يروي ابن خلدون في المقدمة أن بهرام الملك كان يوما يمشي مع الموبذان، وهو رئيس الكهنة، في غابة، فسمع صوت بوم فسأله: هل تفسر ما يقول؟ قال: نعم، إنه يخطب ود بومة يبغي نكاحها، وهي تسأله المهر! فتعجب الملك وقال: وماذا طلبت؟ قال الموبذان: إنها سألته خراب قرية؟ فقال لها: يا حبيبتي إنه أمر مقدور عليه، ولئن أطال الله عمر الملك بهرام فلسوف يكون مهرك خراب ألف قرية! أشكل الأمر على الملك فأخذه على جنب، وقال له: أصدقني الخبر ما وراء هذه القصة، فقد رابني فحواها؟ قال الموبذان: أطال الله عمر الملك، إنما قيام الملك بالشريعة، ولا شريعة إلا بالعدل، ولا دولة بدون جند، ولا جند بدون مال، ولا مال بدون من يعمر ويدفع، ولا عمارة بدون أمن، ولا أمن بدون عدل. وهكذا فالعدل هو أصل الملك، وبه يقوم ومنه يتغذى وعليه يعيش. واعلم أيها الملك أن من حولك قد أكلوا الأخضر واليابس وانتفخوا رشوة ونبت لحمهم من السحت، وروعوا العباد بالمكوس والضرائب، وجلدوا ظهور الناس بالظلم فكسلوا عن العمل وقصروا عن الدفع، واكتفوا بما في أيديهم يعيشون به، فالبلد يخرب والفساد يستشري، مثل النار في غابة جافة يوم صيف قائظ. فانظر في أمر المملكة. تقول الرواية إن الملك بدأ بإصلاح أمور الرعية، فانتشر العدل وتدفق المال وحسنت العمارة وقويت الدولة. ومعنى هذه القصة في وقتنا الحاضر، أن هناك ثلاث حلقات آخذ بعضها برقاب بعضها على نحو جدلي من التأثر والتأثير، وهي: العدل – الأمن ـ الحريات. فبقدر العدل بقدر أمن الناس، وبقدر الأمن بقدر اتساع هامش الحريات. وأمريكا أبدل الله أمنها خوفا، وضاق فيها هامش الحريات وتتحول إلى دولة بوليسية، وتطلب خبرة مخابرات العالم الثالث في قمع الشعوب والتجسس على العباد. كل ذلك بسبب سياسة الظلم الذي تمارسه في العالم، فهي تساند إسرائيل بدون حدود، وتوزع أكثر من ستين قاعدة في العالم، وتتحول إلى قوة استعمارية. ويعيد التاريخ نفسه في دورة مشؤومة، فأمريكا التي كافحت في يوم من أجل الاستقلال، يكافح ضدها من يريد الاستقلال، وهي دورة تاريخية تدعو للضحك والتأمل. فمن يكافح للتحرر فيصل إليه ينقلب مع الوقت إلى متسلط ظالم. وأتباع الأنبياء شقوا طريقهم لفكرة جديدة ضد فكرة قديمة، ولكن مع الوقت طال عليهم العمر فقست قلوبهم، لينقلبوا فيحتلوا دور من حاربهم من قبل، فيحاربوا الفكر الجديد ويقولوا: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. وفي فلسطين تنقلب الأدوار بعد مرور ثلاثة آلاف سنة، فيأخذ الأطفال دور داوود، فيضربون جالوت التنين النووي بالحجارة بمرقاع. ومحمد صلى الله عليه وسلم اتهم بأنه مرتد، وبأنه ساحر وكاهن تربصوا به ريب المنون. والإيمان والكفر يدخلان هذه المعادلة. فالقرية التي كان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وهذا يضيف بعدا جديدا على مثلث المعادلة، وهو أن العدل يقود إلى الأمن الذي يوسع هامش الحريات فيطلق الطاقة الإبداعية عند الناس، فيتحقق مجتمع الضمانات والرفاهية. وهي جوهر مشكلة الحضارة. لأن الحضارة تعني توفر الضمانات، حسب تعبيرات مالك بن نبي. والحضارة تعني أن البشر يعبدون رب هذا البيت الذي يطعمهم من جوع ويأمنهم من خوف. واليوم يتقلص هامش الحريات في كل العالم بسبب الخوف، والخوف مصدره الإرهاب، والإرهاب مصدره تراجع العدل في العالم. فواحد في المائة من الناس في العالم يملكون 56 في المائة مما يملكه الأنام، و20 في المائة من الجنس البشري من دول الشمال من الجنس الأبيض، يأكلون 80 في المائة من خيرات العالم بأشد من النمل الأبيض. وإنتاج «أوبك» من البترول يزيد على 20 مليون برميل يوميا، ولكن استهلاك أمريكا من النفط اليومي يزيد على 10 ملايين برميل. وهو يفسر هذا الشره لالتهام العراق و«الأوبك» وبحر قزوين، وهي أشد من شراهة الجرذ حينما يرى قطعة الجبن في المصيدة. وسوف تقع أمريكا في المصيدة مثل الجرذ الشره، سنة الله في عباده وخسر هنالك الكافرون. وعندما رسمت مجلة «دير شبيغل» الألمانية خريطة العالم بنسبة استهلاك النفط، ظهرت إسبانيا أكبر من قارة إفريقيا، وارتسمت أمريكا على شكل عملاق يتربع سقف العالم، أمام أقزام مختفية في أسفل الخارطة. وعندما رسم جاك أتالييه، مساعد الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران، في كتابه «أفق المستقبل»، حذر من خمسة مخاطر هي التلوث والتلاعب بالجينات والمخدرات والسلاح النووي، ولكن أخطر الخمسة، كان انشقاق العالم إلى شمال غني وجنوب فقير. ولكن قدر التاريخ أن البشر لا يتعلمون إلا بالعذاب الأليم. والقوى العظمى تأتي وتذهب، وما عند الله خير وأبقى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
خالص جلبي