محمد بن سعيد آيت إيدر «مائة عام من العزلة في السياسة»
يونس وانعيمي
نظرا للأهمية البالغة لتخصيص حيز يقربنا من رجال ونساء ساهموا في «صناعة» الوعي بتاريخنا ونسج ما يميزنا حضارة وثقافة ومجتمعا عن الآخرين. لكن الشيء المبدع والصعب في نفس الآن، يتمثل في كيفية اختيار وتحديد أسماء بعينها، نظن أنه بالتطرق «لمساهماتها» سنقرب القارئ من «الذات المغربية» ونقربهم من سماتها وملامحها الفسيفسائية التي ساهم في تشكيلها والوعي بها (ربما) فلاسفة ومؤرخون وفنانون مغاربة.
الصعوبة الثانية تكمن في «بلاغة وبيان» أسماء هذه اللائحة وما لها من اتصال مع ما نصبو إليه..، لأن الحضارة ما هي سوى وعي مسترسل للذات الفردية بالحاضر المندمج في وعيها بالماضي من أجل حرية المستقبل. وهو وعي مركب يساهم فيه «وسطاء» هم مثقفون يدورون (على اختلاف مشاربهم) في فلك التفكير بالذات (من نحن؟) للخلاص من قيودها (كيف نبلغ الحرية؟). سنتطرق لأسماء نؤمن بأنها طبعت تاريخنا الثقافي وطبعت وعينا بذواتنا كمغاربة، ولكن ليست لنا من هذا غايات سردية بيوغرافية حصرية؛ لأننا نظن أن ما يهمنا أكثر ليس كيف عاشوا كأفراد، بل تهمنا فاعلياتهم كمفكرين وماذا أنتجوا، وما يمكن لنا أن نستشف من مغامراتهم في الإجابة عن سؤال (من نحن بالذات في التاريخ والفلسفة والأدب والفن والسياسة؟ وكيف لنا الخلاص نحو الحرية بمعانيها الكاملة؟).
لا يسعنا مقام محدود أن نكتب بأصالة عن حياة رجل أفنى كل حياته في الكفاح من أجل تحرير الوطن وخوض معركة طويلة الأمد من أجل تحرير الديمقراطية. إنه سي محمد بن سعيد آيت إيدر، هذا السوسي الصلب الذي لم يزغ عن مبادئ أسسها وجيله من الوطنيين حول الالتزام بالوطن والتقيد بمصالحه الفضلى بعيدا عن كل محسوبية وتغرير. وربما من القلائل في التاريخ السياسي المغربي من صلح في شأنه وصف «السياسي المتخلق والملتزم».
وفِيٌّ لمواقفه السياسية، وفِيٌّ لقبيلته اليسارية، وفِيٌّ لأحلام وطموحات وطنه، وفِيٌّ لقبعته أيضاً أينما حل وارتحل. بلا كلل ولا وهن، يكابد جسداً نال منه الزمن، يحضر لقاءات وندوات ليبث الأمل في كل مناسبة، ويتوجه بالنصح الصريح لأجيال عديدة من الشباب التواق للحرية والديمقراطية، لا يبخل بحقيقة إلا وقالها حتى ولو كلفته مائة عام من العزلة.
على مشارف المائة سنة، أبى آيت يدر إلا أن يطبع على مسيرة حافلة ومليئة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، من عضو بجيش التحرير إلى سياسي، ثم برلماني ومناضل كان ولا يزال من أجل الملكية البرلمانية التي رفعها حزبه الاشتراكي الموحد.
خلايا مرحلة المقاومة
ولد محمد بن سعيد آيت إيدر يوم فاتح يوليوز 1925 في قرية تينمنصور بمنطقة أشتوكة آيت باها في المغرب. تلقى تعليمه في عدد من مدارس منطقة سوس العتيقة، ثم انتقل الى مراكش حيث تابع دراسته في مدرسة ابن يوسف، المؤسسة الشهيرة التي خرجت العديد من عناصر النخبة الوطنية أيام الحماية.
قاد آيت إيدر، خلال مرحلة المقاومة، عددا من الخلايا التي خاضت الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وتولى المسؤولية السياسية عن جيش التحرير المغربي في الجنوب، وشغل عضوية المجلس الوطني للمقاومة. وبعد سنوات من المنفى في عهد الاستقلال، أسس منظمة العمل الديموقراطي الشعبي وانتخب أمينا عاما لها، وأصبح نائبا برلمانيا باسمها. وفي إطار اندماج عدد من الأحزاب والحركات اليسارية، تولى المهمة الشرفية رئيسا لليسار الاشتراكي الموحد عام 2002.
نشأ آيت إيدر في منطقة معزولة عن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عرفها المغرب في عهد الحماية، ولم يكتشفها إلا بعد انتقاله إلى مراكش للتعلم في مدرسة ابن يوسف، حيث فتح عينيه على العمل الوطني، والتقى بقيادات سياسية، كعبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة. واصطدم مبكرا رفقة زملائه بوالي مراكش الشهير الباشا التهامي الكلاوي، رجل فرنسا القوي في المغرب. انخرط بقوة في العمل المسلح بمشاركته في قيادة فرق جيش التحرير المغربي وتكوين خلايا المقاومة. وفي هذا السياق، تولى، في بداية الخمسينيات، منصب المسؤول السياسي لقيادة جيش التحرير في الجنوب. وأرخ لهذه المرحلة من حياته في كتاب صدر عام 2001 بعنوان «صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي».
ومع السنوات الأولى للاستقلال، بدأت الهوة تتسع بين عدد من المناضلين اليساريين وقياديي جيش التحرير من جهة والنظام الحاكم من جهة أخرى، وخصوصا ولي العهد آنذاك الحسن الثاني الذي تولى العرش بعد وفاة والده محمد الخامس عام 1961. تعرض بن سعيد للاعتقال عام 1960 ثم 1963 وغادر إلى المنفى بالجزائر حيث صدر عليه حكم غيابي بالإعدام عام 1964. ومن الجزائر حيث اتهمه الحكم المغربي بالمشاركة في مخططات تخريبية لزعزعة النظام، انتقل إلى فرنسا حيث دخل تجربة سياسية جديدة من خلال الانخراط في منظمة حملت اسم «23 مارس» ذات التوجه الماركسي اللينيني.
عاد للمغرب عام 1981، ودشن تجربة جديدة من العمل السياسي في إطار المؤسسات، من خلال حزب «منظمة العمل الديمقراطي الشعبي» التي انتخب أمينا عاما لها عام 1983. وباسم المنظمة، دخل البرلمان وكان وجها بارزا عرف بإثارته لقضايا حساسة، فقد كان أول سياسي يطرح قضية معتقل تازمامارت التي كانت من قبيل المسكوت عنه آنذاك.
تأسيس الكتلة الديمقراطية
لم يمنع الطابع الراديكالي للمنظمة من المساهمة إلى جانب أحزاب وطنية أخرى في تأسيس الكتلة الديمقراطية عام 1992، وهو التحالف الذي كان له دور ضاغط على الإصلاحات في أواخر عهد الحسن الثاني. ثم واجه لاحقا تحدي الانشقاق الذي تعرض له حزبه عام 1996 بانسحاب مجموعة من القيادات التي انتظمت في حزب جديد، لكنه عاد من جديد لتوسيع عائلة اليسار بالاندماج مع أحزاب وحركات أخرى في حزب اليسار الاشتراكي الموحد عام 2002.
بعد مسيرة سياسية ونضالية حافلة بمواقف شجاعة وجريئة قل نظيرها في المشهد السياسي المغربي، أصدر اليساري المغربي المقاوم محمد بنسعيد آيت إيدر مذكراته تحت عنوان: «هكذا تكلم محمد بنسعيد»، من إعداد وإخراج عبد الرحمن زكري.
يتحدث معارض الملوك الثلاثة الرافض لدساتير المغرب باعتبارها «ممنوحة وغير شعبية»، في الجزء الأول من مذكراته التي تقع في 428 صفحة، حول نشأته كيتيم الأم، مرورا بأبرز المحطات السياسية والنضالية، منها انخراطه في جيش التحرير، ومواقفه من قضية الصحراء، ونجاته من محاولة اغتيال، وعلاقته الصدامية والمتوترة بالحكم، خصوصا مع الملك الراحل الحسن الثاني. في الوقت الذي يؤكد فيه الزعيم التاريخي لحزب الحركة الشعبية، المحجوبي أحرضان، في مذكراته السابقة، أنه كان مسؤولا في جيش التحرير ومقاوما وطنيا، نفى محمد بنسعيد آيت إيدر صحة ذلك، مؤكداً أن الرجل لم يسبق له أن انتمى يوما ما إلى جيش التحرير أو كان واحدا من رجالاته.
ويقول آيت إيدر، وهو أحد قيادات جيش التحرير: «للتاريخ فقط، فأحرضان لم يسبق له أن انتمى يوما إلى جيش التحرير، وكل ما هنالك أن اسمه أعْطِيَ في وقت من الأوقات لقيادة الجيش بتطوان على أساس الاتصال به من طرف الفقيه الفكيكي وسعيد المنوزي هنا بالبيضاء بإحدى مقاهي عين الذئاب. وكان الغرض أن يلحق بالجيش باعتباره ضابطا. فطلب معاودة الاتصال به من بعد».
من جهة ثانية، تطرقت المذكرات إلى محطة الاستفتاء على دستور 1996، التي اعتبرها «سبب التصدع الذي سيصيب الكتلة الديمقراطية، وستصل تبعاته حتى البيت الداخلي لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، بل أذهب أبعد من هذا وأقول إن الموقف من الاستفتاء على الدستور الممنوح أحدث تأثيرا كبيرا على الساحة السياسية، وما زلنا إلى اليوم نعيش على إيقاع تداعياته السلبية».
وتحدث آيت إيدر عن تنازلات حزب الاتحاد الاشتراكي في هذه المرحلة، قائلاً: «كانت الصفقة التي أعلن عنها النظام على الشكل التالي: يصوت الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لصالح دستور 1996، لأول مرة في تاريخه، وبعدها… أي بعد أن يكون السبع قد أكل ما أكل، سيُقْدِم الحسن الثاني على تنازلات لا شيء فيها محدد ولا مضمون… يعني مغامرة، ومقامرة، كمن يمضي شيكا على بياض… وتفجر الخلاف… قالوا: نمنح ثقتنا مرة أخرى ونبين حسن نيتنا وننتظر».
والنتيجة، يضيف المصدر ذاته، أنهم «قبلوا بقواعد اللعبة التي وضعها الحسن الثاني؛ حكومة تناوب مفصلة على المقاس الذي أراده هو، وتناوب مزيف أطلقوا عليه وصف «توافقي» لأنه بني، في نظر آيت إيدير، على أسس غير سليمة. فالأغلبية التي حكم بها عبد الرحمان اليوسفي لم تكن أغلبية منسجمة، نابعة من حزبه ومن الأحزاب الحليفة له وفق برامج وتوجهات مشتركة وتقارب أيديولوجي، كما كان يجب أن يكون عليه الأمر، وإنما هي أغلبية ملقوطة من أحزاب الدولة»، حسب رأيه.
ويخلص الزعيم اليساري إلى أنه «بالرغم من أن التناوب لعب دورا إيجابيا في انتقال السلطة بسلاسة من الحسن الثاني إلى محمد السادس، فإنه كان من الأخطاء القاتلة التي ستدفع الأحزاب الوطنية والتقدمية ثمنها غاليا في ما بعد، وستطوّح بها في نفق مظلم لتتقاذفها بالتظافر تيارات الانشقاقات والتآكلات الداخلية ويستبطن عدد من قياداتها قدرا هائلا من بنية وثقافة الأحزاب الإدارية».
لقاء الملك والمقاوم
لقيت لحظة التقاء الملك محمد السادس بالمقاوم ابن شتوكة آيت بها محمد بن سعيد آيت ايدر اهتماما بالغا من قبل المتتبعين لمسيرة هذا المقاوم، الذي أكد في تصريحات سابقة أنه لن يقبل يد الملك، وهذا لا يعني بالنسبة له «تحقيرا» للمؤسسة الملكية وسوء أدب، ولكنها إشارة منه للتأسيس لثقافة جديدة تتجلى في أن خدمة الوطن لا تقتصر على تقبيل يد الملك بل تتعداها إلى أمور أكثر عمقا، وخاصة وأن المقاوم بن سعيد ارتبط اسمه كثيرا بمرحلة مقاومة المستعمر وهو من بين الرموز الوطنية التي أدت الشيء الكثير من أجل استقلال البلاد، وهو الأمر الذي استندت عليه التشريفات والأوسمة واقترحت اسمه للتوشيح بأحد أرقى الأوسمة العليا بالمغرب.
وفي 23 أبريل 2011 بالدار البيضاء، وبمبادرة من كفاءات علمية وأكاديمية من مختلف حقول وتخصصات البحث العلمي، ومن فعاليات اجتماعية متنوعة المشارب الفكرية والتوجھات السياسية، تم إحداث «مركز محمد بن سعيد آيت إيدير للدراسات والأبحاث»، وهي مؤسسة للبحث والتوثيق والترجمة والنشر والتنشيط الثقافي.
يهتم المركز بكل الأبحاث والدراسات التي يتعلق موضوعها بالمغرب في تشكله التاريخي وأحواله الراهنة. ويتركز اهتمام المركز مرحليا على تاريخ الحركة الوطنية المغربية وعلى تاريخ حركة اليسار ضمنه بالأخص، حيث يأخذ على عاتقه مهمة الإسهام في كسر طوق الصمت المضروب حوله وفي إخراج وقائعه إلى الضوء، متعاونا في ذلك مع كل المراكز الوطنية والأجنبية الرصينة التي يتقاسم وإياها الأهداف والغايات ذاتها.
ويضم أرشيفا يوثق المادة التاريخية ذات الصلة بتاريخ اليسار؛ ويتوفر على كرونولوجيا شاملة لأهم وقائع تاريخ اليسار التنظيمية والسياسية؛ مع تجميع أبرز النماذج التمثيلية في تجارب قوى اليسار على المستويين الإقليمي والعالمي ويقوم بدراسات مقارنة بينها وبين التجربة المغربية.
في سطور
ولد محمد بن سعيد آيت إيدر يوم 1 يوليو 1925 في قرية تينمنصور بمنطقة أشتوكة آيت باها في المغرب. تلقى تعليمه في عدد من مدارس منطقة سوس العتيقة، ثم انتقل الى مراكش حيث تابع دراسته في مدرسة ابن يوسف، المؤسسة الشهيرة التي خرجت العديد من عناصر النخبة الوطنية أيام الحماية.
قاد آيت إيدر خلال مرحلة المقاومة عددا من الخلايا التي خاضت الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وتولى المسؤولية السياسية عن جيش التحرير المغربي في الجنوب، وشغل عضوية المجلس الوطني للمقاومة. وبعد سنوات من المنفى في عهد الاستقلال، أسس منظمة العمل الديموقراطي الشعبي وانتخب أمينا عاما لها، وأصبح نائبا برلمانيا باسمها. وفي إطار اندماج عدد من الأحزاب والحركات اليسارية، تولى المهمة الشرفية رئيسا لليسار الاشتراكي الموحد عام 2002.
نشأ آيت إيدر في منطقة معزولة عن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عرفها المغرب في عهد الحماية، ولم يكتشفها إلا بعد انتقاله إلى مراكش للتعلم في مدرسة ابن يوسف، حيث فتح عينيه على العمل الوطني، والتقى بقيادات سياسية، كعبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة. واصطدم مبكرا رفقة زملائه بوالي مراكش الشهير الباشا التهامي الكلاوي، رجل فرنسا القوي في المغرب.
انخرط بقوة في العمل المسلح بمشاركته في قيادة فرق جيش التحرير المغربي وتكوين خلايا المقاومة. وفي هذا السياق، تولى في بداية الخمسينيات منصب المسؤول السياسي لقيادة جيش التحرير في الجنوب. وأرخ لهذه المرحلة من حياته في كتاب صدر عام 2001 بعنوان «صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي».
تعرض بن سعيد للاعتقال عام 1960 ثم 1963 وغادر إلى المنفى بالجزائر حيث صدر عليه حكم غيابي بالإعدام عام 1964.
عاد للمغرب عام 1981، ودشن تجربة جديدة من العمل السياسي في إطار المؤسسات، من خلال حزب «منظمة العمل الديمقراطي الشعبي» التي انتخب أمينا عاما لها عام 1983.
واجه الحزب لاحقا تحدي الانشقاق الذي تعرض له حزبه عام 1996 بانسحاب مجموعة من القيادات التي انتظمت في حزب جديد، لكنه عاد من جديد لتوسيع عائلة اليسار بالاندماج مع أحزاب وحركات أخرى في حزب اليسار الاشتراكي الموحد عام 2002.