محمد السادس: لهذا أسس الحسن الثاني حركة عدم الانحياز مع تيتو وجمال عبد الناصر ونهرو ونكروما وسيكوتوري وموديبو كيتا وسوكارنو
عزيز الحور
لقد نشأ الاتحاد العربي الإفريقي في سياق دولي متسم بالاضطراب والحركية، فبالإضافة إلى أنه تأسس في ظل علاقة مغربية ليبية متذبذبة، فإن هذا الاتحاد ارتبط بمناخ عالمي مازالت تتحكم فيه، حتى حدود تلك الفترة، إرهاصات الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
لقد كانت فترة التقارب المغربي الليبي التي توجت بتوقيع اتفاقية وجدة سنة 1984 هي المرحلة النهائية في الصراع بين الكتلة الشرقية التي يتزعمها الاتحاد السوفياتي والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. هذا الصراع انتقل في هذه الفترة إلى السرعة النهائية التي شهدت بداية انهزام الكتلة الشرقية وتفكك الاتحاد السوفياتي. لم تكن تفصل، إذن، عن لحظة انهيار جدار برلين، الذي كان بداية لذوبان الاتحاد السوفياتي، سوى ست سنوات حينما حصل الاتفاق المغربي الليبي، لذلك لم يكن هذا الاتفاق في معزل عن سياق الأحداث، خصوصا أنه نشأ بين دولتين إحداهما معادية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي ليبيا، والأخرى أكثر قربا من المعسكر الغربي رغم إعلانها عن الانحياز، وهي المغرب. غير أن التوجه الأحوط الذي اختاره البلدان هو انتهاج سياسة عدم الانحياز، على الأقل وفق تحليل محمد السادس للوضعية حينها في كتابه.
لقد اعتبر الملك محمد السادس في تحليله أنه تمت ثلاثة أهداف للاتحاد العربي الإفريقي على المستوى العالمي، أولها المساهمة في المحافظة على السلام والأمن الدوليين، وثانيهما انتهاج سياسة غير منحازة. أما ثالث الأهداف فهو إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد.
بخصوص الهدف الأول، وهو المساهمة في المحافظة على السلام والأمن الدوليين، يوضح الملك: «من أهداف الاتحاد العربي الإفريقي «المساهمة في المحافظة على السلام كلما كان قائما على أساس العدل والإنصاف ومتسما بصفة الدوام والاستقرار»، فما المقصود بحفظ السلام؟ وما علاقته بالمحافظة على الأمن الدولي؟ ثم كيف يمكن للاتحاد العربي الإفريقي المساهمة في المحافظة على السلام الدولي؟».
الأسئلة التي طرحها الملك ستمهد لبسط تصوره لآليات التدخل العسكري دوليا من جهة وموقع منظمة الأمم المتحدة من ذلك. يقول الملك: «لقد ربط ميثاق الأمم المتحدة بين المحافظة على السلام وبين المحافظة على الأمن الدولي، والمقصود بالمحافظة على السلام منع الحروب، أما حفظ الأمن الدولي فمعناه تهيئة الأسباب والعوامل التي تجعل كل دولة تعيش مطمئنة على سلامتها لا تخشى خطر الحرب. ولا جدال في أن هذا الشعور بالأمن الدولي يؤدي إلى تحسين العلاقات بين الدول ويهيئ الأسباب لتعاونها، كما أن إنماء التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي من أهم الأسس التي يمكن بواسطتها منع الحروب. المحافظة على السلام إذن تعني تجنب ظاهرة الحرب، وهذه الظاهرة تتميز بطابعين رئيسيين هما العالمية والشمول. فالحرب الحديثة إذا ما قامت في منطقة قد تمتد بسرعة إلى غيرها من مناطق العالم، كما أنها أصبحت اليوم تمس الدول المحاربة في جميع أفرادها وإقليمها وتسخر لها كل الموارد، ويسهم فيها جميع سكان الدولة».
ينتقل الملك لاستعراض آليات ووسائل تتوفر عليها الأمم المتحدة، وفقا لميثاقها، تمكنها من المحافظة على السلام، قبل أن يخلص إلى بسط مفهوم حفظ السلام الذي انتهت إليه ممارسات الأمم المتحدة، وفق ما بينه الملك، والذي هو مجال التدخل العسكري المشار إليه في معاهدة المغرب وليبيا. يقول الملك في كتابه: «وفي ضوء ما تقدم، يتضح أن التزام الدول الأعضاء في الاتحاد العربي الإفريقي بالمساهمة في المحافظة على السلام إنما ينصرف إلى عمليات حفظ السلام بالمعنى الأخير الذي استقر في ممارسة هيأة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى التي تستهدف تنفيذ مهام مراقبة وقف إطلاق النار ومنع تجدد أعمال القتال، والمحافظة على النظام والاستقرار في مناطق النزاع. وهذا ما أكده صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني عند تفسيره للبند الثالث من المادة الثامنة من معاهدة وجدة، إذ قال جلالته: ”يهدف الاتحاد إلى المساهمة في الحفاظ على السلام كلما كان قائما على أساس العدل والإنصاف ومتسما بصفة الدوام والاستمرار. فهذه المسألة مهمة جدا بالنسبة لأصدقائنا أو خصومنا في الخارج، ذلك أننا لم نعمل اتحادا للشغب ولا اتحادا لكي ينزعج الناس منه، بل عملناه ويهدف قبل كل شيء حتى يكون هذا الاتحاد منصفا لنفسه ولفضيلته التي اختارها للمساهمة في المحافظة على السلام، وما معنى المحافظة على السلام؟ وهو أنه غدا إذا كانت هناك قضية مشروعة في أوروبا أو إفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو آسيا، وقررت الدول أو مجموعة الدول كهيأة الأمم المتحدة، مثلا أن ترسل قوات المحافظة على الأمن والسلام، وكان ذلك السلام مطابقا للحق والإنصاف، الاتحاد المغربي الليبي سيكون جندي مغربي وجندي ليبي واقفين جنبا إلى جنب في المكان الذي ارتأت المنظمة الدولية لتطبيق روح الاتفاقية التي تكون في صالح الحفاظ على السلام كلما كان ذلك السلام قائما على أساس العدل والإنصاف ومتسما بصفة الدوام والاستقرار”.
بعد ذلك انتقل الملك محمد السادس إلى المقوم الثاني في التعاطي الخارجي لاتحاد المغرب وليبيا، وهو انتهاج سياسة غير منحازة، بتعبير الملك، بادئا بتعريف مفهوم عدم الانحياز الذي ذكر أنه نظرية سياسية ترفض بموجبها دولة ما الانحياز لمعسكر من المعسكرات الدولية، وتصر على اتباع سياسة مستقلة تمليها المصلحة الوطنية بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى. وقد حدد مؤتمر بلغراد لسنة 1961، معددا خمسة معايير يجب أن تتوفر عليها الدولة لتكون غير منحازة، قبل أن ينتقل إلى عرض موقف المغرب وليبيا من سياسة عدم الانحياز التي طبعت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ذاكرا: «يعتبر المغرب أحد البلدان المؤسسة لحركة عدم الانحياز. وقد وقع جلالة الملك في مؤتمر بلغراد على ميثاق تأسيس هذه الحركة مع تيتو (جوزيف بروز تيتو، رئيس يوغوسلافيا حينها وأحد محركات حركة عدم الانحياز وأمينها العام بعد تأسيسها) وجمال عبد الناصر (الرئيس المصري الأسبق)، ونهرو (جواهر لال نهرو، الرئيس الهندي حينها)، ونكروما (كوامي نكروما، الرئيس الغاني في تلك الفترة) وسيكوتوري (أحمد سيكو توري، رئيس غينيا حينها)، وموديبو كيتا (الرئيس المالي الأسبق)، وسوكارنو (أحمد سوكارنو، الرئيس الأندونيسي في تلك الفترة)، أي مع جميع أقطاب الحركة. وكما قال جلالة الملك، فإن «سياسة المغرب تتطابق مع عدم الانحياز» وهو «لا يعاني في هذا الصدد من أي مركب». أما ليبيا فقد جاء على لسان رئيس دبلوماسيتها في خطابه أمام الجمعية العامة في دورتها التاسعة والثلاثين، أن الجماهيرية كدولة غير منحازة تنتهج سياسة محايدة: «لتؤيد بقوة حركة عدم الانحياز وتؤكد إيمانها المطلق بدور هذه الحركة في تحقيق السلام والأمن الدوليين». وأضاف أنها «لا تكن العداء لأي شعب من الشعوب أو دولة من الدول بل نريد الصداقة والتعاون مع أولئك الذين يقبلون أن يتعاونوا معنا في إطار الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وفي إطار ميثاق وأهداف منظمة الأمم المتحدة». على هذا الأساس، يمكن للدولتين بلورة مفهوم إيجابي لعدم الانحياز يعبر عن قضايا العالم الثالث ويخدمها ويراعي مصالحه. ولا شك أنه توجد في مقدمة هذه القضايا التي يمكن أن تكون محلا للتنسيق بين طرفي الاتحاد العربي الإفريقي اتباع سياسة متوازنة بين الشرق والغرب ومحاربة الاستعمار الجديد والتمييز العنصري ونزع السلاح والتعايش السلمي، وتأييد حركات التحرر الوطني».
ومن الملفت اعتماد الملك في بحثه مفهوم الاستعمار الجديد، وهو مفهوم تبلور في أدبيات حركة عدم الانحياز. يقول الملك إن معظم دول حركة عدم الانحياز «التي اختارت تبني هذه السياسة كانت خاضعة للاستعمار. ولهذا فقد وضعت الدول مسألة مكافحة الاستعمار كركن أساسي لسياستها الخارجية. وإذا كان النظام الاستعماري التقليدي قد صفي تقريبا، فإنه عوض بشكل آخر من أشكال الاستعمار يعرف بالاستعمار الجديد (يضيف الملك ملاحظة هامة على هامش الصفحة تقول: «سواء كان هذا الاستعمار أمريكيا أو سوفياتيا أو أوروبيا») الذي يتميز بتنوع أهدافه وأساليبه غير المباشرة مما يجعله أكثر خطورة وتعقيدا من الاستعمار القديم، وقد أكدت قرارات مؤتمرات حركة عدم الانحياز على مكافحة التمييز العنصري والممارسات التي تطبقها أنظمة الأقليات البيضاء في جنوب إفريقيا والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة»، يوضح الملك.
*ما بين القوسين هو من إضافة المحرر.