأشياء. وهذا أمر مقلق للغاية وعلينا أن ندرّب أنفسنا لتجاوزه. غير أنه ليس سهلا. والجزء الكبير من العمل يخصّ تصميم الشكل، وتفصيل ضئيل يمكن أن يقود إلى اليأس. لذا أنا أحرص الآن على تسجيل ملاحظاتي وأفكاري، وأن أكتب كلمة أو جملة يمكن أن تساعدني مستقبلا. وإذن يمكن القول إن هناك إيجابيات وسلبيات في زمن الشيخوخة».
آني آرنو.. الاستمتاع بالشيخوخة
الكاتبة الفرنسية آني آرنو، Annie Ernaux، ذات التوجهات اليسارية والكاتبة النسوية، أعربت دائما عن مناصرتها لـ«جميع من يتعذبون ولكل الذين يناضلون والذين لا يتم الاعتراف بهم»، وتفردت بموقفها من القضية الفلسطينية واعتبرت من واجبها الدفاع عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة دون أن تُتهم بمعاداة السامية.
تعتبر آني آرنو أنها ترغب في «الاستمرار في الكتابة وفي الوقت نفسه الاستمتاع بالشيخوخة». وتضيف: «هنالك منعطف في الإحساس بالموت أحدده شخصيا بسن الثمانين. نعي حينها أن المستقبل لم يعد مفتوحاً. لطالما علمنا باستحالة خلودنا، ولكن نعي الأمر بقوة أكبر. نرى باستمرار أشخاصاً يموتون حولنا، أقارب ومعارف، حتى الأصغر سناً. إنه أمر أشبه بالوقوف أعلى شجرة تتساقط منها الأوراق. إنني على شجرة تتساقط أوراقها أكثر فأكثر. لكن تربطني بالموت علاقة سلام. فعلت بحياتي ما شئت: الكتابة. يسهل الموت حين نملك أولاداً وأحفاداً. ورَثنا أمراً يعيش بعدنا».
ماريو بارغاس يوسا.. وداعا للرواية
كان الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، Mario Vargas Liosa، أعلن، وهو في الثانية والثمانين من عمره، أنّ حيويته لم تعد بالقدر ذاته كما في السابق، لكن الحب والجدال والعمل الأدبي جميعها تبقيه على قيد الحياة، وأنّه يأمل أن تفعل ذلك حتّى النهاية. فهو يقول دائما: «إنني أودّ أن أموت والقلم في يدي، أي وأنا أعمل». لكن الرأي العام فوجئ بتصريحه عقب إصداره روايته الأخيرة «أهديكم صمتي»: «أقول وداعا للرواية لأن عمري 87 عاما ولا أستطيع أن أتخيل أن هذه القصص، التي يستغرق تأليفها ثلاث أو أربع سنوات، تمكن مقاربتها بكل الدقة المطلوبة في هذه المرحلة من حياتي. لكنّ الحقيقة هي أنّني سأواصل الكتابة حتى آخر يومٍ في حياتي. في «أهديكم صمتي» وضعتُ كل ما تعنيه بيرو بالنسبة لي: مجدها، وحزنها، تلك الموسيقى التي لها بكاءٌ ودموعٌ، هكذا أتصوّر الفالس البيروفي وثقافتي. إنها أكثر ما يميزنا في أعماقنا، ولهذا السبب، أظنّ أن هذه الرواية هي إحدى الروايات التي لها قدرٌ كبيرٌ عندي. إنها تربطني بجذوري وهي بمثابة تكريم للإبداع البيروفي الذي نفخر به. أودّ أن أقول لقرائي أن يواصلوا الكتابة والقراءة، وأن يستفيدوا من خيالهم ويستمتعوا به قدر الإمكان».
سيمون دوبوفوار.. بعيدا عن تقديس الشيخوخة
تقدّم الكاتبة الفرنسية سيمون دوبوفوار، Simone de Beauvoir، تصورا مغايرا لزمن الشيخوخة بعيدا عن كل تقديس: «لا يُحب الكثير من الناس ما أقوله، لأنّهم يريدون أن يؤمنوا بأن كل فترات الحياة مُبهجة، وأن الأطفال أبرياء، والمتزوجين حديثا سعداء، وكبار السنّ في هدوء واطمئنان. تمردت على مثل هذه المفاهيم طوال حياتي، ومما لا شك فيه أنّ هذه الحقيقة في الوقت الراهن، بالنسبة لي، ليست الشيخوخة وكبر السن. ولكن بداية الشيخوخة تمثل –حتّى إذا كان الفرد لديه كل الموارد التي يحتاجها، المشاعر، العمل الذي يتعيّن عليه القيام به- تغييرا في وجود الفرد، تغييرا يتجلّى بفقدان أرقام مهولة من الأشياء. وإذا لم يكن المرء آسفا لخسارتهم، فهذا لأنّه لم يكن يحبهم. وأعتقد أن الناس الذين يقدسون الشيخوخة أو الموت السريع، هم أناس حقا لا يحبون الحياة. وبطبيعة الحال، في هذه الأيام بفرنسا، يمكنك أن تقول إن كلّ شيء على ما يرام، كلّ شيء جميل، بما في ذلك الموت.
إدوارد سعيد.. الشيخوخة والأسلوب المتأخّر
كتب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد كتابه «عن الأسلوب المتأخّر» في الفترة الأخيرة من حياته بعد أن داهمه المرض الخبيث، فكان هذا الكتاب عن حق تحليلا للنهايات المحتومة للكتاب والمبدعين والفنانين من خلال ما أسماه بالأسلوب المتأخّر، ويقدم مجموعة من التأملات لمرحلة الشيخوخة والاعتبارات الشائعة التي أحاطت بها من قبيل العلاقة بين السن والحكمة… ما مكنه من استنتاج عدة أساليب جمالية وفنية تدخل كلها ضمن صنف الأسلوب المتأخّر: «… أصل أخيرا إلى ثالث الإشكاليات الكبرى، وهي موضوعي هنا لأسباب شخصية بديهية، الفترة الأخيرة أو المتأخّرة من الحياة، فترة تحلّل الجسد، واعتلال الصحة، أو حلول عوامل أخرى تحمل إمكانية النهاية قبل الأوان حتّى لمن لم يتقادم به العمر. سوف أركّز على كبار الفنانين وكيف اكتسى كلامهم وفكرهم في نهاية حياتهم، لغة جديدة، وهو ما سأسميه «الأسلوب المتأخّر».
هل أن المرء يزداد حكمة مع العمر؟ وهل أن ثمّة مؤهلات فريدة في الرؤية والشكل يكتسبها الفنّانون بسبب العمر في الفترة المتأخّرة من حياتهم؟ نلقى فكرة شائعة عن علاقة السنّ بالحكمة في بعض الأعمال الأخيرة تعكس نضجا مميّزا، وروح تصالح وهناءة، غالبا ما يعبّر عنها بمصطلحات التحوّل العجائبي للواقع المألوف. في مسرحيات متأخّرة مثل «العاصفة» أو «حكاية شتوية»، يعود شكسبير إلى نوعي القصة الغرامية والأمثولة، وفي مسرحية «أوديب في كولونوس» لسوفوكليس، يجري تصوير البطل الهرم وقد بلغ أخيرا قداسة لافتة وشعورا بالثبات. وثمة حالة «فيردي» المعروفة الذي أنتج في سنواته الأخيرة «عطيل» و«فولستاف»، وهما عملان أوبراليان لا ينضحان باستسلام بداعي الحكمة قدر ما يعبّران عن طاقة متجدّدة، تكاد أن تكون شبابيّة، تنمّ عن ذروة في الإبداع والقوة الفنيين.
يستطيع كلّ منّا تقديم أدلة جاهزة للكيفية التي تتوّج بها هذه الأعمال المتأخّرة سيرة حياة من السعي الجمالي: رامبراندت، ماتيس، باخ، فاغنر. لكن ماذا عن التأخّر الفني، ليس بما هو تناغم وانفراج، وإنّما عناد وعسر وتناقض بلا حل؟ وماذا لو أن التقدّم في السنّ وسوء الصحة لا ينتجان هناءة القول بأنّ «النضج هو كل شيء؟» تلك حالة الأعمال الأخيرة لإبسن، وخصوصا «عندما يستيقظ الموتى» التي تمزّق مهنة الفنّان وسيرته إرباً، وتضع موضع التساؤل مجدّدا المعنى والنجاح والتقدّم التي يفترض بفترة الفنان المتأخّرة أن تكون قد تجاوزتها. بعيدا عن الانفراج، إذا توحي مسرحيات إبسن الأخيرة بفنّان غاضب مضطرب، توفّر له واسطة المسرح مناسبة لاستثارة المزيد من القلق والعبث غير المسبوق بإمكانية الختام تاركا المشاهدين أكثر حيرة واضطرابا من ذي قبل.
إنّ هذا النوع الثاني من التأخّر، بما هو أحد العوامل الفاعلة في الأسلوب، هو ما أجده بالغ الإثارة. وأودّ أن أتبحّر في تجربة الأسلوب المتأخّر الذي يتضمّن توترا متنافرا ومضطربا، كما يتضمّن، فوق ذلك، نزعة إنتاجية عديمة الجدوى تسير بالاتّجاه المعاكس عمدا.
استخدم آدورنو عبارة «الأسلوب المتأخّر» بأكثر الأشكال انطباعا في الذاكرة… يرى آدورنو، أبعد ممّن كتبوا عن أعمال بيتهوفن الأخيرة، أن تلك التأليفات التي تنتمي لما يُعرف بالفترة الثالثة من نتاج المؤلف الموسيقي… تشكّل مجتمعة حدثا تاريخيا في الثقافة الحديثة: هي لحظة كان الفنّان يسيطر فيها سيطرة تامة على فنّه ولكنّه تخلّى مع ذلك عن التواصل مع النظام الاجتماعي القائم الذي هو جزء منه، محقّقا علاقة متناقضة ومستلبة معه. تشكّل أعمال بيتهوفن المتأخّرة نوعا من المنفى…»
لطيفة الزيات.. الشيخوخة والوجود الزائد
المجموعة القصصية «الشيخوخة» للكاتبة المصرية لطيفة الزيات تحمل في ملامحها العامة أنّها سيرة ذاتية ترتكز في أساسها على موضوع الشيخوخة وذيولها على مسار حياتها السابقة إضافة إلى تأملاتها العميقة في هذه المرحلة العصيبة من العمر:
«… عدت لتوي من العمل ومعي هذا الإرهاق العام الذي هو عرض من أعراض الشيخوخة… أتساءل وأنا أستند إلى باب الشقة المغلق ورائي: لم يعاودني أحمد في الحلم وقد مات منذ عشر سنوات؟ ولم يعاودني الآن وعلاقتي تتعثر بابنتنا حنان؟ أتساءل ما زلت، عن مغزى الطيور السوداء في حلم أمس الأوّل. هل هي طيوري أم طيور أحمد أم طيورنا معا؟
يخطر ببالي وأنا أستند إلى ضلفة الباب المغلق إمكان إدراج يومياتي هذه في نفس الدفتر الذي كتبت فيه يومياتي عام 1965 بعد موت زوجي أحمد. أفتح درج المكتب الذي لم أفتحه منذ تسع سنوات. أرقب الدفتر بغلافه الأسود السميك يرقد في جوف الدرج وأقفله دون أن أزيل عن الدفتر طبقات من تراب يتعين إزالتها.
**********
الشیخوخة ھي شعور الفرد بأن وجوده زائد على حاجة البشر، وأن الستار قد أسدل ولم یعد له دور یؤدیه، وھي الافتقار إلى معنى الوجود ومسوِّغه الناتج عن ھذا الشعور. والشیخوخة بھذا المعنَى حالة، ولیست مرحلة من مراحل العمر، وھي حالة نفسیة ولیست بالضرورة حالة فیزیائیة، وإن أدت ربما قبل الأوان إلى عوارض فیزیائیة. والشیخوخة بھذا المعنَى مرض لا یصیب سوى الإنسان المریض. لا یشیخ الإنسان إلا إذا فقد قدراته العقلیة أو جانبًا من ھذه القدرات. قد یطعن الإنسان في السن ویضطر إلى تغییر عدسات القراءة المرة بعد المرة. قد لا تحمله ساقاه ویضطر إلى الاستناد إلى عكاز أو إلى ذراع بشریة، ولكنه لن یستشعر أبدًا برد الشیخوخة ولا الإحساس بانعدام الوزن ما ظل یناطح، یبدأ عملاً وینھیه، یقبل تحدیًا فكریّا أو مادیّا ویتجاوزه، یتبین منتشیًا ومحتضنًا للذات المزید من القدرة على المناطحة، على المعرفة وعلى التوصل للھدف. لا یشیخ الإنسان طالما ظل عقله یضفي على وجوده المعنى، یغنیه بھذا الوھج المتواصل الذي لا یشتعل فجأة ویخمد، الذي یدفئ ولا یحرق، ھذا الوھج الأزرق زرقة غاز البوتاغاز النقي، الھادئ ھدوء الیقین.
**********
في أعماق كل منا ترقد رغبة كامنة في الموت، في الانزلاق إلى حالة اللا شيء والتخفف من عبء الوجود الإنساني والمسؤولیة الإنسانیة تجاه الذات والآخرین. وتتضح ھذه الرغبة في السعي إلى التوصل إلى مطلق ما یلغي المكان والزمان. وإلغاء المكان والزمان لا یتحقق إلاَّ في حالة الموت. ولا ینبغي أن تخیفنا ھذه الرغبة، فالإنسان الذي یعیھا قادر على تجاوزھا. تنخرط في إطار ھذه الرغبة في الموت الكثیر من صور الحب، أو ما نسمیه حبّا، بین الرجل والمرأة. ونحن نسمي ھذه الصور من الحب توحدًا والمحبان یستحیلان واحدًا. وما من توحد یواتي ندین من بني الإنسان. التوحد یعني وأد الذات لحساب الآخر، أو وأد الآخر لحساب الذات. علاقات الحب / الموت ھذه، تنطوي كما اكتشفت من تطورات علاقتي بزوجي أحمد، على تبادل المواقع. كنت (…)، المالك والمملوك، الوائد والموءود، الشيء واللاشيء. بدأت لعبة التوحد وأنا المعبود وانتھت وأنا العابد. الرغبة في امتلاك الآخر تستوي والرغبة في أن یمتلكنا الآخر، والوضعان وجھان لنفس العملة: محاولة لرفض الحیاة المحكومة بالتغیر ونسبیة الأشیاء. لم یقتلني أحمد كما توھمت فترة أنه فعل. لا یملك أحد أن یقتل أحدًا: یدا القتیل في كل الحالات مخضّبتان بدمه: عروس النیل تُقبِل راضیة، تنزلق إلى المیاه مستسلمة، یطویھا الموج منتشیة بأمل التوحد مع المعبود، بأمل أن تصبح المعبود. حاجة الإنسان إلى الإنسان حاجة مشروعة وبناءة، وھي تساوي حاجته لأن یصل ما بینه وبین العالم الأوسع والأرحب، وحاجته إلى أن یتزود بالدفء والقدرة على مواصلة الطریق الأشق والأصعب. وھي حاجة لا یملك سوى الإنسان أن یشبعھا. وھو یملك أن یشبعھا طالما ظل صاحبھا وسیدھا، لا عبدًا لھا».