شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفنحوار

محمود الرحبي للأخبار:  الأهمّ بالنّسبة للأدب هو الكيفية

 

كان محمود الرحبي من ضمن مجموعة من الطلبة القادمين من سلطنة عُمان الذين أتمّوا دراستهم الجامعية في المغرب مثل زاهر الغافري ومحمد الحارثي وعبد الله الريامي وناصر العلوي، حيث انخرطوا في الحياة الثقافية في المغرب، وبرزوا كتّابا لامعين في المشهد الفكري والإبداعي في سلطنة عُمان. في هذا الحوار نعود بمحمود الرحبي إلى ذاكرته المغربية وتجربته القصصية والروائية، وخاصة روايته «طبول الوادي» المترشحة إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا لهذا العام.

 

أريد أن أبدأ معك الحوار من ذاكرتك المغربية، كيف حدث هذا اللقاء العُماني والمغربي؟ وكيف تشكّل في شخصك وكتاباتك؟

معرفتي بالأدب المغربي سبقت سفري إلى المغرب للدراسة في بداية التسعينيات، مثلا قرأت ديوان «فراشات سوداء» للشاعر عبدالله زريقه، وقرأت مجموعة قصصية لإدريس الخوري «حزن في الرأس والقلب»، وقصصا لمحمد زفزاف،  قرأت كذلك (سرا) «الخبز الحافي» لمحمد شكري عن طريق شخص أكبر مني جاء بها من بيروت مصورة (فوتوكوبي). واسم كبير مثل المفكر  محمد عابد الجابري سماؤه كانت عريضة وكنت أسمع عنه قبل سفري. أتذكر أني، في سفرتي للسنة الثانية إلى المغرب على متن الخطوط الأردنية (عالية)، تصادفت أن الأستاذ الجابري يجلس أمامي مباشرة وفي كراسي المستوى العادي وليس مستوى رجال الأعمال. كان منسجما وهادئا رغم أن الطائرة كانت مزدحمة وبعضهم كان يدخن طوال الرحلة حيث كان التدخين مسموحا حينها. لم تأتني الجرأة للحديث معه، وقد عرفته رأسا لأن صوره كانت تتوزع في مختلف مجلات وصحف العالم العربي (اليوم السابع مثلا التي كنا نقرؤها في الثمانينات). الغريب أن الأستاذ الجابري كان طوال الرحلة منكبا على كتاب يقرؤه بلا كلل. ويمكن أن أتذكر أول كتاب به إهداء من مؤلفه استلمته في المغرب، وهو الديوان الأول للشاعر إدريس علوش «الطفل البحري». والآن، بعد زيارات كثيرة يصعب عدّها وإقامات متقطعة بعضها طويل استمر لسنوات، لدي حصيلة مهمة من قراءات وحضور ندوات، وكانت الأسواق المغربية المفتوحة مازالت تبهرني وخاصة أسواق فاس، حتى إن الفضاء المغربي صار يتسلل تلقائيا إلى مختلف ما أكتب من قصص، مثلا المجموعة القصصية الأولى التي صدرت عن دار  المدى بدمشق (اللون البني) كتبت قسمها الأوفر في الرباط. طبعا الزاد المغربي إبداعا ونقدا وفكرا مازال في محط جاذبية وسحر للمشرق، سواء لمن زار المغرب أو لمن لم يزره. أتذكر منذ فترة ليست بالقريبة قالت لي زميلة عمل إنّها تقرأ الرواية المغربية بمتعة، ولكنها أضافت أن كُتّاب الرواية في المغرب كلهم وزراء! هذا الأمر أثار الابتسام لديّ، وعرفت بالتالي لمن قرأت. حتى في المشهد العام يحدث شيء مثل ذلك، أتذكر حين فازت المغرب على البرتغال في كأس العالم الأخير في قطر، كنت جالسا أتفرج في المقهى، ولكن حين أحرز المغاربة الفوز قام رجل مسن كان يجلس بجانبي ليتخلى عن وقاره ويرقص فرحا وهو يدور على طاولات المتفرجين، لقد شعر بأن فوز المغرب يخصّه.

 

أخلصتَ مدة طويلة لفن القصة القصيرة قبل الانتقال إلى الرواية، وشكلت بذلك حضورا قويا للقصة العُمانية في المشهد الأدبي العربي، كيف كان هذا الانتقال ودواعيه الأساسية؟

البداية كانت مع القصة، وربّما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأتُ الكتابة القصصية في سن مبكّرة في حوالي 19 من العمر، ولكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلّا بعد الثلاثين، ثم انتظرتُ تسع سنوات حتّى أصدرتُ المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذلك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى. بالنسبة للرواية فقد اقتحمتُ ساحتها بشيء من الحذر، بدأتُ تدريجيا بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن دار الجمل، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن دار الانتشار. بعد ذلك كتبتُ «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبيا ومتعددة الأصوات. كتب عنها الراحل الناقد المغربي إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة نزوى.

 

لازمك السرد القصصي في كتاباتك الروائية على مستوى التكثيف واختزال مكونات السرد الروائي إلى حدودها القصوى، كما نجده أحيانا في أعمال روائية عديدة.. هل يمكن اعتبار ذلك اختيارا ذا أبعاد فنية وجمالية؟

في ظني أن التكثيف رديف البلاغة ونقيض الثرثرة والتداول الهذري، وطالما أن السرد ابن بيت الأدب فلا بد أن يكون ما يتخرج منه تحت سقف هذا المقصد البياني. ثم إن التكثيف والاختصار والحذف يحتاج إلى جهد وإعادة كتابة وهو بذلك نقيض الاستسهال والثرثرة والسيل الهادر الذي يسحب ويخلط في طريقه كل شيء. أتذكر هنا قصة ذلك الكاتب الروسي الذي كتب رسالة طويلة إلى أخيه وذيلها بعبارة «أعتذر لم أجد وقتا لكتابة رسالة قصيرة»، فالقصير، إذن، يحتاج إلى وقت. لا أعرف إن كنت وُفقت في ما ذهبت إليه من التكثيف، والخشية أيضا أن يكون هذا التكثيف في أحد جوانبه قصورا أو هروبا من قول كل شيء. ولكن لم الخشية؟ فمتى كان الأدب ميدانا لقول كل شيء، أظن أن الأهم بالنسبة للأدب هو الكيفية، كيف ومن أية زاوية يمكنك أن تقدم مادتك الأدبية. الصفحات القليلة أحيانا لم تمنع كتابا من قول كل شيء في أقلّ من مئتي صفحة. أتذكر هنا بلاغة رواية لإسماعيل كاداريه في روايته «قصر الأحلام» المتوسطة الحجم  (حوالي 200 صفحة)، وهناك أعمال أدبية قالت أشياء كثيرة في صفحات قليلة، وهذا ما تفعله أيضا قصيدة نثر ماهرة. ولماذا نعود أحيانا إلى (النوفيلات) التي تركها غسان كنفاني «رجال في الشمس» أو «عائد إلى حيفا» لأنها اعتمدت البلاغة في التعبير، سواء بلاغة الصورة الفنية أو بلاغة الجملة، أي أنّها قالت أشياء كثيرة في صفحات قليلة. لا يمكن، مثلا، نسيان ذلك الحوار بين المرأة الاسرائيلية والعائد في رواية «عائد إلى حيفا»، وتنبيهه للمرأة التي احتلت بيته إلى أن عدد الزهور في الصالة قلّ ونقص قليلا عما كان عليه حين طرد من بيته. أو عبارة «لماذا لم تطرقوا الخزان» في رواية «رجال في الشمس». هذه اللفتات الخالدة لا يمكن إلا أن تنتمي إلى حقل البلاغة، وهي ما يخلد أي عمل أدبي وفني ويضمن تأثيره الدائم.

 

في الرواية توظّف المحكي الشعبي والموروث السردي بأشكاله المتعددة، هل يمكن القول إنّه إسهام في خلق كتابة قصصية وروائية تحمل طابع الشخصية العُمانية وخصوصياتها المحلية؟

ما هو شعبي عادة يكون جميلا وجاذبا وخاصة إذا كان حكاية. لمعظمنا ميلٌ سماعيٌ، والسماع أسهل من الكلام. حين تفتح الراديو في السيارة الخاصة أو سيارة الأجرة فإنك تستطيع أن تسمع وترى ما أمامك دون معاناة في التركيز. هذا كان يحدث في القرية قبل النوم. الحكايات لم تكن تسحب النوم فقط إنما تساهم في تشكيل أحلامنا أيضا. قصة النسر الذي كان يضايقه الغراب وينتف ريشه لأنه لا يرغب في التحليق عاليا، ولكنه حين حلق عاليا تعب الغراب من ملاحقته فسقط. هذه القصة كنت سمعتها طفلا من جدتي ولم أفهمها إلا الآن. لم تفسر لي الجدة معنى القصة بل اهتمت أكثر بقولها، الذي يُؤذيك تعالى عليه، هذا أظن ما تذهب إليه الحكاية في مظانها. كان المهم في الحكاية هو المتعة وليس المعنى. هذه المتعة التي توفرها الحكايات تسللت إلى القصص أو على الأقل كانت نسغا خفيا، حاولت في ما كتبت من قصص أن أستفيد مما سمعت قدر الإمكان. ولكن هل الكاتب يُعيد سرد الحكايات أم  يكررها (من التكرير) أظن هذا ما قام به بورخيس حين قرأ الآداب الشرقية وخاصة ألف ليلة وليلة، حوّرها وأعاد تشكيلها. لست مشغولا كثيرا بالحكايات في الوقت الراهن، أكثر ما يشغلني أثناء الكتابة هو الواقع وما يكتنفه من مفارقات. لدينا في عُمان حياة شعبية زاخرة، رغم أن عدد السكان قليل قياسا بالمساحة ويفترض أنه بلد خليجي نفطي، ولكن هذا المشهد خادع حين تقترب من الناس. منذ أيام سمعتُ أنّ أحد أقاربي سُرّح من عمله في شركة، وصار من أجل أن يستطيع أن يطعم أطفاله السبعة، يلتجئ إلى الخلاء ليقطع حطبا يحرقه ويصنع منه الفحم ليبيعه. هذا الأمر كنت أسمعه فقط في الحكايات. ولكن الواقع أيضا يمتلك مفارقاته وعجائبه والقاص ربّما أحد أدواره تمثل هذه المواقف والارتقاء بها باستثمارها أدبيا. أتذكر مقولة للجرجاني «ما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر» ولأن الشعر كان ديوان العرب فالأمر حاليا ينطبق حتى على السرد الذي صار ديوان العالم وخاصة الرواية – شئنا أم رفضنا- أذكر من فترة قريبة أحدهم اقتبس مقطعا من روايتي «أوراق الغريب» وهو مقطع مجتزأ من مشهد كبير يتعلق بالزواج السري، وقام بترويجه في تويتر، إلى أن جاء صديق وسألني مباشرة في فيديو قصير، لم أكن متهيئا لتلك الغفلة ولأنه شخص طيب أجبت على سؤاله، وكان سؤاله مباشرا: هل ما ذكرته في روايتك حقيقي؟ فلم أحر جوابا حين استحضرت مقولة قديمة قيلت أصلا في الشعر وهي «إن أعذب الشعر أكذبه» فقلت له «إن أعذب الرواية أكذبها» فتحررت من ضغط التهمة. لقد ترك لنا أجدادنا العرب كنوزا معرفية لا تضاهى، فقط  لو أنصتنا إلى هذا التراث ورجعنا إليه ولو أحيانا. من أين جاءت عبارة «حسن التخلص» ألم يقلها بلاغي عربي قديم؟ وفي زمننا كيف يجب أن تنتهي القصة الجيدة والمؤثرة، أليس حين يُحْسن الكاتب تخلصه في نهايتها؟ وهو ما سمي بالقفلة الموفقة.

 

أثناء إجراء هذا الحوار ترشحت روايتك «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا، ماذا عن هذه الرواية وأجوائها الخاصة؟

بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيرا إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية المنشورة،  تعمدت اختيار قرية يرمز لها المثل في البعد، وهي قرية «وادي السحتن»، المكونة من قرى عدة وسط الجبال، وتمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان، والمندوس كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعتبر في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي» وقد بررت عبر تفاصيل الأحداث اختيار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه حتى وإن جاع. وفي هذه الرواية اهتممت بالتفاصيل، فوصفت الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة، كنّا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى