شوف تشوف

الرئيسية

محمد السادس: «السياسات الاستعمارية أدت إلى تقوية النزعة الوطنية الضيقة في نفوس الحكام والشعوب العربية»

كيف كان الملك محمد السادس يتصور، قبل أزيد من 30 سنة، موضوع الوحدة العربية؟ ما الذي كان يعنيه كل ذلك النقاش الدائر بحدة طيلة النصف الثاني من القرن الماضي حول توحيد الأقطار العربية في ظل مد قومي كبير عند ولي العهد حينها والذي عاش في كنف صراع خفي بين نظام ملكي يمتح من مرجعية إمارة المؤمنين كما يدافع عن ذلك والده الحسن الثاني، ونظام جمهوري قومي علماني بشكل معين ينافح عنه جمال عبد الناصر وصدام والأسد وبقية الزعماء العرب قوميي النزعة؟
في هذا الجزء من البحث ينتقل الملك محمد السادس إلى تمحيص نقطة كان قد مر عليها سريعا في المباحث السابقة من عمله الأكاديمي، ويتعلق الأمر بالوحدة العربية التي تحدث عنها الملك باعتبارها هدفا من أهداف الاتحاد العربي الإفريقي بعد توحيد المغرب العربي.
هنا نلمس روحا وحدوية متفردة لدى ولي العهد حينها، ونتلمس فيها أكثر موقف والده من المد القومجي الناصري الذي كان أقرب إلى النزعة النفسية الضيقة منه إلى المشروع الوحدوي الشامل كما سنفهم من كلام وتحليل الملك محمد السادس. فولي العهد حينها يطرح موضوع الوحدة العربية في كتابه وفق منظور براغماتي يتأسس على الانطلاق من المشترك للوصول إلى الرخاء وصون الكرامة الفردية والجماعية، وهو ما يعتبر الملك أنه تمثل في معاهدة وجدة.
يقول الملك: «لقد أدرك الطرفان كما ورد في ديباجة معاهدة وجدة أن الاتحاد بينهما بالصورة المتفق عليها من شأنه أن يكون منطلقا لقيام هياكل أوسع هدفها خدمة وحدة الشعوب العربية والإسلامية وتحقيق ما تصبو إليه من عزة وكرامة، كما اعتبرا أن هذا الاتحاد يشكل لبنة أساسية لوحدة المغرب العربي وبالتالي خطوة تاريخية في سبيل تحقيق وحدة الأمة العربية. والواقع أن الوحدة العربية لها عدة مقومات، وتبدأ هذه المقومات بالوحدة الروحية القائمة على تعاليم الإسلام الوحدوية ثم تمتد إلى الجوانب الأخرى فتشمل وحدة الأصل واللغة والتاريخ، كما تتضمن أيضا الوحدة الجغرافية والاقتصادية، وأخيرا وحدة المشاعر والأماني والأهداف المشتركة. ولكن تحقيق هذه الوحدة تواجهه عقبات متعددة، منها ما هو داخلي كاختلاف الأنظمة وتنافس الزعامات، ومنها ما هو خارجي كالاستعمار والصهيونية والوضع الدولي».
حتى هنا بدأت مواقف الملك محمد السادس من الوحدة العربية، في سياق تعقبها في مرجعيات الاتحاد العربي الإفريقي تتوضح، فهو يضع التنافس المحموم حينها بين الزعماء العرب على الريادة في نفس درجة التهديد الاستعماري والصهيوني، بتعبير الملك، للوحدة العربية. وهذا التصور مرتبط بسياق تاريخي عاشه ولي العهد حينها وتجلى في تسابق محتدم بين رؤساء دول عربية على الزعامة الصورية بالتحجج بقضية الوحدة العربية.
غير أن عوامل الوحدة العربية هي أقوى وأرفع من كل ذلك بكثير في منظور الملك محمد السادس، وفي هذا الإطار يقول في بحثه: «وحدة العقيدة لها أثر عميق في تقوية الروابط الوحدوية السياسية، وتتمثل هذه الوحدة في أن الغالبية العظمى من العرب قد دخلت في الإسلام مما يسهل إقامة الوحدة السياسية، كما أن الأقليات المسيحية وغيرها تعيش في وئام وسلام مع المسلمين في البلدان العربية، وقد أعطى لهم الإسلام حقوق العيش والأمان وحرية العقيدة كما هو معروف. وتتجلى وحدة الأصل في أن جميع شعوب الوطن العربي من المشرق والمغرب قد اندمجت مع العرب الفاتحين الأوائل في إطار العقيدة الإسلامية التي ساعدت ووحدت بين الجميع في الفكر وأسلوب الحياة والحضارة منذ أمد بعيد. وتعتبر وحدة اللغة من العوامل الرئيسية في تقوية الوحدة السياسية، فالدول العربية تتكلم لغة واحدة هي العربية، وهذه ميزة تفتقدها كثير من الجماعات الموحدة سياسيا، والتي تتعدد لغاتها ولهجاتها كالهند والاتحاد السوفياتي وسويسرا. فاللغة العربية هي لغة التأليف والصحافة ووسائل الإعلام المختلفة لجميع شعوب الوطن العربي».
يتابع الملك مستعرضا الأسس الموضوعية للوحدة العربية: «أما وحدة التاريخ والجغرافيا فهي من العوامل الأساسية لربط الأفراد ببعضهم ولتقوية الوحدة السياسية، كما أن الوحدة الاجتماعية والاقتصادية تتمثل في الروابط القوية الموجودة في الوطن العربي والتي لها أهمية كبرى في تقوية الوحدة المتوخاة، وتتمثل الروابط الاجتماعية في وحدة العديد من العادات والتقاليد وفي الوحدة التعليمية والثقافية وكذلك الوحدة التشريعية، فكثير من التشريعات العربية، لا سيما في مجال الأحوال الشخصية والمواريث، مستمدة من الشريعة الإسلامية، وتتجلى الروابط الاقتصادية في التكامل الاقتصادي، وذلك بالنسبة للموارد الطبيعية والأيدي العاملة والخبرات الفنية، هذا التكامل يؤدي إلى نجاح الوحدة الاقتصادية».
غير أن الملك محمد السادس يستدرك مشيرا إلى المشاكل التي تعيد الوحدة العربية وتجعل من كل عوامل التكتل المذكورة غير ذات جدوى. يفصح الملك: «لكن تحقيق هذه الوحدة كانت تواجهه عدة عقبات من أهمها اختلاف الأنظمة في البلدان العربية، وهو ما تجاوزه الاتحاد العربي الإفريقي، فقد كان هذا الاختلاف يحول دون قيام تقارب سياسي وحدوي، لا سيما وأن السياسات الاستعمارية أدت إلى تقوية النزعة الوطنية الضيقة في نفوس الحكام والشعوب. ومن هنا، فإن قيام الاتحاد العربي الإفريقي هو حدث تاريخي بالنسبة لمجموع الأمة العربية سياسيا وجغرافيا، ولأن إطاره القانوني جد مرن ويضمن تحقيق الوحدة المنشودة بشكل تدريجي وفعال، وهذا الإطار القانوني يمتاز عن أسس الاتفاقيات الأخرى المماثلة بتجنبه البداية بالنهاية وهي الإدماج الكلي، والذي كان سببا في انهيار التجارب الاتحادية السابقة، ودون أن يتجلى في نفس الوقت عن تحقيق هذه الفكرة في الأمد البعيد بشكل تدريجي وموضوعي. وقد تجاوز الاتحاد العربي الإفريقي بنفس الأسلوب العقبة المتمثلة في اختلاف السياسات الداخلية وما تؤدي إليه من تباين في الظروف الاجتماعية التي تتمثل في مستويات التعليم والمعيشة وأساليب الحكم في البلدين، كما تجاوز مشكلة التنافس بين الزعامات الذي جعل الدول العربية تدخل في حروب مباشرة أو باردة. وبذلك فهو تجربة رائدة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلاقات الدولية العربية».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى