شوف تشوف

الرأي

محامي الصحافة يربح دعواه

تغلب شعوره النفسي بالرضا على ما دونه من هواجس. وظل الصحفي السلموني الزرهوني على قناعة بأن مواجهة الحياة بالابتسامة لا تفني الأمل. لذلك كان يرى نفسه في المرآة مصارعا يردي كل الصعاب. كان يحمل في عقله إيمانا بأن ما من شيء يعترضه، إلا ويكون مجرد امتحان، لاختبار قدراته على التحمل والاحتفاظ بالبسمة.
عمل في وكالة المغرب العربي للأنباء صحفيا يتقن فن التحقيقات الميدانية، وعندما تعرض لطرد تعسفي رأى أنها محطة. لم يحزن لما ألم به، وخاض أول معركة قانونية في مواجهة مؤسسة رسمية، حين لم يكن إلا القلائل يملكون جرأة المواجهة. سألته إبان محنته تلك عن المحامي الذي يُؤازره في دعواه، فقال: «وهل أنا بلا لسان؟»، ومن يومها قرر أن يتخصص في قوانين المعاملات الإدارية كي يتأتى له أن يرافع عن نفسه بنفسه طليق اللسان.
طوال السنوات التي استغرقتها المحاكمة، جال على المكتبات وجالس رجال القانون، وفي ذهنه أن الصحفي الذي لا يقدر على الدفاع عن نفسه بقلمه أو مرافعاته ذات المرجعيات القانونية، لا يمكن أن ينصب نفسه مدافعا عن حقوق الآخرين. لم تعوزه الأدلة والقرائن فراح يبحث عن مزيد من الشواهد والأدلة في القانون المقارن. فقد استطاع حيازة منحة دراسية للتخصص في صحافة البرلمان في فرنسا، وانطلق من هناك يبحث في جذور المنازعات القضائية بين المؤسسات. وكلما عاد إلى المغرب أمتع جلساءه بنظريات وطروحات حول كيفية الانتصار للقضايا العادلة، سواء تلك التي تطول نزاعات الشغل أو ملابسات الاختصاصات. وكانت سعادته تطفو على ملامحه الطفولية، إذ يعثر على نازلة تشابه وضعه، أو يعمد إلى مقارنة حالته بمعطيات مماثلة بت فيها القضاء الفرنسي.
رتب جزئيات وتفاصيل قضيته لتصبح موضع اهتمام أكبر. لم يكن معنيا بربحها الذي كان يضعه في جيبه، وإنما بالحد من تسلط أي إدارة لا تحترم حقوق العاملين بها. وحين صدر حكم القضاء الذي أنصفه، اعتبر ذلك مكسبا إعلاميا، من شأنه أن يشجع الصحفيين والعاملين في مؤسسات حزبية أو رسمية على مواجهة حالات التعسف واستغلال النفوذ.
انتقل إلى العمل في صحيفة «لوبنيون» كمتخصص في الشؤون البرلمانية، ولم ينس أن بعض صحفيي المؤسسة على عهد الوزير السابق عبد الحميد عواد، نفذوا إضرابا عن الطعام، كان من بينهم الصحفي سامي الجاي. وأسهم ذلك الحادث العارض في الالتفات إلى أوضاع العاملين الذين أصبحوا أكثر حظوة من زملائهم في «العلم»، مع أن المنبرين الإعلاميين يصدران عن مؤسسة واحدة. لكن السلموني الزرهوني، من خلال رصده لوقائع الجلسات وأعمال اللجان النيابية، تمكن من تكوين رصيد غني حول الممارسات النيابية. فقد كان ينظر إلى مختلف التطورات السياسية من نافذة المؤسسة التشريعية، وحاول من موقعه الإعلامي تأسيس أول جمعية لصحفيي البرلمان، اعتقادا منه أن التخصص يقود إلى تطوير المدارك.
في وقت كان فيه الانشغال بالسياسة يهيمن على الأحداث والمواقف، كان السلموني الزرهوني يقيس الأشياء بمنظور قانوني، وكانت كتاباته وتحليلاته ذات نكهة خاصة.. إذ يعمد إلى إثارة قضايا حيوية، عبر مقارنة التجربة الناشئة، على ضعفها وعيوبها، بما استطاعته تجارب نيابية متقدمة. لم يكن يحبذ الدخول في مواجهات، بل يدع المقارنات تنطق بما تحتويه من تناقضات.
كان من الأوائل الذين دعوا إلى استخدام سلاح القضاء ضد الحكومة، على رغم إدراكه أن الأمور لا تسير وفق أنماط الاستقلالية المتعارف عليها في التجارب السياسية. وكل ما كان يهمه أن يسجل النقاط على حساب التجاوزات في الشكل أو المضمون. فقد عرفته إلى جانب رعيل رواد الإعلام، أمثال محمد بنيس وعبد الحي أبو الخطيب وأحمد شهيد، ثم فاطمة بلعربي وآخرين رصعوا صدور الصحافة المغربية بقلادات وأوسمة.. منهم من واصل الدرب متمسكا بخيارات مبدئية، ومنهم من انعطف في اتجاه آخر. وما بين انحسار «مغرب أنفورماسيون» وتوقف «لادبيش» وانحياز «لوبوتي ماروكان» و«لافيجي» التي ستتحول إلى «لومتان» و«ماروك سوار»، ظلت «لوبنيون» وحدها تصدح من بين الصحافة الناطقة باللغة الفرنسية بصوت هادر ومزعج لمن ارتضوا سياسة التدجين.
ربح السلموني الزرهوني دعواه ضد وكالة المغرب العربي للأنباء، وكانت تلك البداية التي ستدفع بآخرين تعرضوا للتعسف إلى اللجوء إلى القضاء. لكن المشكلة أن الدعاوى لم تكن تقام بنفس النبرة ضد الصحافة الحزبية، وربحت الصحافة المغربية من خلال تلك التجربة، صحفيا ذا كعب عال. علم الآخرين لغة الابتسام حين تعتريهم صعوبات، ولم ألحظ الابتسامة تفارقه في كل معاركه، قبل أن يختفي في زحمة الانشغالات التي تفرق بين الصداقات والمواقف والأمسيات.
كان محاميا أخطأ طريقه إلى الصحافة، لكن أليس الصحفيون جنسا من المحامين الذين يرافعون عن المظلومين عند إشراقة كل صباح؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى