مبنى أبيض ووباء أسود
جهاد بريكي
من مستشفى كبير كالذي أقضي فيه أغلب ساعات يومي يكاد يكون وقع هذه الجائحة أشبه بكابوس لا هرب منه، مستشفى يحج إليه المرضى من مختلف زوايا البلد يبحثون عن أساتذة مخضرمين ممن ابيضت خصل شعرهم داخل أروقة هذه المتاهة بين أنين المرضى وضجر ذويهم. كأطر صحية نفهم جيدا ما معنى تفاقم الحالة الوبائية، ونعرف جيدا ما يعنيه ارتفاع الأعداد كل يوم، الإصابات والوفيات، ونفهم جيدا نظرة الرعب التي تغشى وجه الناطق باسم الوزارة الذي يظهر على شاشة أخبار يحذر من صعوبة الوضع وخطورة العدوى.
نتناقل بيننا أخبار عدد الحالات المتوافدة على مصالح الإنعاش، أوضاعها، وعدد الوفيات. نوشوش بيننا آخر القرارات الجديدة، والإشاعات المنتشرة والاحتياطات الواجبة والمصالح التي أغلقت أبوابها لتخصص لمرضى الجائحة، والأطر التي تم استدعاؤها لترك أماكنها ومرضاها والالتحاق بأسرة مرضى الوباء.
كما يفهم طبيب خطورة حالة مريضه من خلال نتائج التحاليل والفحوصات، نفهم جيدا أن الحياة في هذه الظروف لن تكون طبيعية مثل سابق عهدها، سواء حياة المرضى، مصابي الفيروس وغيرهم، أو حياة الأطباء والممرضين ثم مصير أي شخص له صلة بهذا المبنى الأبيض الواقف في قلب المدينة يشهد قسوة الأجساد عندما تقرر قهر أصحابها.
يتساقط حماة المبنى الأبيض تباعا، ممرض تليه ممرضة ثم حارس البوابة ثم طبيب التخدير ثم سيدة تطبع الفواتير ثم طبيبة داخلية رقيقة كنجمة ربيع خجولة بدأت للتو مشوار وحش غابة لا يعرف الوسن، ثم أستاذ الجراحة الذي قضى شبابه وكهولته وبداية شيخوخته داخل مركب أزرق حتى كاد ينسى صوت طائر يتراقص فوق شعاع شمس مارس. لوهلة تحس أنك في حرب عصابات، يسقط حلفاؤك دون أن تعرف من أين أتت الطلقة، وتنتظرها أنت في كل ثانية ومع كل نفس.
الوضع المتفاقم يعني أطفالا تلغى عطلهم ثم يتوقفون عن انتظار أمهاتهم وآبائهم مساء لمتابعة مسلسلهم المفضل، أطفال يعرفون أن الوباء يعني انتقالهم إلى بيوت جداتهم أو أعمامهم لأن بيوتهم لم تعد آمنة، فأهلهم الذين يقضون ساعات طويلة رفقة حاملي الفيروس يمكن أن يشكلوا خطرا عليهم. أطفال لا يفهمون الواجب ولا يستوعبون فكرة حرمانهم من عطلهم ومسابحهم ومن مجالسة ومعانقة آبائهم لأن وباء انتشر يجتث الناس من سلامهم وعافيتهم.
تفاقم الوضع يعني أن تؤجل كل مخططاتك، رحلاتك، لقاءاتك. أن تعتذر عن الحضور، عن المواعد، عن الدعوات. أن تتجنب زيارة أمك وأبيك وإخوتك، لأنك قنبلة موقوتة قد تحمل معها العدوى أينما حلت دون أن تنتبه. أن تصاب برهاب نقل الموت، لمن تحب.
تفاقم الوضع نعيشه في المستشفى على أعصاب من نار، واجبنا الدائم حماية أنفسنا ومرضانا في مبنى يتوافد عليه أحباء المصابين وأصحابهم دون تأخير، معتقدين أن تواجدهم المكثف دليل على محبة صادقة واستعداد لبدل الغالي والرخيص، في حين أن ذلك لا يعدو أن يكون خطرا مضاعفا على الجميع. تفاقم الوضع يعني تأخر علاج المرضى الاعتياديين، فامتلاء المصالح بضحايا الوباء واستدعاء الطواقم وتفشي العدوى بينهم يجعل المواعد تتأخر والحياة تتأخر، والمرض يستفحل والعجز يتقدم. تفاقم الوضع يعني اللا استقرار واللا أمان، لا تعرف أين ستصبح وأين ستعمل وبماذا ستصاب وأين سينتهي بك المطاف.
كنت أعتزم كتابة مقال عن موضوع آخر مختلف تماما، وبينما أنا جالسة أفكر في كيفيه معالجته وإنهائه انتبهت لذهول الممرضة أمامي، تشرد أكثر مما تتنفس. تخبرني أن الوضع لا يطمئن وقد يتم استدعاؤهم في أية لحظة لتمريض مصابي الفيروس، ثم تنظر نحو الأرض وتتذكر هلع فتياتها عندما اضطرت لتركهن عند جدتهن لثلاثة أشهر متتالية دون رؤيتهن خلال الموجة الأولى، وكيف اجتاحتهن الكوابيس وهزلت أجسادهن لامتناعهن عن تناول الطعام إلى حين عودة أم وأب قررا الرحيل لتلبية الواجب. إحداهما همست لأمها في أذنها بعد أن التم شملهم قائلة: هذه آخر مرة تتركيننا فيها، نحن بناتك إذا كنت قد نسيت ذلك. ثم لم أجد أمرا أسيل فيه مدادي بأفضل ولا أهم من هذا.
أظن أنه من الأسلم لنا جميعا أن نكون أكثر وعيا وأرشد سلوكا دون تحامل أو عناد صبياني بئيس. نحمي أنفسنا وغيرنا ونجنب الجميع تعاسة لا وقت ولا جهد لها.