مجانين أثرياء لجؤوا إلى المغرب رصدتهم مخابرات العالم وامتهنوا التهريب وحرب العصابات
«ليسوا مشاهير عاديين. بل بعضهم كانوا يظهرون في الإعلام شرقا وغربا. أغلبهم كانوا خطرين على مواطني بلدانهم ونشرت مقالات تسرد جرائمهم وسوابقهم، ورغم ذلك فإنهم جاؤوا إلى المغرب إما تحت الإغراء بحياة مُريحة، كما في الأفلام تماما، وإما للتخطيط عن بُعد لجرائمهم.
المخابرات الأجنبية، كما سوف نرى في هذا الملف، حاولت الوصول إليهم واحدا واحدا. موضة اختيار المغرب بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكنها بلغت أوجها خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بل إن تأثيرها تجاوز الأمريكيين والأوربيين ووصل إلى الأشقاء العرب أيضا..
يونس جنوحي
+++++++++++++++
1945.. تقارير عسكرية وصفت الدار البيضاء بـ«إقامة المهربين» المفضلة
بالعودة إلى تقارير المخابرات العسكرية الأمريكية التي كانت نشيطة جدا في المغرب ما بين سنة 1943، تاريخ الإنزال الأمريكي في سواحل الدار البيضاء، وسنة 1956، عند حصول البلاد على الاستقلال من فرنسا، فإن عددا من المواطنين الأجانب سبق أن كانوا مُراقَبين للاشتباه في تورطهم في أعمال إجرامية تتراوح بين المتاجرة في الممنوعات مثل السجائر المهربة وتجارة الأسلحة، وغسيل الأموال بالطريقة التقليدية وقتها. حيث مارسوا أنشطة تجارية في المغرب لم تكن في الحقيقة سوى غطاء لأنشطتهم الحقيقية.
كما أن رجال أعمال عالميين تضرروا كثيرا بسبب تلك الأجواء وقرروا ألا يستمروا في تجارتهم خوفا من أن تحوم الشبهات حول علاقتهم مع شبكات الاتجار خارج القانون. ومن بين هؤلاء الذين تضرروا نجد رجل الأعمال الأمريكي الشهير، وهو من أصل مغربي، فيكتور المالح. ففي منتصف أربعينيات القرن الماضي كانت الصحافة الأمريكية تصفه بـ«آلهة» تجارة المياه المعدنية. إذ كان يحتكر استيراد المياه المعدنية من دول آسيا لبيعها في السوق الأمريكية. وكانت تجارته تمر عبر المغرب، حيث فتح مكتبا في الدار البيضاء وآخر في القنيطرة خصيصا للإشراف على البضائع التي ينقلها صوب الولايات المتحدة الأمريكية. وكان وقتها رائجا أن بعض العصابات تفرض إتاوات على الأثرياء مقابل السماح لهم بالعمل في مدن، من بينها الدار البيضاء، دون أن تطولهم أعمال التخريب التي تقوم بها هذه العصابات. ورغم أن المالح لم يسجل أبدا لدى الصحافة الأمريكية أنه تعرض لاعتداء، إلا أنه فضل الابتعاد حتى لا يُتهم بالتعامل مع تلك العصابات متعددة الجنسيات، خصوصا وأنه كان يعرف رموزهم في «نيويورك»، حيث كانت صراعات المافيا وقتها تسيطر على الصفحات الأولى للجرائد الأمريكية، بل وحتى التلفزيون الأمريكي في بداياته كان يبث نشرات تحذيرية بأسماء وصور المبحوث عنهم. وبعض هؤلاء الذين كانوا موضوع مذكرات البحث، كانوا في الحقيقة يتجولون في الدار البيضاء والرباط والقنيطرة وطنجة، وهي محاور لجؤوا إليها بسبب انتشار الموانئ ورغبتهم في البقاء قربها للفرار في أية لحظة من المتابعات.
حتى أن مدينتي طنجة والدار البيضاء أصبحتا، بسبب كثرة الأسماء المطلوبة التي ترددت عليهما، قبلة للمخرجين السينمائيين في ستينيات القرن الماضي لتصوير أفلام عالمية عن المافيا وانتشار العصابات، وصوروها بطرق مبالغ فيها، لكنها كانت تحمل جانبا من الحقيقة. إذ إن أخطر مجرمي المافيا أقاموا بشكل سري في المغرب خلال خمسينيات القرن الماضي، ولم يقوموا بأي عمل إجرامي يثير الشبهات حولهم، لكنهم احتموا في المغرب من شرطة بلادهم، حيث كان مبحوثا عنهم ورصدت حكومات أجنبية مكافآت سخية جدا لمن يرشد المصالح الأمنية إليهم.
عرب زاروا المغرب في سياقات مشبوهة
لم يقتصر موضوع الضيوف «فوق العادة»، على الأجانب وحدهم. بل كان هناك أشقاء عرب زاروا المغرب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، في سياقات مختلفة لكنها تبعث فعلا على الريبة، واتهموا وقتها وتم التحقيق معهم للتأكد من خلو ملفهم من أية نية في التخابر لصالح أنظمة عربية وقتها كانت لديها مشاكل مع المغرب، خصوصا بعد صعود حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق إلى السلطة. حيث كان معروفا دعمهم للمعارضة المغربية الممثلة في تيار «الخيار الثوري»، حيث أكد قدماء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وجود علاقات بين بعض زملائهم وقيادات عربية في الشرق.
أحد هؤلاء الضيوف الذين زاروا المغرب واشتبه في كونه يخفي شقا إجراميا، مقرئ أزهري كان معروفا في مصر، حيث جاء إلى المغرب تحت غطاء زيارة القرويين في فاس والعمل على مشروع بحث في مجال تخصصه، ليتضح لاحقا أنه كان على اتصال بالضباط الأحرار وأنه جاء إلى المغرب للتواصل مع قيادات في المعارضة من تيار المهدي بن بركة. ورغم أنه كان معروفا في مصر باسم الشيخ عبد الستار حمدين، إلا أن اسمه الحركي الذي كشف لاحقا بعد مؤامرة يوليوز 1963 كان هو «أبو أيوب»، حيث اتهم بالتنسيق مع بعض القيادات في حزب المهدي بن بركة، رغم أنهم نفوا لاحقا معرفتهم به أو تواصلهم معه.
من ناحية أخرى، سبق في «الأخبار» أن تطرقنا إلى قصة أستاذ جامعي، كان مشهورا في جامعة بغداد في العراق خلال ستينيات القرن الماضي. ومما سبق لنا تناوله في هذا الخصوص، أنه عندما بدأت اعتقالات سنة 1970 في إطار الاتهام الذي وُجه لعدد من قدماء المقاومة السابقين وأعضاء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بتهديد أمن الدولة الداخلي والخارجي، وهي التهمة التي نتج عنها إصدار أحكام بالإعدام والمؤبد على عشرات المُدانين في محاكمة مراكش الشهيرة، كان مواطن عراقي قادما إلى المغرب من مطار أورلي بباريس، ويحمل معه ورقة حجز في فندق «باليما» بالرباط.
كانت التذكرة التي يحملها معه، والتي وُجدت في جيبه بعد تفتيشه جيدا بالمطار، تكشف أنه ركب طائرة من سوريا إلى باريس، رغم أنه يحمل جواز سفر عراقيا ولم يكن سوريا.
وكانت التهمة الموجهة وقتها لعدد من قدماء المقاومة تركز على وجود اتصالات بين قدماء المقاومة المغاربة وقادة الثورة في العراق وسوريا، بل وتتهم النظام السوري الذي كان يقوده وقتها حافظ الأسد بتمويل وتدريب مقاتلين مغاربة لجؤوا إليه على إحداث ثورة في المغرب وقلب النظام.
كانت المهنة التي أدلى بها المواطن العراقي الذي ذُكر اسمه في محاضر ضباط البوليس الذين تولوا استنطاقه هكذا: «عبد الله م. حافظ». والمهنة التي أُدلي بها في الجواز: «أستاذ جامعي».
لم يمثل أمام قاضي محكمة مراكش، لأنه اختُطف من المطار واحتُجز في دار المقري ولم يصل الجلادون معه إلى أية نتيجة عن سبب زيارته للمغرب رغم أنه كان يصيح طوال مدة تعذيبه أنه «أستاذ جامعي» تلقى دعوة في باريس من أحد دكاترة علم الاجتماع لترتيب محاضرات في جامعة الرباط. وبقي محتجزا في المعتقل السري دار المقري لأشهر رغم تحويل جل المتهمين إلى السجن العسكري في القنيطرة لمتابعة محاكمتهم.
وحسب إفادات بعض قدماء المقاومة في الموضوع، أمثال الراحل الحبيب الفرقاني وسعيد بونعيلات وآخرين، فقد أكدوا بشكل متطابق وجود عرب في اعتقالات سنة 1963 ثم في سنة 1970، وكانوا يصرخون أثناء تعذيبهم أنه لا تربطهم أية علاقة بأنظمة بلادهم، خصوصا سوريا والعراق، رغم أن المُحققين السريين معهم كانوا يضغطون عليهم للاعتراف بالمهام السرية التي جاؤوا من أجلها إلى المغرب.
+++++++++++++++
هارب من النازية اشتبه الأمريكيون في بيعه السلاح بالدار البيضاء
يتعلق الأمر هنا برجل ألماني ذكر اسمه في سجلات الأمن الفرنسي في الدار البيضاء، بالضبط في أرشيف كوميسارية المعاريف خلال خمسينيات القرن الماضي.
اسمه «ماكس هامان»، وتشير السجلات إلى أنه من مواليد سنة 1911 في ضواحي برلين. كان مشهورا في برلين، باريس، ونابولي، حيث كان قد راكم ثروة كبيرة خلال بداية الحرب العالمية سنة 1939 من بيع سجائر الجنود وتهريب الخمور داخل الثكنات. وكانت المخابرات الفرنسية تبحث عنه عندما اجتاحت ألمانيا النازية مدينة باريس، وفرضت سيطرتها على فرنسا، فقد كان الفرنسيون يريدون تجنيده مع المخابرات الفرنسية بحكم معرفته الكبيرة بشخصيات ألمانية في الجيش، لكن «ماكس» رفض. والأرجح أن رفضه كان خوفا من انتقام سلطات بلاده حيث كان «هتلر» متشددا جدا في عقاب الألمان الذين ثبت أنهم يتعاملون مع مخابرات دول تكن العداء لألمانيا النازية.
لكن الفرنسيين، أرادوا الانتقام منه لأنه استغل عرض الأمن الفرنسي لتزويدهم بالمعلومات، لكي يطلب أن يسمحوا له بتوسيع أنشطته، لكنه تحت الضغط الذي مورس عليه، اضطر في الأخير إلى التعاون، وفعلا قدم للمخابرات الفرنسية معلومات مهمة جدا عن شخصيات عسكرية وأمنية ألمانية، مقابل سماح فرنسا له بتوسيع أنشطته الممنوعة، حيث كان سابقا وهو بالكاد قد أكمل عشرين سنة، أحد قادة العصابات التي راكمت ثروة كبيرة من خلال ترويج الخمور بعد الحرب العالمية الأولى. وهكذا فقد قرر سنة 1942 بعد أن نصحه أصدقاؤه بالمغادرة خوفا من الاغتيال على يد النازية، أن ينتقل إلى المغرب وبالضبط إلى مدينة الدار البيضاء.
وتقول بعض المصادر إن «ماكس» أقام في الدار البيضاء منذ 1942 إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية، ولم يعد هناك خطر على حياته في حال عاد إلى أوربا. فمع سقوط النازية، يرجح أنه انتقل من جديد إلى ألمانيا بعد أن ربط صداقات كبيرة في المغرب مع مسؤولين فرنسيين، حيث استأنف لفترة نشاطه في تجارة السجائر المخصصة للجنود، والتي كانت تُعبأ في علب خاصة بالجيش، لكنه كان يروجها خارج الثكنات من خلال إبرام صفقات.
كانت CIA الأمريكية، وأرشيفها هو مصدر معلوماتنا عن «ماكس»، قد أنجزت تقريرا مفصلا عنه نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، حيث حقق مسؤولون في الاستخبارات المركزية الأمريكية عندما اشتبهوا في أن يكون «ماكس» صديقا لمغاربة محسوبين على التيار الوطني، حيث سجلت حالات اختفاء أسلحة من القاعدة الأمريكية في القنيطرة، وحققت CIA في الموضوع لصالح أصدقائها الفرنسيين لمعرفة من يهرب سلاح القاعدة الأمريكية للمقاومين، لكن تم استبعاد «ماكس» لأن عملاء CIA لم يجدوا ضده أي أدلة تفيد بدخوله في شبكة تجارة الأسلحة في محور الدار البيضاء الرباط و«بور ليوطي».
بعد حسم نتيجة الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء وانهيار النازية في ألمانيا، عاد «ماكس» حسب ما رصده عملاء CIA أواخر سنة 1944 إلى ألمانيا الغربية وكان قد نجح في تكوين ثروة كبيرة مع الفرنسيين في الدار البيضاء، حيث كان يشرف من خلال علاقاته مع شبكات التهريب، على تأمين بواخر لنقل السلع سرا وخارج القانون عبر الدار البيضاء نحو العواصم الأوربية، وكان يقتسم عائدات تلك التجارة مع مسؤولين فرنسيين في المغرب، خلال فترة الحماية.
الثري «بيرديكاريس».. اتهمه صحافيون أمريكيون بادعاء الاختطاف بالمغرب
لا تزال إقامته شامخة إلى اليوم في مدينة طنجة في منطقة تحفها الأشجار من كل جانب وتطل على البحر الأبيض المتوسط وتشرف على المحيط الأطلسي.
جاء هذا الرجل إلى المغرب خلال القرن الماضي، حاملا الجنسية الأمريكية، ومنحدرا من أصول يونانية، وقيل وقتها إنه حول كل ثروته وغادر أمريكا لكي يستقر في مدينة طنجة لأن جوها لاءم حالته الصحية، فاختار أن يستقر بها نهائيا هو وزوجته.
لكن في سنة 1904، سوف يصنع «بيرديكاريس» عناوين الصفحة الأولى للصحف الأمريكية الأكثر انتشارا، عندما وصل خبر اختطافه هو وزوجته على يد الثائر المغربي «الريسولي».
ووقتها تعاطف الرأي العام الأمريكي مع قضيته، حتى أن أحد أبرز المرشحين لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، ويتعلق الأمر بـ«ثيودور روزفلت» كان قد بنى حملته الانتخابية على قضية اختطاف هذا الأمريكي.
وبعد الانتخابات بفترة، اتُهم «بيرديكاريس» في الصحافة الأمريكية بفبركة واقعة اختطافه في المغرب وأنه تلقى أموالا من سياسيين أمريكيين لفبركة التهمة وحصد التعاطف الشعبي وإتاحة الفرصة أمام «ثيودور» لكي يقدم برنامجا انتخابيا للأمريكيين التزم فيه بالعمل على حل أزمة اختطاف المواطن الأمريكي في المغرب إن صوت عليه الأمريكيون لرئاسة البلاد.
المثير في الموضوع، أن بعض الصحف الأمريكية ذهبت بعيدا وقتها وشككت في مصدر ثروة هذا الثري ذي الأصول اليونانية واتهمته بالتهرب الضريبي في الولايات المتحدة والنصب على أسرته وتهريب ثروة العائلة إلى المغرب ليحظى بتقاعد مريح هناك، واتهمته أيضا بتلقي أموال مقابل فبركة قضية الاختطاف. لكن القضية نُسيت مع مرور الوقت، ولم تُحرك أي متابعة ضده كما لم يفتح أي تحقيق في الموضوع، ولو من باب رد الاعتبار وتفنيد تلك الاتهامات، إذ بدا واضحا أن «بيرديكاريس» تمسك بتقاعده المريح في المغرب واعتزال ضجيج الحياة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة وأوربا أيضا. ولا تزال إقامته الفخمة إلى اليوم، دليلا كبيرا على إصرار الرجل على الاستمتاع بحياته والنعيم بالهدوء على ضفة المتوسط.
ومن الأمور غير المعروفة أيضا عن هذا الرجل المثير للجدل، أنه اتهم في بداية القرن الماضي بالتعامل مع المخابرات الأجنبية، بل اتهم بالتعامل مع أكثر من جهاز، وتحويل إقامته إلى مقر لاستقطاب شخصيات أوربية مهمة والتنصت عليهم أو استخراج معلومات منهم، خلال فترة المنافسة بين فرنسا وبريطانيا على احتلال المغرب. وأشيع في أوساط الدبلوماسيين الأجانب، أن «بريديكاريس» يتحمل مصاريف حياته المترفة في طنجة لأنه يتلقى أموالا طائلة من خلال تنظيم حفلات عشاء في قصره الفخم ويوجه دعوة حضورها إلى الشخصيات التي تستهدفها الحكومات المتنافسة على احتلال المغرب، خصوصا في عز حمى التسابق بين فرنسا وبريطانيا سنة 1906 والتي انتهت بعقد مؤتمر الجزيرة الخضراء، ودخول فرنسا بعد ذلك عسكريا إلى المغرب.
كما أنه اتهم بالتقاط صور للبواخر الأجنبية التي تمر من مياه طنجة، وبيعها للحكومات الأوربية حيث وفرت تلك الصور معلومات عن أنشطة الولايات المتحدة في الشرق. لكن شيئا من تلك التهم لم يُثبت بالوثائق، وبدا واضحا أن عددا من الأطراف حملت شخصية «بيرديكاريس» ما لم يُطق.
لغز اختفاء أشهر المطلوبين لدى فرنسا في الرباط بعد 1972
كتبت الصحافة الفرنسية في بداية 1966، مع انطلاق محاكمة المشتبه في تورطهم في ملف اختفاء المهدي بن بركة الذي اختطف في وسط باريس في 29 أكتوبر 1965، أن عددا من الذين أثيرت أسماؤهم في الملف، كان لديهم اتصال بالجنرال المغربي محمد أوفقير.
وكانوا يقصدون بعض المسؤولين الأمنيين الفرنسيين، ووقتها دافعوا عن أنفسهم بالقول إنه كان من الطبيعي أن يكون لديهم اتصال، بصفتهم أمنيين، مع الجنرال أوفقير الذي كان مسؤولا أمنيا وعسكريا بارزا قبل أن يُعين وزيرا للداخلية.
لكن في مقابل هؤلاء، كان ثلاثة فرنسيين، لديهم اتصال أيضا بالجنرال أوفقير، وهي تهمة كالها ضده منتمون لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية خلال نفس الفترة. حيث أكدوا، وعلى رأسهم محمد الحبابي الذي كان أبرز المشرفين على صحيفة «ليبيراسيون» لسان حال حزب بن بركة الناطقة بالفرنسية.
كما أن شخصيات سياسية كانت تعرف أن هؤلاء الفرنسيين دخلوا إلى المغرب بطرق ملتوية ومشبوهة وكانوا يحظون بحماية من الجنرال أوفقير، حيث كانوا يملكون بطريقة غير مفهومة، عقارات وصالونات يلتقي فيها مسؤولون مغاربة بارزون في ذلك الوقت، وتوزعت بين مدينة المحمدية والرباط والدار البيضاء.
هؤلاء الفرنسيون، أثيرت أسماؤهم من طرف السلطات الفرنسية، وذكرت المحكمة أنها تملك سجلات إجرامية حافلة لهم، وأنهم مطلوبون منذ سنوات من طرف الأمن الفرنسي. ويتعلق الأمر بـ«دوباي»، «باليس»، و«بوسيش»، وهو أشهرهم.
هؤلاء المغامرون الفرنسيون كانوا مشهورين في فرنسا بأنهم ينتمون إلى العصابات، وتصدرت صورهم صفحات الجرائد الفرنسية عندما كان مبحوثا عنهم بتهم تتعلق ببيع السلاح غير المرخص، وتنفيذ عمليات اغتيال لصالح عصابات متعددة الجنسيات.
كان صعبا نفي وجود هؤلاء المتهمين في المغرب لأن شهودا كثر أفادوا بأنهم كانوا يرون هؤلاء المتهمين منذ 1962 داخل المغرب، وكانوا معروفين بربط علاقات مع شخصيات مغربية نافذة جعلت عددا من الطامحين نحو الترقي الطبقي والمهني يتقربون منهم لكي يصلوا من خلالهم إلى الجنرال أوفقير أو المقربين منه.
ومع تفجر قضية المهدي بن بركة، كان مستحيلا تجاهل كل تلك الخيوط، وبات هؤلاء الشبان الثلاثة الأكثر شهرة في فرنسا. وألف عنهم صحافيون فرنسيون حكايات كثيرة منها ما هو مبالغ فيه ومنها ما جانب الصواب بالمرة، حيث قيل وقتها في الصحف الفرنسية إن هؤلاء الفرنسيون هم من أسسوا بعض أقسام الأجهزة السرية في المغرب، بينما لم يكونوا في الواقع بذلك النفوذ. وتحدث صحافيون آخرون عن أن الأجهزة السرية في المغرب لجأت إلى خدماتهم لتنفيذ اغتيالات ضد المعارضة داخل المغرب، وتمت مكافأتهم بمبالغ مالية خيالية وعقارات داخل المغرب. لكن صحافيين آخرين طعنوا في تلك الروايات مؤكدين أنه من غير المنطقي أن يلجأ المغرب إلى خدماتهم لتنفيذ اغتيالات في صفوف المعارضين المغاربة داخل المغرب، لكن ضلوعهم في اختفاء المهدي بن بركة كانت تدعمه أدلة من سجلات الشرطة الفرنسية حيث سجل آخر ظهور لهم في فرنسا في نفس وقت تنفيذ عملية اختطاف ابن بركة في وضح النهار. وقيل وقتها إن حضورهم كان ضروريا للتمويه، لأن استدراج ابن بركة لركوب السيارة كان يتطلب وجود أشخاص بملامح ومظهر فرنسي لكسب ثقته واستدراجه.
على كل حال، يبقى هؤلاء الثلاثة، خصوصا وأن فرنسا وضعتهم في لائحة المطلوبين أمنيا، أكثر حالات اختفاء المجرمين الفرنسيين إثارة للجدل، خصوصا وأن أثرهم لم يظهر أبدا إلى اليوم، رغم أن بعض تحقيقات الإنصاف والمصالحة التي أقيمت في المغرب بعد 2003، أكدت وفق روايات متطابقة لمقربين من ملف المهدي بن بركة، أن أثر هؤلاء الفرنسيين فُقد في المغرب مباشرة بعد وفاة الجنرال أوفقير، وأن عددا من المعارضين المغاربة لمحوهم ما بين 1965 و1972 في بعض الأماكن في الرباط، حيث كانوا يعيشون حياة سرية متخفين بعيدا عن الأضواء.
جاكي المجنون.. من جنوب فرنسا إلى التهريب بشمال المغرب
اسمه الحقيقي «جاك إمبير». وهو أحد مشاهير المافيا في فرنسا، حيث وصل إلى شهرته الكبيرة بفضل الكتابات البوليسية التي انتشرت في أوربا، والتي تحدثت عن «إنجازاته»، حيث كان يقيم في جنوب فرنسا، لكن أنشطته وصلت إلى إيطاليا، معقل عائلات «المافيا» الشهيرة التي أنتجت عنها أعمال سينمائية حظيت بشهرة كبيرة في أوربا والولايات المتحدة خلال خمسينيات القرن الماضي.
اشتهر في فرنسا بفضل اهتمام الصحافة الفرنسية بشخصيته، حيث لقبته سنة 1958 بمجنون فرنسا، ولقبته ساخرة بـ«جاكي لوماط» التي تعني المجنون بلهجة أهل جنوب فرنسا، حيث كانوا ينطقون لقبه بطريقة جنوبية مميزة.
كان «جاكي» مدينا بشهرته، رغم ملاحقات الأمن الفرنسي له، إلى الإعلام في فرنسا. حيث اهتمت الجرائد بسيرته وأخباره ومغامراته، وكان يلقب أيضا بـ«مادة البيع» لأن اسمه عندما يتصدر الصفحة الأولى، تضطر الصحف، خصوصا في مدينة تولوز، إلى إعداد طبعة ثانية لتلبية الإقبال الكبير في أوساط سكان المدينة لمتابعة أخبار هذا المغامر، خصوصا عندما يتعلق الأمر بتبادل إطلاق النار مع العصابات أو الفرار من الشرطة.
كانت الطريقة الوحيدة للأمن الفرنسي لكي يتخلص من هذا الشاب المثير للمشاكل، أن يتم إرساله في إطار التجنيد الإجباري خلال الحرب العالمية الثانية إلى ثكنات الجيش الفرنسي في الجزائر. لكنه سرعان ما سوف يثير المشاكل هناك، حيث تعرض 11 مرة للسجن في زنازن الجيش لأنه ضرب رؤساءه وزملاءه وقاد تمردا داخل الثكنة. وهكذا تقرر أن يفصل من الجيش ويقضي عقوبة سجنية في سجن عسكري مشدد الحراسة في الجزائر. ومباشرة بعد إطلاق سراحه، سوف يفر «جاكي» المجنون، إلى المغرب، حيث تنقل بين الدار البيضاء وطنجة، حيث استمر في نشاطه بمجال التهريب، وسجل أرشيف البوليس الفرنسي عملية عنيفة لتبادل إطلاق النار في ميناء الدار البيضاء بسبب حمولة باخرة من مارسليا في نونبر 1958، واتُهم وقتها «جاكي» بالوقوف وراء الحادث، الذي توفي فيه جمركيان صادرا شحنة الباخرة، لكن صعوبة إثبات التهمة ضده، لم تسمح للبوليس باعتقاله في المغرب.
وهكذا عاش لفترة متنقلا بين طنجة معقل أنشطته في التهريب والدار البيضاء، إلى أن قرر العودة إلى فرنسا، حيث سجلت الصحافة الفرنسية أنه نجا بطريقة أسطورية من الموت بعد مباغتته في كمين نصبته له إحدى العصابات وطعنوه بالسكين عدة مرات، لكنه نجا من الموت بأعجوبة وتناقلت الصحف خبر رقوده في المستشفى. واستغرب الأمنيون من الشعبية الكبيرة التي حظي بها جاكي المجنون في أوساط الفرنسيين، إذ بمجرد ما نشرت الصحف خبر رقوده في المصحة، حتى عج مكتب الاستقبال بمئات بطاقات المتمنيات بالشفاء العاجل لرجل العصابات، وباقات الورود التي استحال على الممرضات إدخالها جميعا إلى غرفته، وكان رجال الشرطة المكلفون بحراسة غرفته، يشاهدون بذهول كيف أن أحد أصحاب السوابق وزعماء العصابات الأكثر خطورة في أوربا، يحظى بحب وتقدير المواطنين في جنوب فرنسا كما لو أنه نجم سينمائي. وعلى ذكر السينما، فهناك معلومة بخصوص جاكي المجنون مفادها أنه كان خلال مرحلة شبابه المبكرة يعمل في مجال السينما قبل أن يقرر «التفرغ» للعمل في العصابات والتهريب.
إذ أنه كان يعمل في مجال تنفيذ المشاهد الصعبة لصالح أبطال السينما، وكان يتقاضى تعويضا ماليا عن تعريض حياته للخطر أثناء تنفيذ مشاهد القفز من الأماكن الشاهقة أو الاصطدام بسيارة، مكان أبطال الأفلام.