شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

محمد خير الدين.. طائر لا تسعه سماء واحدة

إعداد وتقديم: سعيد الباز

مقالات ذات صلة

كان الشاعر والروائي المغربي، محمد خير الدين، (1941-1995) الملقب بالطائر الأزرق، بالفعل طائرا لا تسعه سماء واحدة، في الحياة كما في الكتابة. كانت حياة محمد خير الدين عبارة عن رحلة أسطورية من أعماق سوس إلى الدار البيضاء أواسط الستينات حيث كان جيل جديد من الكتاب والفنانين يعيد تشكيل الثقافة والإبداع المغربيين بنفس حداثيّ ينشد التغيير، فكانت لمحمد خير الدين بصمته الواضحة في مجلة «أنفاس»، قبل أن يرحل إلى فرنسا ويعيش أحداث ثورة مايو الباريسية. روايته «أكادير» لم تجعل منه كاتبا معروفا فحسب، بل شاعرا وكاتبا كبيرا باعتراف قمم الفكر والأدب في فرنسا، وعلى رأسهم جان بول سارتر وأندري مالرو. 

محمد خير الدين، القادم من تافراوت في أصقاع سوس، أقلع مرّة واحدة وحلّق بعيدا دون أن يلحق بسرب لا في السياسة ولا في الثقافة… كان وحيدا يمتشق سيف الكتابة ويطعن بقوة كلّ أمارات الزيف والاستكانة للمألوف. افتتن به عظماء عصره من سارتر إلى بيكيت ومالرو وبروتون واللائحة طويلة..، وهو لم يكتب حينها سوى رواية واحدة «أكادير»، وفتحت له باريس دور نشرها العريقة ومجلاتها الراقية، بل إنّ سارتر جعل من قصيدة لمحمد خير الدين افتتاحية لمجلته الشهيرة «الأزمنة الحديثة». لكن محمد خير الدين الصعب المراس والحاد المزاج كان دائما خارج كلّ قطيع، ولم تكن فرنسا، بكلّ مجدها الأدبي والفكري، قادرة على أن تروّض هذا الطائر النادر في أقفاصها الذهبية، هو الذي روّض اللغة الفرنسية لحسابه الخاص، لجنونه وتراثه المنسيّ والمهمل، ولأحلامه في الكتابة بالجمع لا بالمفرد. فكتابة خير الدين لا تؤمن بالحدود في الشعر أو الرواية، لقد كان يكتب مثل بركان هادر، وفي غالب الأمر كلماته حارّة كالحمم تلسع القارئ ولا تتركه غبيا بعد ذلك، بل يقظا على الدوام. 

ترك محمد خير الدين فرنسا زهدا فيها وعاد إلى المغرب متنقلا بين مدنه مقيما عند أصدقائه كما يروي الروائي المغربي محمد شكري: «لم يكن محمد خير الدين يتوفر على سكن قار إلا نادرا، كان يبدل ثيابه في منزل أحد أصدقائه ويترك الوسخة منها حيث يخلعها… لم يكن يتقيد بالمواعد، ينام في فندق أو أينما تيسر له أن ينام، إنه الطائر الأزرق، السماء كلها له، أحيانا كان يأتي ولا شيء في جيبه، كنت أستقبله، ولكنني لم أكن أستطيع أن أقيمه معي في المنزل، إنه الأرق بعينه، إذ هو كثير الحركة ليل نهار، لا يمكن معرفة متى ينام ومتى يستيقظ، لم يكن يعنى بصحته، نادرا ما رأيته يأكل بشهية… لم أكن أعرف متى يقرأ ومتى يكتب»، ومع ذلك كان يكتب تقريبا كلّ سنة كتابا واحدا رغم حياته الصاخبة وغير المستقرة، فمن المعروف عنه أنّه يكتب دفعة واحدة وبوتيرة قوية دون توقف منقطعا عمّا حوله وخارج العالم المحيط به. لكن محمد خير الدين لم تفتنه باريس بمباهجها، فعاد إلى المغرب ليواصل حياة التيه بين مدنه لا يملك لنفسه مستقرا سوى الفنادق وبيوت الأصدقاء. كلّ من تعرّف على محمد خير الدين أو اقترب منه إلّا وأدرك كم هو هذا الشخص ملتمع ووهاج، عيناه المتقدتان والنافذتان تشعان ذكاء وألمعية، يقول عنه الروائي المغربي إدمون عمران المليح: «صعب جدا الحديث عن تجربة محمد خيرالدين الإبداعية، لقد باشر مغامرة الكتابة وهو ما يزال مراهقا، وكتب أشعارا رائعة تبرز القدرة الإبداعية التي يتوفر عليها، وقد قيل زمن صدور روايته الأولى «أكادير» أنها لا تنبئ فقط عن ميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية وإنما عن ميلاد شاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية كبيرة». لكنّ محمد خير الدين يختصر حياته التي كالشهب اللامعة نافيا عن نفسه صفة الأسطورة: «لست أسطورة. هذه الكلمة تعني أن يناكف المرء نفسه لينتهي إلى رقاد يتخلّق فراشات… سئمت من البارود. سمُّوني المشاكس أو المزعج، وباختصار سمُّوني المنبوذ».

سيرة محمد خير الدين قد تبدو مختصرة في زمنها لكنّها حافلة بالأحداث والمنجزات. ولد خير الدين في قرية أزرو واضو بالقرب من تافراوت سنة 1941، هاجرت أسرته إلى الدار البيضاء حيث كان يعمل والده في التجارة. ترك الدراسة مبكرا وعمل في صندوق الضمان الاجتماعي في أكادير سنة واحدة عقب الزلزال ثم انتقل إلى الدار البيضاء حيث شارك رفقة اللعبي وآخرين في إنشاء المجلة الشهيرة «أنفاس»، وقبل ذلك بعامين كان قد أصدر بيانا أطلق فيه مفهوم الكتابة الجديدة تحت عنوان (الشعر كلّه). بعد أحداث 1965 في المغرب استقال من عمله وقرر اختيار المنفى الطوعي إلى فرنسا، وكان في انتظاره احتفاء الأوساط الأدبية الفرنسية عقب نشره لروايته الأولى «أكادير». في سنة 1979 عاد الطائر الأزرق إلى عشّه الذي استكمل فيه مساره الإبداعي الذي بدا مشعّا على المستوى الأوروبي والعالمي وخافتا على المستوى الوطني ومجهولا إلى الآن على المستوى العربي. 

خير الدين.. سليل سلالة منسية

في أواخر حياته داهم محمد خير الدين مرض السرطان بشكل مجاني، لكنه رغم المرض أبدى مقاومة شرسة وعكف على الكتابة باستمرار ليخرج إلى النور آخر أعماله، من بينها «يوميات سرير الموت» التي يذكر فيها محنته عن المرض قائلا: «كانت مبتدأ هذه المحنة كلّها عملية قلع ضرس، باءت بالفشل. فبدل أن يقلع الطبيب الضرس المريض، إذا هو يكسر، من جهالته، عظم الفك، حتى كدت يغمى عليّ، برغم ما كنت فيه من تخدير. عاجلتني الممرضات بقارورة مصل نبهتني من عيائي الشديد، وأعانتني على بلوغ فندق باليما بسلام… ها أنذا طريح الفراش. يتنازعني عالمان غامضان مشوشان، هزيل، أمنيتي الوحيدة أن أنعم، بعد لأي، بالهدوء ولا آلم من شيء. أخرج من هذا الجسد المؤلم، وأتنفس الصعداء، ولو هنيهة. لم يتسنّ لي الخروج غير مرات ثلاث. وفي ثلاث مرّات متوالية أغمي عليّ، وغبت عن الوعي. صرت في حالة من الإعياء أنني لا أحس في كياني كله بغير ألم واخز ممض».

كان محمد خير الدين من طينة كتاب لا يمكن للقارئ مجاراتهم بسهولة، فهو لا يخترق المسافات والحدود الفاصلة قسرا بين الشعر والسرد، بين الأسطورة والواقع والخيال، بل يكسّر كلّ الحدود بين الأزمنة والأمكنة، ما يجعل من قراءته رحلة طويلة يمتزج فيها العناء بالمتعة. ذلك أنّ محمد خير الدين كاتب نادر ينتمي كما قال عن نفسه: «أنا سليل سلالة منسيّة، لكنّي أحمل نارها». 

أكادير.. محمد خير الدين 

حلّ محمد خير الدين في أكادير سنة 1961 عقب الزلزال الرهيب الذي شهدته المدينة، موظفا في الضمان الاجتماعي مكلفا بإحصاء السكان والمباني المنكوبة. كانت ثمرة هذه المهمة روايته الأولى التي كانت تحمل عنوان «التحقيق» لكن دار النشر العريقة «لوسوي» فضلت أن يكون عنوان الرواية نسبة إلى مكان أحداثها. هذه الرواية التي حملت كل تصورات خير الدين حول الكتابة بتحطيم كل الحدود بين الأجناس الأدبية وبلغته الشاعرية شديدة الحدّة وإيقاعها المتسارع وتعدد أشكالها الأسلوبية جعلت منها باكورة أعماله التي فتحت الأبواب خاصة في الوسط الأدبي الفرنسي. من مقاطع الرواية الدالة: «هذه المدينة أصبحت الآن تنتمي إلى الصحراء المجاورة، وأن الرجال سيكون بمقدورهم أن يبتنوا لهم مساكن فوق الجبل، على مقربة من هذا المكان. لي خالة تعيش في الجبل، على مقربة من هذا المكان، وربما تعيش هناك أمي أيضاً. لن أذهب لرؤية خالتي أو أمي. لن أبرح بعد هذا المكان. لا يمكنني أن أبدأ بالعمل على الفور. فلا أعرف ما هي مهمتي. لي مكتب، هو مستودع عتيق، وجدت فيه أربعة كراس، وطاولتين، وشباكاً مسيجاً، وملفات، وآلة كاتبة وعدادة، وصورة للملك المتوفى وأخرى للملك الحالي، ومكنسة، وسطلاً من الزنك، وإسفنجة من نوع سبونتكس، ومنفضة ريش، ومسدساً من نوع M.A.B عيار 7,65 ملمتر، و38 رصاصة، إلخ. مكتبي يوجد وسط أرض بور تتناثر فيه شقاف القناني والفضلات. هاكم كيف هو على وجه الإجمال: إنه على هيأة مواز بطول 8 أمتار وعرض 3,5 وعلو 3 أمتار، ليس فيه باب مزججة بل ستار معدني شبه صدئ، يصعب كثيراً خفضه، فسخرت شاوشاً ليفعل. ويكون عليه أيضاً أن يتلقى كل ملتمس يرد عليه، وأن يكون حاضراً عندما أغيب أنا، قلت له إنني ليس عندي توقيت معلوم، وإنه يتفق لي أن أترك العمل معلقاً وإن عليه أن يكون حاضراً على الدوام…

ذات صباح تلقيت الأمر التالي: نظراً لخطورة الوضعية، ندعوك أن تهيئ منذ الآن لتهجير سكان مدينتك. فيلزم أن تجعلوهم في حمى من أي خطر. وسنعلمك في الوقت المناسب. ستكون إلى جانبك السلطات المحلية التي سننقل إليها نسخة من هذه المذكرة. قلت إن المدينة قد دُكت، لكنني لم أذكر بأي قدر. بنايات شديدة الغموض تطل على الصخرة المتآكلة والبحر تليق بألبوم لعالم للآثار. وفي بعض الأنحاء بيوت متفرقة قد أعيد ترميمها. فما عاد فيها أثر لصدع أو شق! لكنني أشعر بوضوح بوجود جثة للمدينة تحت الأرض. تسلح الجنود بجرافاتهم وشاحناتهم وفؤوسهم، وقاموا بدك بقايا حائط كانت تخدش النظر. وأشم كذلك انبعاث روائح مقلقة، روائح جرذان نافقة، وأعضاء بشرية متفسخة، وعفونة الجوارير المنبعجة، ورائحة المرسى والشاطئ اللذين ما عاد يقبل عليهما أحد، وقد تراكمت عليهما القشريات والأسماك الميتة! لكنني صرت من طول وجودي في هذا المكان أتعود هذا الهواء الجديد. صرت على نحو غامض أنا أيضاً تفوح مني مثل العفونة التي في ذلك الجو، وانتهى بي الأمر إلى أن صرت إذا اضطجعت أو جلست أشعر بالتخدر، لكنني لم ألبث منتظراً، ونهضت ملسوع الخياشيم بتلك الرائحة الزاكمة».

(ت: عبد الرحيم حزل)

 

حسن بولهويشات: كاتب استثنائي عاش داخل القصيدة وخارج المؤسسات

يقول خير الدين، في أحد حواراته الصحافية المبكرة، (واجهتني صعوبات أسرية كانت تبعثني على التمزق وجعلتني أخرج من ذاتي ما يشبه سلاحا جاهزا تماما يمكن إن صح التعبير أن يعينني في الدفاع عن نفسي تجاه أسرتي وتجاه المجتمع الذي لم أكن أستطيع فهمه جيدا). ربما سوء الفهم هذا هو الذي سيدفع به الى الانقطاع عن الدراسة باكرا. ثم عن الوظيفة بعدما كان موظفا بصندوق الضمان الاجتماعي عن منطقة الجنوب. ثم في ما بعد عن الوطن حين لملم أغراضه وقصد باريس من أجل هواء زائد، حيث آمن بإبداعيته رائد الوجودية سارتر واحتضنه في صفحات مجلة (الأزمنة الحديثة) مثلما مهد له الطريق أمام دار النشر «سوي» التي نشرت له أغلب أعماله بدءا من روايته الأولى (أكادير) التي لقيت ترحيبا نقديا وافرا وبصمت صفحاتها بميلاد كتابة جديدة هي مزيج من الشعر الصافي والسرد بحكاياته الصادمة وفوضوية شخوصه. ثم روايته الشعرية (جسد سالب) والتي أردفها بديوان شعري آخر (شمس عنكبوتية) لتطول لائحة إصداراته بالمقارنة مع عمره القصير. ومزاوجا، في نفس الآن، بين الشعر والسرد طوال مسيرته الإبداعية ولم يتخل قط عن واحد منهما.

لم يتخل خير الدين عن المنحى التمردي الذي اختاره لكتاباته العالية. رصاص كثير ولغة لاذعة وحارقة على الدوام. بل أحيانا ثورية وجارفة تروم اقتلاع الجذور اليابسة وتحريك البرك العامرة بالدم والقيح في وقت لم ينزل من برجه العالي حيث ظل يرصد الأمراض والفظاعات من الأعلى ويذهب في اللغة إلى الأقصى. ولا يهم بعد ذلك أن يأتي القراء. فلا بد أن يتعلموا ممّا يقرؤون. إنه عنف الكتابة والحفر عميقا في أجزاء اللغة إلى درجة التعقيد والقسوة التي أضرت بخير الدين وأبعدت عنه القارئ بدرجاته، في الوقت الذي امتدت يد الرقيب الباردة إلى جل أعماله، وكان مصيرها المنع في المغرب إلى حين .

لم يُبعِد عنه القراء فحسب، بل أبعد عنه النقاد والصحافيين والأصدقاء حتى بسبب شخصيته العنيفة ومزاجه العكر. حيث وضع الجميع في جهة واحدة وركن هو في الجهة المقابلة يشهر الشتائم ويزعق في الجميع مازجا في كأس واحدة السخرية البيضاء بالهجاء الأسود تماما كأبطال رواياته التي أوكل لها مهمة إطلاق رصاص حي دونما الالتفات إلى الوراء بل أكثر من هذا حين يثمل ويصرخ بفرنسية فصيحة (سأقتلهم جميعا… سأقتلهم) ينقل لنا الراحل العربي باطما، أحد أفراد مجموعة (ناس الغيوان) الغنائية الشهيرة، في فقرة من سيرته (الألم) وذلك في معرض حديثه عن هذا الهدهد الذي لازمه لبعض الوقت بعد عودته إلى المغرب. والذي لا أحد يعرف متى ينام ومتى يقرأ ومتى يكتب، يقول عنه أيضا الراحل محمد شكري، صاحب (الخبز الحافي) الذي عاش معه هو الآخر تحت سقف واحد في طنجة والدار البيضاء .

وقالوا عنه في الجلسات الخاصة ما قاله مالك في الخمر… مرة هو كاتب ثوري على طريقة الكبار والنسر الذي قلم أظافره الحادة واختار المهادنة مع النظام في أواخر حياته بسبب حاجته إلى المال. ومرة هو الأمازيغي النبيل الذي رضع من أثداء الهامش وكتب بصدق عن أبناء جلدته وقبيلته الكبيرة، وحتى الذين لم يسعفهم الصمت مثلما لم يسعفهم الكسل الثخين لتعلم الفرنسية وقراءة كتبه تكلموا وقالوا إنه مجرد سكير غامض وغير مفهوم إطلاقا. فيما أجمع أصدقاؤه المقربون على أنه شاعر كبير وواضح يتحرك بسكين كبيرة على طريقة رامبو يستحسن أن تقرأ كتبه وتبتعد عنه.
أما هاته المرة وقد انطفأ الضوء الأخير واختار صاحبنا أن يبتعد عنّا هو بنفسه وعن طيب خاطر، فلا نملك سوى أن نضع باقة اعتراف وامتنان على ذكرى كاتب استثنائي مر سريعا من هنا ونزيح ستائر التجاهل عن شاعر كبير عاش داخل القصيدة وخارج المؤسسات والقوالب الجاهزة.

أسطورة أغونشيش وحياته

تعدّ رواية محمد خير الدين «أسطورة أغونشيش وحياته» من أجمل أعماله الإبداعية الحافلة بأحداثها وشخصياتها المثيرة، بداية من بطلها أغونشيش الذي استوحاها خير الدين من ذاكرته الأسرية. هذا البطل طالب ثأر والمطارد في زمن «السيبة» ما بين مدينة تزنيت وتارودانت يواصل تمرده لكن توغل الاستعمار في الجنوب المغربي جعل أغونشيش يدفن سلاحه ويرحل إلى الدار البيضاء ليذوب في هذا العالم الجديد ويضرب صفحا عن الماضي رغم يقينه أنّه سيلاحقه ما دام حيا، وكما يقول: «لقد أنبأه أسلافه من قبل بأن الأموات سيظلون يرافقونه حيثما حلّ ومضى، ولن يستطيع منهم إفلاتا». 

من أجواء الرواية نقرأ: «لقد قرر أغونشيش، علما بأنّ ذلك الشتاء سيكون قاسيا جدا، الذهاب إلى تزنيت. ألقى نظرة أخيرة مفعمة بالمرارة على الوادي الذي ولد فيه، وصرّ أمتعته في بطانية أثبتها على ظهر بغلته، ومضى في طريقه. كان يعرف أكثر منعرجات الجبل خفاء… وهكذا قال في نفسه بأنّه لن يتعرض للالتقاء بالرعاة أو متشردين منعزلين.

سيتفادى القرى المتاخمة للطريق التي شقّها جنود اللفيف الأجنبي مؤخرا، ويتبع سبيل الذُرى، وفي الليل سينام كعادته في العراء. لكن يلزمه أن يحصل على العلف والماء لمطيته، ولم يقلقه ذلك، فهو يستطيع أن يدفع الثمن دون نقاش.

وصل إلى تزنيت بعد أربعة أيام من المشي، لم يكن بعدُ قد رأى قط هذه المدينة التي امتُدحت له بطلاوتها وبهائها، وقد تعلّق ناظراهُ طويلا بأسوارها، يّقال إن مؤسستها كانت مومسا تائبة، وقد جاءت من الصحراء مصحوبة بكلبة. كانتا مائتتين من العطش منذ ساعات.

وفي لحظة ما، اختفت الكلبة قبل أن تعود في النهاية مبللة عن آخرها، اقتادت مالكتها دون إبطاء إلى موضع فيه عين ثرّة نقية، إذاك شطبت المومس السابقة على ماضيها الفاسق، وأقامت في ذلك المكان وصارت متورعة لا غبار عليها. لم يتمكن أحد من التحقق من هذه الحكاية الأسطورية لكن أغونشيش كان يؤمن بها كما يؤمن بوجود الكائنات الخارقة وقوى الظلام المستترة التي حفظته على الدوام من وشيك الدمار.

لدى وصوله، اكترى غرفة في نزل مقابل ساحة المشور، كانت هذه الساحة المستطيلة الشاسعة تستقبل أخلاطا من البشر في مطاعمها الحقيرة وغرفها المفروشة المتواضعة، هنالك يأكل المرء حتى الاكتفاء بلا شيء تقريبا، ورغم جدّة الشاحنات والحافلات على الناس، فقد كانوا يؤثرون السفر على ظهور البغال أو الحمير حاملين أمتعتهم على الجمال. كان المتدينون أو المتطيرون يرون في المخترعات الحديثة تجليا للشيطان، وكانوا يقولون إنّ الفرنسيين جلبوها هنا لتضليل المؤمنين وتضخيم صفوف الكفار.

*****

أخيرا استطاع أغونشيش أن يتنفس الصعداء. كان مقتنعا بأنه بات في مأمن من مطارديه لردْحٍ من الزمن، بل صار يفكّر جدّيا في مستقبله، حقا أنّ لديه ما يكفي من المال ليعيش سنة أو سنتين، لكن ماذا بعد ذلك؟ كان يقول لنفسه لم يكن واردا أن يصير لصا قاطع طريق. لقد انتهى الانشقاق إلى غير رجعة «مضى الوقت الذي كانت لي فيه كلّ الحقوق على أعدائي، إذن؟ أأصير تاجرا مثل بقية التجار؟ هل أستقر في مكان ما في الشمال أم أغادر إلى الجزائر أو تونس؟ يقال فعلا بأنّ ثمة الكثير ما يُفعل هنالك، وعلاوة على هذا، فلا أحد يعرفني في تلك البلاد». كانت هذه الأفكار تذهب به بعيدا أحيانا إلى حدّ أن ينسى في النهاية أنّ مصيره مغاير لأيّ مصير آخر، «وماذا ستقول العائلة إذا ارتحلت دون إخطارها بالأمر؟ سيقولون: إنّه مفقود… وستذهب النساء إلى سيدي عبد الجبار للدعاء مناديات إياي على صخرة، سينقبن في أحلامهن لمعرفة ما إذا كنت سأعود بعد اختفاء طويل أو كنت ميتا. لا! ليست العودة إلى القرية ضرورية، بل سيكون ذلك من باب التهور!»

في هذه المدينة العاجّة بالخلق، لم يكن له صديق يركن إليه، لم يكن يكلّم أحدا أو يجلس إلى منضدة حولها آخرون. لقد حاول صاحب النزل أن يسبر أغواره ليعرف من هو ومن أين يجيء، لكن أغونشيش تلافى كلّ مناقشة، ومذاك لم يعد صاحب النزل إلى مضايقته، لم يكن لأغونشيش أوراق شخصية، وما كان أحد يملكها وقتها، كان إذن مطمئنا من هذا الجانب، لم تكن السلطات تُرسل أعوانا إلى الأماكن العمومية، وبالنسبة لها فإنّ الذين يمرون من هذه المدينة متسكعون يجب إجبارهم عاجلا أو آجلا على العمل، «ليس هناك خير من بيداء بني آدم هاته للتخفي، كرّر أغونشيش لنفسه، هنا على الأقل، يشعر الإنسان بأنه وحيد حقا. الوقت كله متوفر للتخطيط للمستقبل، لو بقيت في الجبل لكانت بغلتي قد ماتت من القرّ، وأجهل ما كنت سأصير إليه أنا نفسي. هنا، آكل حتّى الشبع، وأرى مشاهد طريفة: أتلقن أصول حياة أخرى، ليس ثمة طارئ، لكن عليّ أن أبقى يقظا. هنالك ما أخشاه من ناحية السيارات أكثر منه من جهة البشر، هذه الماكنات التي تدهسك ككلب أو تجعل منك كسيحا، وهو الأدهى، فأن يموت الشخص أفضل من أن يصير مقعدا مثل هؤلاء الشحاذين الذين يغزون مداخل الحوانيت».

حوارات.. النضال من داخل الأدب وبواسطته

لم يكن محمد خير الدين منعزلا عن مجتمعه وقضاياه الأساسية، بل إنّ الالتزام شكّل الحجر الأساس في مشروعه الأدبي والإبداعي، لذلك كان يردد في حواراته جملته الشهيرة: «أنا أريد أن أكتب وأريد أن أناضل معا. الكتابة سلاح… وينبغي للمحبّ أن يحبّ أسلحته». ورغم عدم انتمائه السياسي الصريح كان واعيا جدا بأهمية النضال من زاوية الكتابة والإبداع الأدبي، فلمّا نُقلت إليه العبارة الحماسية التي أطلقها الشاعر الفرنسي السوريالي في حقّ مجلة «أنفاس» وبيان محمد خير الدين «الشعر كلّه»: (من هنا ستأتي الثورة)، كان ردّه: «لكن أيّ ثورة؟ إنّها ثورة الكتابة طبعا! فلأجل هذه الغاية عملتُ على الدوام». إنّ حوارات محمد خير الدين تبرز بشكل واضح رؤاه الأدبية والجمالية ودور المثقف والمبدع داخل المجتمع، من هنا كانت أمنيته في «أن تُقرأ أعماله وأن تُفهم». هنا أحد حواراته المهمة:

– هل تُراك بلغت مرحلة النضج، أم لا تزال في بحث دائم عن أشكال جديدة للتعبير؟

الكاتب الحقيقي لا يتوقف عن البحث، وهو يوقعه على نفسه في تعذيب دائم. والكاتب لا يرضى عن نفسه في معظم ما يفعل ولذلك تراه في اشتغال دائم على لغته. وقد يتفق لما يكتب أن لا يعكس، في بعض الأحيان، تفكيره. لأنّ ما يكتب تدركه الشيخوخة، ولأنّ الأعمال الاجتماعية ينالها، هي الأخرى، البلى والإهمال، ولأنّ الأحداث تصبح من الأمور البائدة، واللغة تفقد في الوقت ذاته كمالها الأصلي. لكن لو أن الكاتب يدرك معطى معينا من معطيات اللغة، لا يقوم على التخصيص الواضح، كما يفعل الكلاسيكيون، وإنما قوامه البحث عن شكل هندسي، لصار من تجديد إلى تجديد. ولصارت حياته نفسها بحثا وحربا على جميع أشكال القمع والردع. إنني لا أتصور الكاتب على خلاف ما ذكرت، وإلّا لم يعد أن يكون متأدبا يتسلّى… كما يتسلّى المتحذلقون في الصالونات. ينبغي القيام بعمل جماعي يخرج بنا في الحال، عن إسار فردانية صارت، بمعنى من المعاني، إلى تضخم داخل المجتمع.

– وما هو في رأيك، إذن، دور المثقفين؟

يتمثل دور المثقف في تنبيه الشعب إلى كلّ المغالطات المحيطة به، ومحاربة الأمية. لأنّه ليس عليه أن يحتقر من يعانون الأمية، وإنما يتعيّن على العكس من ذلك التعلم بالاتصال بهم. وليس على المثقفين أن يشعروا أنّهم على هامش المجتمع، أو يمعنوا في تكريس الهوة التي تهدد بالاتساع بين المتعلمين والجماهير من الأميين. بل ينبغي تحطيم الحاجز، وفتح حوار على قدم المساواة. ينبغي لمحبّي المعرفة… الساعين إلى نشر التقدم أن تكون تلك المعرفة وذلك التقدم بما يتناسب ومستوانا. فأنا لا أتصور للمتبجحين بالتقدم أن ينعزلوا في امتيازاتهم، ويكوّنوا مجتمعا صغيرا من النخبة. وحسبهم أن يعلموا أنّهم ليسوا سوى أفراد من الشعب، وهم وإن كانوا مثقفين يظلون أفرادا من الشعب، مهمتهم أن يفتحوا أذهان الآخرين على بعض الجوانب الاجتماعية والسياسية من العالم.

يوميات سرير الموت

لن ألزم نفسي ههنا تسلسلا زمنيا. فلست أستمرئ التسلسل الزمني كثيرا. غير أنّي لن أضنّ على القارئ من الإشارات بما يسمح له الاهتداء إلى زمن هذه اليوميات.

إنّه مقامي الثاني في هذه المؤسسة الاستشفائية الرباطية. كنت قد نزلت بها من قبل، في سنة 1993، في سرطان غدّي أصاب فمي. تطلب تفتيته إخضاعي لحصص متواصلة من العلاج الكيميائي، ومواظبتي على تناول أدوية أخرى، لم أكن آلم كثيرا آنذاك، قاومت الداء بعزيمة صلبة لم يفتّ فيها شيء. وأمّا هذه المرة فقد وجدت من الألم ككلبٍ، كلبٍ عجوز يئن من الداء وحيدا أعزل من صاحب، في زاوية من الزوايا.

كانت مبتدأ هذه المحنة كلّها عملية قلع ضرس، باءت بالفشل. فبدل أن يقلع الطبيب الضرس المريض، إذا هو يكسر، من جهالته، عظم الفك، حتى كدت يغمى عليّ برغم ما كنت فيه من تخدير. عاجلتني الممرضات بقارورة مصل نبهتني من عيائي الشديد، وأعانتني على بلوغ فندق باليما بسلام.

… صرت عاجزا عن تناول شيء من الطعام إلا أن يكون سائلا أو حساء خفيفا. نقص وزني، وهزلت في لمح البصر. أقضي سواد يومي رهين السرير، مضطجعا على جنبي الأيسر (المريض) لم يعد في مقدوري أن أتخذ لي وضعية سواها. انقطعت عن الخروج، واشتدّ توتري حتى صرت أغضب وأحنق لأتفه الأسباب. بححت (ولا أزال فاقد الصوت حتى كتابة هذه السطور).

ها أنذا طريح الفراش. يتنازعني عالمان غامضان مشوشان، هزيل، أمنيتي الوحيدة أن أنعم، بعد لأي، بالهدوء ولا آلم من شيء. أخرج من هذا الجسد المؤلم، وأتنفس الصعداء، ولو هنيهة. لم يتسنّ لي الخروج غير مرات ثلاث. وفي ثلاث مرّات متوالية أغمي عليّ، وغبت عن الوعي. صرت في حالة من الإعياء أنني لا أحس في كياني كله بغير ألم واخز ممض.

… أخضعت، حينئذ، لكحت العظم (في عمليتين اثنتين)… وحقنت حقنا متواصلا مرات كثيرة، ناهيك عما لا يحصى من الحقون العضلية. يزاد إليها ما كنت أتناول من أقراص… وما شعرت بشيء من التحسن إلّا بعملية الكحت الثانية. فقد غمرني شعور أني، بعون الله، في سبيلي إلى الشفاء. لكن يلزم الانتظار والصبر الكثير. أدعو الله الواحد الأحد، آناء الليل وأطراف النهار، أن يخفف عني آلامي وأوجاعي. كنت أقاوم الألم، جاهدا للإفلات من حبائله، والانفلات من هذا الجسد وسمومه… يصور لي الخيال شخصيات أسطورية. تستخفّني الرغبة في الكتابة عن إحداها. يعتمل رأسي جملا مكتملة البناء، في ذلك الخدر الشبيه بالحلم (النوم اللّامعقول). في ذهني كتاب، جاءني من حيث لا أحتسب. قصة تحكي عن زوج عجوز يعيش من غير ذرية في قرية بوادي أمّلْنْ. القرية يغزوها التحول بتوالي السنين… أفلحت في إتمام هذا المؤلف الجديد في مدة لا تزيد عن الشهر إلّا قليلا. ولولا العون الدائم من الله، لما كتبت شيئا، ولما راودتني فكرة الكتابة مجرد مراودة… لكن كان الله لي معينا، ويسر لي سبيل الكتابة. سوف ترون مدى روعة هذه التحيفة الأدبية. وأما أنا فأشكر الله أولا أن قيّض لي أن أعيش هذا النص وأتشبّع به قبل أن أشرع في كتابته. فقد عشت كل مشهد من مشاهده، وكل دقيقة من دقائقه، وألممت بتفاصيله…

عبد الرحيم الخصار: طائر أسطوري يدعى محمد خير الدين

… كان محمد خير الدين كاتبا أثيرا لدى الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران، وصديقا للفيلسوف جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار. يعرف المتتبعون أن سارتر حين عاد وقبل جائزة نوبل، خصص قسطا منها ليُصرف على خير الدين. كفر سارتر بأشياء كثيرة لكنه آمن بمحمد خير الدين، فتبناه وفتح له أبواب دور النشر الفرنسية وفي مقدمها «سوي» حيث نشر معظم أعماله. قال عنه الروائي عمران المالح: «قيل زمن صدور رواية خير الدين الأولى «أكادير» عام 1967 أنها لا تنبئ فقط بميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية، وإنما بميلاد شاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية كبيرة». تضعنا هذه الكلمة في الضرورة أمام مفارقة أدبية، فمن الغريب ان يُتنبأ لكاتب يصدر روايته الأولى بأنه سيكون شاعرا كبيرا. جريدة le matin السويسرية تنبأت أيضا بأن أعمال هذا الكاتب ستقرأ بنهم كبير واهتمام بالغ جدا من القراء في القرن الحادي والعشرين. كان صموئيل بيكيت، حامل نوبل الآداب والعابث الأكبر في العالم، معجبا بكتابات خير الدين، الذي يقول عنه الروائي الطاهر بن جلون: «إنه نباش ممتاز في الهوية الأمازيغية». حين أصدر خير الدين مجلة «أنفاس» برفقة عبد اللطيف اللعبي وآخرين قال أندره بروتون لجان بول ميشال: «من هنا ستبدأ الثورة». وفي وقت يسعى بعض شعراء المغرب إلى خلق صداقات، ولو من باب الوهم، مع أدباء فرنسيين وعالميين، والظهور في محاذاتهم كما لو أنهم جنرالات أدب برتبة واحدة، كان أدباء العالم في ذلك الزمن يحتفون بمحمد خير الدين، لأنه محارب عظيم آمن بالمعركة التي يؤمنون بها، فيما كان هو يحتفي بأغونشيش، العجوز الأمازيغي المنسي جنوب المغرب. عدد هائل من الكتاب الكبار أحاطوا خير الدين بالمحبة والإعجاب وتقاسموا معه شرف الصداقة والكتابة، بينهم ليوبولد سيدار سنغور وجاك لاكان وأندره مالرو وميشال ليريس وايف بونفوا وبيار برنار ومحمد شكري وجاك بيرك وكزافييه كزال وبيار بيارن، الذي سيكون خير الدين سببا في شهرته، فهو الذي أخذ منه قصيدة واستنسخ منها 6000 نسخة وتم توزيعها مع عدد من المناشير لتصبح شعارا لتلك المرحلة… كانت أفكار محمد خير الدين وآراؤه جريئة، واضحة وصادمة، وكان وعيه كما مزاجه حادا، ولم يكن كاتبا مدجنا ومهادنا، كان موقفه صارما تجاه كل ما هو رسمي إلى درجة أنه كان يكره الأكاديميين والدكاترة الجامعيين، وخصوصا أولئك المحنطين خلف نظراتهم المتعالية ووعائهم الفكري الجاف والفارغ.
اتسمت آراؤه بالعمق وبتلك السخرية اللاذعة، لذلك حين عاد إلى المغرب في سنواته الأخيرة أصيب بصدمة الانتقال من عالم تسود فيه قيم العدالة والحرية وتقدير الفرد والإخلاص في أداء الواجب إلى عالم نقيض حيث الفساد الإداري والغش وتردي الخدمات وتخلف الأفكار والمشاعر وقتل الأشياء الجميلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى