«كان محمد بن سعيد آيت إيدر يضحك عندما تقول له إن قصة حياته تستحق أن تُصور في سلسلة تاريخية مشوقة من تلك التي يلاحق فيها المخبرون السريون أبطال الفيلم في المطارات والمعسكرات حاملين معهم حقائب المال والسلاح.
كان جواب بن سعيد آيت إيدر لا يتجاوز ابتسامة يصعب فعلا تأويلها. كيف لا وهو الذي درب نفسه بنفسه على إخفاء ما يفكر فيه.
رحل إذن محمد بن سعيد آيت إيدر، آخر من آمنوا بالثورة المسلحة وخططوا لها، ليلتحق برفاق قدامى دفنهم قبل أزيد من ستة عقود..
يونس جنوحي
لا شيء في محيط المستشفى العسكري بالرباط، صباح أمس الثلاثاء، كان يشي بأن محمد بن سعيد آيت إيدر خاض معركته الأخيرة في الحياة، وغادر إلى دار البقاء، واضعا نقطة النهاية لمسار سياسي حافل بالأحداث.
طفولة بالأبيض والأسود
عندما وُلد محمد بن سعيد آيت إيدر صيف سنة 1925، في منطقة شتوكة آيت باها، لم يكن الوسط الذي فتح فيه عينيه واعدا. الرعي والفلاحة المعيشية كانا النشاط الوحيد الذي يُوجه إليه أبناء فقراء المنطقة كما أعيانها. ولأنه كان ينتمي لأسرة يسمح وضعها بأن يغادر حدود القرية فقد توجه إلى مراكش. هناك بدأ وعيه الوطني يتشكل بعدما التقى أسماء كان لها دور كبير في ترسيخ أفكار الحركة الوطنية في بداية أربعينيات القرن الماضي.
وحده قيظ مراكش كان يُجبر بن سعيد على أن يحتمي بغرفته إلى أن تخف شدة الحرارة، ليغادرها إلى فضاء جامع الفنا، ومنه إلى أزقة المدينة القديمة في مراكش، ليلتقي بعض أبناء المدينة ممن ربطته بهم علاقة وطيدة إلى آخر أيام النضال.
التقى العلامة المختار السوسي الذي كان له فضل كبير في توجيه أفكاره، لكن «فزاعة» الباشا الكلاوي كانت له بالمرصاد.
من بين ما يُحكى عن الفقيه البصري أنه كان يحتفظ للباشا الكلاوي بعداء كبير، بسبب ما كان يتعرض له بعض النشطاء في الحركة الوطنية من مضايقات من طرف جنود الباشا. إذ لم يكن مسموحا بأن تعقد الاجتماعات ولا أن تسير المظاهرات الاحتجاجية ضد سياسات فرنسا في شوارع مراكش، وهو ما جعل جيل بنسعيد في الحركة التلامذية، في مواجهة مباشرة مع الباشا.
جيش التحرير
لا يمكن أن يُذكر جيش التحرير المغربي إلا ويذكر اسم محمد بن سعيد آيت إيدر من بين أسماء أخرى كانت، إما تتنافس على القيادة أو تتسابق لتنفيذ المهام الصعبة التي كلفت الكثيرين حياتهم. لكن بن سعيد، بفضل مرونته في التعامل مع قيادات جيش التحرير الشهيرة، وزعماء الحركة الوطنية وعلى رأسهم علال الفاسي، احتفظ لنفسه بموقع خاص، جنّبه أن يصاب برصاصة غادرة شأن الكثيرين ممن كانوا يسيرون معه في الصف نفسه.
عندما أصدر آيت إيدر مذكراته سنة 2018، حكى عن أجواء استمرار جيش التحرير بعد سنة 1956، ومعضلة تسليم سلاح خلايا المقاومة واندماج أعضائها في الجيش الملكي. يقول: «تكلفت بمهمة إخراج الفقيه البصري وحسن صفي الدين وبونعيلات من الدار البيضاء بما في ذلك تهييء جوازات سفر خاصة وتعيين الطائرة التي سيغادرون على متنها إلى مدريد. كان اللقاء في العاصمة الإسبانية بدار الكبير الفاسي. بحضور المهدي بن بركة وعلال الفاسي والدكتور الخطيب والحسين برادة وعباس المسعدي وآخرين من بينهم كاتب هذه السطور. كان الغرض من هذا الاجتماع تقييم الأوضاع السياسية والعسكرية واستشراف الآفاق المستقبلية المطروحة أمام المغرب. مع التنسيق مع قيادة حزب الاستقلال وجيش التحرير.
(..) تمخض الاجتماع عن مجموعة من الاتفاقات صادقنا عليها بالإجماع. من بينها عدم تجريد جيش التحرير من سلاحه. مع جعله النواة الأولى للجيش الوطني في وقت لم يكن فيه الجيش الملكي قد رأى النور بعدُ. ومحاكمة الخونة الذين تعاملوا مع سلطات الاحتلال. واستمرار الكفاح المسلح».
مشهد يصلح لأفلام الإثارة التاريخية التي تُعتبر اليوم آخر صيحات الإخراج السينمائي وأكثرها طلبا من طرف «الجمهور». لكن بن سعيد ربما يبقى غير محظوظ في هذه النقطة بالذات، وإلا لكان بطل فيلم من أفلام الإثارة التاريخية. خصوصا وأن الاجتماع الذي حضره بن سعيد آيت إيدر هنا، وصل خبر انعقاده إلى وزير الداخلية المغربية وقتها، حسن اليوسي، وهو ما أربك القيادات التي كانت مُجتمعة هناك، إذ إن الذين أوصلوا الخبر إلى وزير الداخلية في حكومة امبارك البكاي، قالوا له إن قيادات جيش التحرير مُجتمعون الآن وقد اتفقوا على أن يُسلم جيش التحرير سلاحه، وهو بطبيعة الحال ما لم يكن صحيحا، فقد كان بن سعيد من تيار «المُمانعة»، شأنه شأن محمد الفقيه البصري، الداعي إلى أن يستمر نشاط جيش التحرير المغربي إلى أن يستقل التراب المغربي كاملا من الهيمنة الأجنبية.
بن سعيد يُبرئ بن بركة!
رغم أن اسم المهدي بن بركة أثير في موضوع اغتيالات بعض أعضاء المقاومة، في خضم النزاع حول تفاصيل تسليم أعضاء المقاومة لسلاحهم واندماج مُجندي جيش التحرير في الجيش الملكي، إلا أن بن سعيد، عندما كتب مذكراته قبل أزيد من خمس سنوات، برّأ بن بركة من دم عباس المساعدي! وهو ما يمكن اعتباره مفاجأة، كون بن سعيد آيت إيدر، بحسب شهادات من كانوا يعرفونه جيدا، لم يكن يتفق مع بن بركة في كثير من التفاصيل.
جاء في مذكرات آيت إيدر، بهذا الخصوص، ما يلي: «كان المقصود هو تشويه صورة المهدي. فالرجل كان يمثل الوجه الأبرز للحداثة في المغرب غداة الاستقلال وهو الحامل لمشروع دولة عصرية ديموقراطية محصنة ومستقلة تنتمي إلى العصر بكل معنى الكلمة. (..) بن بركة كان أكبر من عباس المسعدي ولم يكن يحتاج إلى تصفية أي كان. لأن الاغتيال أو القتل كان أبعد ما يكون عن شخصيته. وله من القوة والإرادة والذكاء ما يجعله يبلغ أهدافه التي لم يحد أي منها عن القيم الإنسانية الكبرى التي كان يحملها. لكن مع الأسف استغلت الدولة اغتيال المسعدي لمحاولة خدش صورة المهدي».
قضية الصحراء..
علاقة بن سعيد بملف الصحراء تعود إلى سنة 1956، قبل أن تولد البوليساريو وحتى قبل أن يُخلق فتيل الخلاف. فقد كان بن سعيد آيت إيدر من الذين خططوا منذ الإعلان عن استقلال المغرب، لاستمرار عمليات جيش التحرير إلى أن يحرر آخر شبر في المغرب. وهو ما لم تكن الحكومة المغربية متفقة معه، فتيار بن سعيد كان يؤمن بجدوى السلاح. وفضّل قيادة عمليات في قلب الصحراء المغربية لطرد الإسبان منها. وعندما استفحلت الأمور بين الدولة وقيادة جيش التحرير التي رفضت إيقاف العمليات المسلحة، كان اسم بن سعيد آيت إيدر على رأس قائمة المتهمين في أحداث 1960، التي اتُهم فيها أعضاء من المقاومة بالتخطيط لاغتيال ولي العهد وقتها، وطوي الملف بالإفراج عن كل المتهمين فيه. ثم برز اسمه في لائحة المحكومين بالإعدام في ما عرف بأحداث يوليوز 1963، وهكذا غادر صوب الجزائر، لكي يبدأ مسارا من المعارضة الشرسة للنظام في أيام الملك الراحل الحسن الثاني.
في الجزائر وجد آيت إيدر استضافة «سخية» من طرف الهواري بومدين. لكن قبل أن يفتح له بومدين الباب لأنشطة الخلايا المسلحة السرية، كان بن سعيد آيت إيدر يُحس بإحراج كبير عندما يفاتح الرئيس بن بلة -أول رئيس للجمهورية الجزائرية بعد استقلالها- في موضوع الأنشطة المسلحة ومخيم التداريب الذي يوجد به مغاربة هاربون من أحكام الإعدام. وعن هذه الأجواء، كتب بن سعيد يقول: «كنت ألمس شدة الحرج عند الرئيس بن بلة وأنا أناقش معه موضوع السماح لجماعة من اللاجئين المغاربة المسلحين بدخول المغرب انطلاقا من التراب الجزائري خارج أي إطار محدد ومسؤول. وربما زاد من حرج الرئيس عدم علمه هو نفسه بكل عناصر وتفاصيل هذا الموضوع. وكنت أبديت للرئيس بن بلة امتعاضي من مثل هذه الأعمال».
في هذا الإطار كانت علاقة بن سعيد بالجزائريين تتقوى، لكن عندما بدأ بومدين أنشطته المعادية للمغرب، خصوصا في قضية الصحراء، كان بن سعيد قرر المغادرة صوب باريس، عاصمة لجوء معارضي نظام الملك الراحل الحسن الثاني، واكتفى بالاحتفاظ بصداقاته مع الجزائريين. وبعض تلك الصداقات كلفت بن سعيد غاليا، خصوصا وأن الجزائريين حاولوا توريط بعض قدماء المقاومة المغاربة في قضية الصحراء، عندما مولت الجزائر أطروحة الانفصال وتأسيس الجمهورية الصحراوية.
بن سعيد وإدريس البصري
لا يمكن الحديث عن مسار محمد بن سعيد آيت إيدر دون أن يثار اسم إدريس البصري.
فبعد سنوات المنفى التي عاشها بن سعيد خارج المغرب، متنقلا بين العواصم الداعمة لليسار وأفكار اليسار، كان اسمه على رأس قائمة من تقرر أن تُسقط عنهم التهم القديمة المتعلقة بالسلاح والتخطيط لاختراق المغرب عبر الحدود الشرقية وتنظيم ثورة مسلحة لقلب النظام، سواء في سنة 1973، أو في المناسبات الأخرى التي أثير فيها هذا السيناريو.
عاد آيت إيدر من منفاه إلى المغرب، ليبدأ صفحة أخرى من النضال السياسي -من الداخل هذه المرة- لكنه وجد نفسه في مغرب آخر غير الذي غادره ذات حماس شبابي في بداية ستينيات القرن الماضي. فمغرب نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، لم يكن يتردد بين جدران إداراته سوى اسم «سي ادريس».
وحكى بن سعيد كيف أن إدريس البصري كان يوجه إليه رسائل بلهجة متشددة، يخبره فيها برسائل يُفترض أنها أرسلت إليه من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، ليتضح لاحقا أن أغلبها كان اجتهادا فقط من إدريس البصري الذي لم يكن يرى في بن سعيد سوى سياسي متمرد لا يناسب القالب الذي كان يضع فيه «سي ادريس» من يقبل أن يزاولوا العمل السياسي تحت إشراف وزارة الداخلية.
هل دفنا الماضي؟
بوفاة محمد بن سعيد آيت إيدر، يكون المغرب قد فقد ذاكرة متكاملة الأركان للعمل النضالي ضد الاستعمار، والصراع السياسي مباشرة بعد الاستقلال، وذكريات المعارضة المغربية الأولى للنظام خلال ما عرف بـ«سنوات الرصاص».
غادر إذن محمد بن سعيد، آخر المؤمنين بالثورة المسلحة، قبل أن يُراجع أفكاره، أو يُعدلها قليلا لكي تناسب سن الكهولة الذي وصل إليه عندما فُتحت أمامه أبواب العودة إلى المغرب، ويطوي سنوات المنفى والتمرد.