متاعب المخلوقات البشرية في ظل الدولة
بقلم: خالص جلبي
يرى الفيلسوف (بيرتراند راسل) في كتابه «السلطان»: «تجد المخلوقات البشرية أن من المجدي لها أن تعيش في جماعات، ولكن رغباتها خلافا لرغبات النحل تظل فردية إلى حد كبير، ومن هنا تنشأ المتاعب في الحياة الاجتماعية والحاجة الماسة إلى قيام حكومة، إذ بدونها لا تستطيع إلا نسبة صغيرة من السكان في البلاد المتحضرة أن تأمل في البقاء، وأن يكون بقاؤها في وضع من العدم يدعو إلى الإشفاق. ولكنها تنطوي على عدم تكافؤ في السلطان، إذ إن من يملكون أكثره يستخدمونه لتحقيق رغباتهم التي تتعارض مع رغبات المواطنين العاديين. وهكذا فإن الفوضى والطغيان يتشابهان في نتائجهما المدمرة، ومن الضروري العثور على نوع من التفاهم على حل وسط، إذا أريد للمخلوقات البشرية أن تنعم بالسعادة».
ويذهب (علي الوردي) في موسوعته عن المجتمع العراقي تحت عنوان «الطبيعة البشرية»، أن مشكلة الدولة أنها استطاعت باحتكار العنف أن تضمن (أمن الأفراد)، ولكن المشكلة أن الأرض فيها العديد من الدول ولا يوجد دولة عليا تضمن (أمن الدول) بين بعضها البعض، كما فعلت الدولة بين الأفراد. وهذا هو سر اندلاع الحروب في التاريخ، فالحرب هي ظاهرة اصطدام مربعات الدول أو مرافقة لتفكك الدول في الحروب الأهلية. إن الفرد لا يستطيع أن يعيش بدون مجتمع، بل لا يصبح فردا إنسانيا بدونه. وحسب معادلات المفكر (مالك بن نبي)، فالإنسان يولد كقطعة لحم ومادة خام، ولكن تشكيله الثقافي يرجع إلى عمل المجتمع على الفرد. وهكذا فالإنسان له معادلتان، الأولى (بيولوجية) ولا يختلف في هذا إنسان عن آخر، سواء في كندا أو رواندا، ولكن المجتمع هو الذي يصنع هذه المادة الخام فيصبح (كائنا اجتماعيا) ينطق ويحسن التصرف، وهذا يفسر طول فترة الطفولة عند الإنسان، لأنه يختزل تجارب الإنسانية خلال خمسة ملايين سنة مضغوطة في خمس سنوات. بكلمة مختصرة لولا المجتمع لا نصبح بشرا أسوياء. ظهر هذا واضحا في العديد من الاكتشافات الأنثروبولوجية كما في صبي غابة أفيرون الوحشي، عندما عثر على إنسان في فرنسا عاش بين الحيوانات فلم يتطور قط وكان أقرب إلى الحيوان بما فيها عجزه عن النطق، ولكن المصيبة أن كل محاولة تأهيله للحضارة فشلت في مؤشر خطير جدا أن سنوات الطفل الأولى حاسمة في قلبه إلى إنسان، ورفعه من المملكة الحيوانية وإدخاله الحياة الاجتماعية. ومن هنا يظهر خطأ الفيسلوف (ابن طفيل) في قصة (حي بن يقظان)، الذي وصل لوحده بدون أي اتصال اجتماعي على جزيرة منفردة إلى كل المعارف العقلية. الدولة إذاً ضرورة ومصيبة، وكل الأنظمة السياسية هي محاولات لإيجاد صياغة ناجحة بين فردية الإنسان والانضباط الاجتماعي. ومع ولادة الدولة يولد أخطر مرضين على الإطلاق: الطغيان الداخلي وبرمجة الحروب. يقول (بيير فيو) عن أثر سقوط تفاحة السلطة في يد البعض وبرمجة العنف في المجتمع: «يغدق المسؤولون على أنفسهم أو يوزعوا على زبانيتهم من أصدقاء ومعاونين امتيازات لا تبررها أي خدمة أسديت للمجتمع. وعندما تصل هذه المخالفات درجة من الخطورة والاستمرار والاتساع، وتمس حقوق معظم الناس الأساسية لصالح قلة من أصحاب الامتيازات، ينشأ وضع عنف. فحتى لو استسلمت الجماهير أو عجزت وتابع النظام القائم استمراره، فإن عناصر الانفجار باتت مجتمعة». إن العنف في الثورة الفرنسية انطلق من تصور مفهوم حماية المواطن الصالح كما عبر روبسبير: «أن الحكومة الثورية ملزمة بتوفير الحماية الوطنية للمواطنين الصالحين، أما أعداء الشعب فليس لهم إلا الموت». أما الماركسية فرأت في العنف وسيلة وحيدة لهدم البنى القديمة، كما جاء في البيان الشيوعي وطبقه ستالين بموت عشرين مليون إنسان. ونحن نعلم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أقام النظام السياسي ولم يمت إلا امرأة ورجل، وكان (ص) يأمرهم بالصبر في عملية التحول الاجتماعي، فهذا هو الفرق في كيفية بناء الدولة عند الأنبياء وعند غيرهم. إن أهمية ولادة الإنسان الذي لا يؤمن بالعنف وسيلة لتغيير النظام السياسي أمران على غاية من الأهمية: التغيير السلمي الداخلي، والمحافظة عليه من الانحراف بالآلية السلمية نفسها في التصحيح. إن مشكلة العنف هي في قلب البدايات كما عبر الشاعر الألماني (غوته): «في البدء كان الفعل»، في الوقت الذي ابتدأ الإنجيل بالكلمة (في البدء كانت الكلمة)، أي (اللوغوس)، وأول كلمة نزلت في القرآن كانت (اقرأ). ومن هنا فإن أعظم الأضداد الإنسانية في الوجود هي (اللوغوس) مقابل (العنف). وكما يقول (ب.ريكور): «إن القول والعنف هما أعظم الأضداد الإنسانية في الوجود الإنساني، وإن تأكيد ذلك باستمرار هو الشرط الوحيد لاكتشاف العنف في مكمنه». إن لب دعوة الأنبياء في التاريخ كانت اجتماعية، وعندما أكد القرآن على مفهوم (السنة)، كان يريد منها ليس القانون الفيزيائي، بل (السنة النفسية الاجتماعية). ومشكلة مواجهة الدولة لتغيير طبيعة العنف فيها هي مزدوجة أيضا بالحد من طغيانها الداخلي، بحيث تكون وظيفتها في تأمين جرعة مكافئة من العنف لضمان (أمن الأفراد)، كما تفعل مؤسسة الدفاع المدني لإطفاء الحرائق. كما أن البناء السلمي لها يجعلها لا تخوض حروب الجوار والتوسع أو تقبلها للاستعباد. إن دعوة اللاعنف تزداد ثباتا مع الأيام، واليوم توقف الشمال عن خوض الحروب إلا ضد السيكوباثيين من الطغاة. وهم مع كل امتلاكهم تقنيات الأسلحة لا يعمدون إلى حل مشاكلهم بالسلاح والحرب، بل بالحوار، أي إعادة تفعيل اللوغوس. وأمام هذا اللون من التحليل، فإننا مدعوون لتشكيل هذا التيار في العالم العربي، فلا يمكن للديمقراطية أن تشرق شمسها عندنا بدون انقلاب في محاور دوران الفكر. وحتى يحصل هذا فلا يشترط تغير كامل المجتمع، بل يكفي أن تتغير شريحة 10 في المائة من الناس تؤمن وتمارس الكفاح السلمي.