شوف تشوف

الرأي

مثلث العدل ـ الأمن ـ الحريات

بقلم: خالص جلبي

بقدر العدل بقدر أمن الناس، وبقدر الأمن بقدر اتساع هامش الحريات. وأمريكا أبدل الله أمنها خوفا، وضاق فيها هامش الحريات، وتحولت إلى دولة بوليسية، تطلب معونة مخابرات جمهوريات الخوف والبطالة من العالم الثالث، في قمع الشعوب، والتجسس على العباد، كما رأينا في قصة «ماهر عرار»، الكندي من أصل سوري، وتسليمه إلى بلده للتعذيب. كل ذلك بسبب سياسة الظلم التي تمارسها في العالم، فهي تساند إسرائيل بدون حدود، ولها أكثر من ستين قاعدة في العالم، حسب إحصائيات مجلة «دير شبيغل» الألمانية، وتتحول إلى قوة استعمارية. ويعيد التاريخ نفسه في دورة مشؤومة؛ فأمريكا التي كافحت في يوم من أجل الاستقلال، يكافح ضدها اليوم من يريد الاستقلال، وهي دورة تاريخية تدعو للضحك والتأمل، ولكن كما يقول «أرسطو»: «المأساة تراجيديا لمن يحس وكوميديا لمن يفكر». وفي فلسطين تنقلب الأدوار بعد مرور ثلاثة آلاف سنة؛ فيأخذ الأطفال دور داوود، فيضربوا جالوت التنين النووي بالحجارة، كما فعل داوود من قبل، وقتل داوود جالوت بمرقاع وآتاه الله الملك والحكمة. والإيمان والكفر يدخلان هذه المعادلة؛ فالقرية التي كانت يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وهذا يضيف بعدا جديدا على مثلث المعادلة، وهو أن العدل يقود إلى الأمن، وأن الأمن يوسع هامش الحريات؛ فيطلق الطاقة الإبداعية عند الناس، فيتحقق مجتمع الضمانات والرفاهية.
وهذه الفكرة هي جوهر مشكلة الحضارة؛ لأن الحضارة تعني توفير الضمانات لمن يعيش في ظلها من الأنام والطير والحيوانات، حسب تعبيرات مالك بن نبي. والحضارة تعني أن البشر يعبدوا رب هذا البيت، فيطعمهم من جوع ويأمنهم من خوف. واليوم يتقلص هامش الحريات في كل العالم، بسبب الخوف، والخوف مصدره الإرهاب، والإرهاب أحد أسبابه التمرد على الظلم، والظلم خلفه تراجع العدل في العالم؛ فواحد في المائة من الناس في العالم يملكون 56 في المائة مما يملكه الأنام، و20 في المائة من الجنس البشري من دول الشمال من الجنس الأبيض يأكلون 80 في المائة من خيرات العالم، بأشد من النمل الأبيض للعسل الأسود. وإنتاج «أوبك» من البترول يزيد على 80 مليون برميل يوميا، ولكن استهلاك أمريكا من النفط اليومي يزيد على 20 مليون برميل. وهو يفسر هذا الشره لالتهام العراق ووسط آسيا وبحر قزوين وأذربيجان وقرقيزيا وتركمانستان، وتنصيب أصنام حية من أبناء المسلمين، اسمها محمدوف وكريموف وقاديروف، يصفق لها الحزبيون بأشد من قرود جائعة في استقبال موز ناضج، أو شراهة الجرذ، حينما يشم رائحة الجبن في المصيدة. وسوف تقع أمريكا في المصيدة، مثل الجرذ الشره، سنة الله في عباده وخسر هنالك المبطلون. وقصص مثل انهيار أسواق العقارات بالغش والاحتيال، والأزمة الدورية للاقتصاد الأمريكي، ومرض الدولار المزمن وانحداره بدون توقف، كلها مؤشرات الانحطاط الأمريكي، كما تنبأ بها الأمريكي «باول كينيدي»، في كتابه الموسوم «صعود وسقوط القوى العظمى». وعندما رسمت مجلة «دير شبيغل» الألمانية خريطة العالم بنسبة استهلاك النفط، ظهرت إسبانيا أكبر من قارة إفريقيا، وارتسمت أمريكا على شكل عملاق يتربع سقف العالم، أمام أقزام مختفية في أسفل الخريطة. وحذر «جاك أتاليي»، مساعد الرئيس الفرنسي الأسبق «ميتران»، في كتابه «آفاق المستقبل»، من خمسة مخاطر: هي (التلوث البيئي) و(التلاعب بالجينات) و(المخدرات) و(السلاح النووي)، ولكن أخطر الخمسة إطلاقا هو انشقاق العالم إلى شمال غني وجنوب فقير. ويمضي قدر التاريخ أن البشر لا يتعلمون إلا بالعذاب الأليم. والقوى العظمى تأتي وتذهب، «ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون». هكذا يسقيهم الله من العذاب صبا فإما رجعوا، وأما دمرهم تدميرا، فلا يبق منهم سوى بئر معطلة، وقصر مشيد.
لا يُوُثَقُ بالإنسان لأن في جبلته الاستعداد للطغيان مع كل امتلاك، ما لم توجد ضوابط ومراقبة، والقليل من السلطة تعني القليل من الفساد، وسلطة مطلقة تعني فسادا مطلقا كما قال اللورد أكتون، وإن الانسان لظلوم كفار. وهذه الحقيقة موجودة في (الفيزياء) كما هي في علم (الاجتماع)، فإذا ضغط الغاز تحولت الكمية الهائلة منه إلى قطرات من سائل، وإذا سمح لجزيئات بسيطة من عطر أن تخرج من عنق زجاجة، فعلت كما فعل جني المصباح فانتشرت في جنبات الغرفة جميعا، مهما كانت الصالة رحبة. وكذلك في امتلاك مفاتيح القوة الاجتماعية، فأي شخص منا يجلس في داخله الفرعون «رمسيس الثاني»، الذي حكم 90 سنة وقتل من الناس ما لا يحصيه عدد، وتزوج عشرات النساء وأنجب أكثر من مائة طفل، وزوّر أسماء الفراعنة الذين سبقوه، فمسح أسماءهم وكتب اسمه على النصب والتماثيل. وما يضبطنا هو نفس قانون انتشار الغازات، فكلما انفسح المجال أمامها انتشرت، وكذلك في وضع اليد على السلطان. ويمكن لأي فرّاش أو خادم أو عسس في أي دائرة أن يتحول إلى فرعون، بشرط واحد امتلاكه مفاتيح القوة بدون كوابح. ويمكن لأي مدير في أي دائرة أن ينقلب إلى طاغية يذيق الموظفين أشد البلاء والعنت، بشرط واحد هو امتلاكه مفاتيح القوة، بدون مراقبة ومحاسبة. ويمكن لأي شرطي أن يصبح ديكتاتورا كما فعل نورييغا، حاكم بنما الأسبق، وكل ما يحتاجه هو وضع يده على السلاح والجيش. ولا يمنح الإنسان الاعتدال، والمجتمع العدل إلا (المعارضة)، ولذا كانت المعارضة شرطا للاتزان وتحقيق العدالة. وأي معارضة مسلحة تنتزع القوة من الطاغية بالقوة فتجلس محله، تعيد كارثة ستالين، فتحل القوة الجديدة محل القديمة ويتكرر المرض على نحو أسوأ كما في الانقلابات العسكرية الثورية في العالم العربي؛ التي أطلقت شعار (الوحدة ـ الحرية ـ الاشتراكية)، فلم تجلب (وحدة)، بل كارثة وشرذمة وهزائم وحروبا طائفية. ولم تجلب كلمة (حرية)، إلا استبدادا ونهبا وذلا مقيمين. ولم تجلب كلمة (اشتراكية) عدلا، بل فقرا وخزيا وإقطاعيات للرفاق الجدد.

نافذة:

اليوم يتقلص هامش الحريات في كل العالم بسبب الخوف والخوف مصدره الإرهاب والإرهاب أحد أسبابه التمرد على الظلم والظلم خلفه تراجع العدل في العالم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى