متاهات العقل الأسطوري
مع كتابة هذه الأسطر في أبريل 2020م تضرب جائحة (كورونا) العالم من أقصاه لأقصاه، وجاء التعليل أن الله غضب على البشر فهو في مزاج معكر من معاصي العباد! وهذا يدفعني إلى وضع هذه العقلية تحت التحليل لفائدة القراء، وفي هذا الصدد أذكر أنه جاءني في النت ما يلي: (توفيت بشكل مفاجئ، بعد ظهر يوم الخميس 24 يوليوز 2014، الصحفية المصرية عزة سامي، نائبة رئيس تحرير جريدة «الأهرام» المصرية، وذلك بعد أقل من أسبوعين، على توجيهها شكرا علنيا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بسبب قراره ضرب قطاع غزة، وقصف الأطفال الفلسطينيين، والقضاء على حركة حماس، كما توفي الصحفي عبد الله كمال، بعد أسبوعين فقط على سؤاله: لمن الحكم اليوم؟ في تولية السيسي..).
أذكر أنني كنت يوما ضيفا في قناة سعودية؛ فسألني مقدم البرنامج عن بركان أيسلندا، أن هناك من يفسره على أنه غضب من الله عليهم، فتعجبت كيف أن هذا الغضب نزل أيضا على الصالحين المساكين في تركيا وإيران وأندونيسيا من المسلمين. ثم إن بشار البراميلي قتل من السوريين أكثر من ربع مليون، وحبس نصف مليون، وهجر عشرة ملايين، وما زال في عزة وشقاق. سيقولون الله يمهله. لماذا إذن أسرع بقبض روح الصحفية المصرية؟ أم أنه ذو نزوات فلا تفهم تصرفاته؟ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. كذلك ما سمعت وقرأت عن واعظ مغربي حاول أن يربط بين زلزال الحسيمة والناظور وعدم لبس الحجاب، ولم نسمع عن حدوث براكين وزلازل في مواخير باريس ومونتريال ومونت كارلو وليشتنشتاين. بالطبع يحاول الوعاظ السخفاء من هذا النوع أن يجدوا رابطا سببيا بين التسونامي والفساد، أو الدعارة والتراجع، ولكن القرآن يشرح لنا أن الاستقامة في الحياة هي التي تنعش المجتمعات (ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا). فلو تم تنظيف المجتمع من (الشفارة = اللصوص والفاسدين)، وقصت أياديهم على طريقة تايوان (تنظيف الدرج من فوق لتحت)، لتقدم المجتمع وقفز من الثالث إلى الأول، كما قال ذلك رئيس وزرائهم (لي كوان يو) وكتب كتابا ضخما فيه. وحين حصلت نكبة الطوفان في جدة (أمطار تحدث بشكل شبه يومي في ألمانيا وكندا) ضحوا بالصغار وبقي الكبار في مقاعدهم لا يتزحزحون. وهكذا تبقى الأمور بدون إصلاح جذري فيضحى بالصغار ويبقى العتاعيت الكبار في مناصبهم وامتيازاتهم، وتستمر الأحوال في السوء وتتكرر النكبة كل حين. كان رسول الرحمة (ص) يكرر أنه سيقطع يدي الشريف قبل الفقير لو سرق، ومن وسط نظيف مثل هذا ينطلق المجتمع لتشكيل الحضارة، أما نحن فخسفت بنا الأرض إلى أجل غير مسمى، فهذا هو المسخ والنكس والنسف والزلزال والبركان، وليس بتلك التفاسير الغبية الأسطورية التي لا تلمس المسألة، بل تخدر العقل في متاهات الضياع وضباب الأسطورة.
إن العقل الأسطوري عنده استعداد أن يدخل الكون في تناقض، على أن يشغل عقله لفهم قوانين الكون ومنها قوانين البيولوجيا، ومنها قوانين الموت.
يذكر المؤرخ (ويل ديورانت) أن شبيها من هذا حصل في زلزال لشبونة عام 1855م، على الساعة التاسعة صباحا، والناس في الكنيسة يصلون في يوم الأحد، يوم عيد القديسين، فزلزلت الأرض زلزالها وهبطت الكنائس على رؤوس العباد، وهلك من الناس ثلاثون ألفا. فهلل أهل المغرب لانتقام الرب من الكفار، وفرح البيورتانيون في بوسطن بموت الكاثوليك، فلحقهم الرب بالزلزال والموت، في أقل من أسبوعين، فهبط الجامع على رؤوس المسلمين بالرباط فقتل من قتل، ثم لحق الزلزال أهل بوسطن على حافة الأطلنطي الأخرى فهلك من العباد الكثير، وعلق فولتير على الحادث فقال من يرقص في الحانات ويعربد ينجو ومن يصلي يهلك، فما هذا الرب؟
وفي القرآن أن كل نفس ذائقة الموت، وأنه لا تدري نفس بأي أرض تموت وبأي علة، وبأن الصالحين والفاسدين، والقتلة والمجرمين، والقديسين والأنبياء، يموتون مثل كل البشر على وجه الأرض بقانون واحد.
وللتحقق من سبب الوفاة يلجأ الأطباء الشرعيون أحيانا إلى نبش القبور، واستخراج الجثث، وإعادة فحصها من جديد، كما حصل يوما في فرنسا في القرن التاسع عشر، حين اتهمت سيدة بتسميم زوجها الثري، وكانت طرق فحص السموم بدائية، ولكن طبيبا ومخبريا بارعا استطاع أن يصل إلى الحقيقة، ويودع السيدة السجن. فلحقت بعد فترة قصيرة بزوجها إلى المقبرة.
وفي قناة (ناشيونال جيوغرافي) عرض فيلم عجيب، عن طبيب أتقن فن الإجرام، وكان مولعا بقتل ضحاياه من المرضى بطريقة سرية عجيبة ومنوعة، وهو الطبيب الذي يعرف السموم والمواد القاتلة جيدا؛ من الأنسولين والمخدرات والمنومات والمواد الشالة للعضلات والتنفس. وحين تكاثرت جرائمه حتى لفتت نظر من حوله، حين أراد أن يسمم دفعة واحدة عددا من زملائه الأطباء، فانكشف أمره وبدأت مطاردته. وكانت أعجب الوقائع حين واجه المحققون معضلة ليست سهلة الحل، بموت مريض تأكدوا من قتله على يد الطبيب المذكور، ولكن كيف وليس ثمة أثر؟ كان الخبيث قد استخدم مادة تشل عضلات المريض وتنفسه فيموت اختناقا في دقائق، ولا يبق أي أثر للمادة في الدم. عصر المحققون والخبراء أدمغتهم للوصول إلى أثر هذه المادة (أسيتيل كولين) التي يستعملها المخدرون؛ فالتخدير كما نعلم هو ثلاثة أشكال: التنويم مثل الدورميكوم+ مزيل الألم مثل المورفين + شال العضلات (أسيتيل كولين ومركبات الكورار) وقد يقع الخطأ في التخدير وهو ما روته سيدة تقتلع عينها بسبب ورم خبيث، كانت مشلولة لا تملك قدرة الحركة، ولكنها كانت تشعر بالألم فتصوروا. بحث الخبراء عن أثر السم في جسم المريض المقتول، ليعثروا على بقاياه أين؟ وجدوها في الكلى!
نافذة:
كان رسول الرحمة (ص) يكرر أنه سيقطع يدي الشريف قبل الفقير لو سرق، ومن وسط نظيف مثل هذا ينطلق المجتمع لتشكيل الحضارة، أما نحن فخسفت بنا الأرض إلى أجل غير مسمى، فهذا هو المسخ والنكس والنسف والزلزال والبركان، وليس بتلك التفاسير الغبية الأسطورية التي لا تلمس المسألة، بل تخدر العقل في متاهات الضياع وضباب الأسطورة