شوف تشوف

الرأيالرئيسية

مجلة «القرن الأمريكي»

كان الظهور على غلاف مجلة «تايم» يعد، ولعله لا يزال، قمة المجد. ولذلك فمن دأب العالم إذا شارف دجنبر على الانتهاء أن ينتظر، ودأب وسائل الإعلام أن تنقل خبر، من اصطفته «تايم» شخصية العام. وميزة «تايم» الفارقة هي أنها أول مجلة إخبارية أسبوعية في التاريخ. إذ لم تكن سوق الصحافة تعرف قبل ظهور «تايم» ، في 3 مارس 1923، إلا الجرائد اليومية. أما فكرة إصدار مجلة صقيلة تتناول شؤون العالم من منظور التفكر والتروي، أي بتحرر من سلطان الفورية الإخبارية، وباهتمام يكاد يكون متساويا بين النص والصور، فإنها لم تخطر ببال أحد قبل الصحافيين الرائدين هنري لوس، وزميله بريتن هادون (الذي توفي شابا عام 1929). وكان أصل الفكرة أن مشاغل الجمهور تمنعه من قراءة المقالات المعمقة التي تنشرها «نيويورك تايمز» ومثيلاتها، ولهذا فإن الحاجة تدعو لصحافة جديدة: أي لكتابة وجيزة جذابة تلخص أحداث الأسبوع، وتتضافر مع صحافة فوتوغرافية مختلجة بكل مشاهد الحياة. ولكن الاستثمار في الفكرة الجديدة كان مجازفة، لأنه لم يكن للجمهور عهد بالأسبوعيات.

كانت «تايم» أول مطبوعة أنجلوفونية تجتذبني لقراءتها بانتظام، أيام كنت طالبا في تونس. أَهَمَّنِي فيها كاتبان: خبير الشؤون الروسية ستروب تالبوت، ورئيس التحرير الراحل هنري غرونوالد. وقد أعجبت بالمؤسس هنري لوس، لما قرأت عام 1985 الفصول التي خصصها ديفيد هالبرستام لـ«تايم»، في كتابه «سلطات الإعلام النافذة» الذي بين فيه كيف صارت «تايم»، و«سي بي إس»، و«واشنطن بوست» و«لوس أنجلس تايمز» إمبراطوريات تكيف الرأي العام، بل وتحدد شروط الإدراك السياسي، في أمريكا. كان لوس صحافيا رساليا يصدر في تصوره لدور الإعلام في التنوير الاجتماعي عن عقيدة بروتستانتية صارمة وأخلاقية عمل آسرة. من ذلك أن الرجل لم يكن يكترث بالطعام، بل إنه كان منضبطا، من حيث لا يدري، بالمقولة العربية المأثورة: خير الطعام ما حضر

ولوس هو الذي نحت عبارة «القرن الأمريكي» عندما كتب، عام 1941، افتتاحية في مجلة «لايف» (المجلة المصورة التي كانت توأم «تايم») قدر فيها أنه حتى لو تمكنت بريطانيا من صد الزحف النازي، فإنها ستكون منهكة بعد الحرب بحيث لا تستطيع الاستمرار في الاضطلاع بدور القوة العالمية الأولى، ولهذا فإن على الأمريكيين أن يتدخلوا عسكريا لإنقاذ أوروبا، ولإنشاء نظام عالمي تهيمن عليه الولايات المتحدة. وقد سمى لوس هذا المسعى «القرن الأمريكي»، فصارت العبارة منذئذ عنوانا لعهد التفوق الجيوسياسي الأمريكي الذي بدأ بعيد 1945.

والقول الشائع اليوم هو إن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الصين. ولكن جوزيف ناي، صاحب مفهوم «القوة الناعمة»، يقول إن أكبر تحد للتفوق الأمريكي لن يأتي من الصين أو الهند أو روسيا، بل من أمريكا ذاتها، أي من عوامل التشرذم التي باتت تهدد البلاد بإزمان الاضطرابات، وتنذر بانسلاخها من الديمقراطية الليبرالية. والرأي عند ناي أن القرن الأمريكي المنقضي ليس محكوما عليه بأن يكون يتيما، بل يمكن أن يعقبه قرن أمريكي ثان. ذلك أن لا وجود، في تقديره، لمنافس لأمريكا حتى الآن. والسبب هو انقسام الاتحاد الأوروبي، وشيخوخة اليابان، وفساد روسيا، وفقر الهند، وضعف إنتاجية البرازيل. والطريف أن لوس كان قد قال منذ البدء بما يقول به ناي اليوم، حيث أنه لما كتب يحض بلاده على دخول الحرب، فإنما دعاها إلى الدفاع عن القيم الديمقراطية وإلى «تدشين أول قرن أمريكي عظيم»، ما يعني أنه كان يتصور إمكان أن يتبع القرن الأول قرن آخر.

وإذا كان فيلم «المواطن كين» الذي ينعت بأنه أعظم فيلم في تاريخ السينما، قد صور أفول نجم بارون الصحافة الأمريكية ويليام راندولف هيرست، فهو إنما أنتج في سياق الوضع السياسي الجديد الذي أخذ يتشكل في الأربعينيات، بفعل صعود نجم هنري لوس الذي صار مالك أكبر إمبراطورية إعلامية في العالم، وصار عدد قراء مجلاته (تايم، ولايف، وفورتشون، وسبورتس إلاستريتد) لا يقل عن خُمُسِ الشعب الأمريكي!

ونظرا إلى أهمية الظهور على غلاف «تايم»، فإن تونس ما زالت تذكر نشر صورة مندوبها في الأمم المتحدة رئيس الجمعية العامة، المنجي سليم، يوم 29 شتنبر 1961، كما أن داعية الحقوق المدنية، مارتن لوثر كينغ، كتب إلى لوس عام 1963 شاكرا: إنه لشرف عظيم أن صحافييكم ارتأوا أني جدير بلقب شخصية العام. أما والد جون كينيدي فقد أهدى إلى ابنه اشتراكا، منذ كان في الخامسة عشرة. ولهذا خاطب لوس، بعد 24 سنة، محييا ومتسائلا: أفتكون قراءة ابني الباكرة لـ«تايم» أحد أسباب تميزه بالفطنة وحسن الاطلاع؟

مالك التريكي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى