شوف تشوف

الرأي

مبدأ المساواة في النطاق القانوني- السياسي

عبد الإله بلقزيز

فكرة المساواة هي ما أسس للفكرة الجمهورية في الفكر السياسي الحديث وفي النظام السياسي الحديث. وهي نفسها ثمرة لفكرة السيادة الشعبية التي عليها مبنى الدولة الحديثة.
إذا كان الشعب مصدر السلطة وصاحب السيادة، في هذا المنظور الجمهوري الناهل من فلسفة جان جاك روسو؛ وإذا كانت السلطة في الدولة تدار بتفويض من صاحبها (الشعب)، وكانت القوانين تسن بآلية تشريع تعبر عن الإرادة العامة، فإن الإرادة العامة هذه لا تكون كذلك، أي عامة، إلا متى أتت حصيلة إرادات متساوية. إذن، المساواة مبدأ لا محيد عنه لقيام نظام معبر، فعلا، عن مبدأ السيادة الشعبية.
ما من تجسيد مادي أعلى لمبدأ المساواة مما هو في القانون. القانون، في الهندسة السياسية الحديثة، هو التعبير المطابق عن مبدأ السيادة الشعبية الذي تقوم عليه الدولة الحديثة؛ ففيه تتمثل الإرادة العامة، التي هي وجه آخر للمساواة بين مواطني الدولة. ولذلك، فالقانون أعلى سلطة في الدولة، ومنه تستمد سائر سلطات الدولة مشروعيتها بما فيها سلطة رئيس الدولة في النظام الرئاسي التنفيذي. ولأنه لا سلطة تعلو على سلطة القانون عُرفتِ الدولة الحديثة بأنها دولة القانون.
أما أن يكون مبدأ المساواة مجسدا في القانون، فمعناه أن لا دليل على وجوده كمبدأ إلا ما يقوم عليه دليل من القانون؛ فلقد يكون لفظيا، صوريا يراد به الاستهلاك والتلميع إن لم يضمنه قانون وقوانين الدولة الحديثة الأسمى (= الدساتير) تنص، في العادة، على أن المواطنين متساوون أمام القانون، وأن القانون يضمن – في أحكامه – حقوقهم في التمتع بالفرص عينها التي يمنحها، وأنْ لا فارق عنده بينهم – في الدين والعرق والأصول – ما داموا مشدودين إلى الدولة وسيادتها وقوانينها برابطة الولاء التي منها تتولد حقوق المواطنة. والدولة التي من هذا الجنس لا يمكنها غير أن تحيط مبدأ المساواة بالضمانات الدستورية والقانونية التي تحول المبدأَ إلى سياسات مطبقة وواقع مادي.
مع ذلك؛ مع أن مبدأ المساواة نُص عليه، دستوريا وقانونيا، منذ الثورة الفرنسية بقي، في الأعم الأغلب، غير مطبق في ميدان الحقوق السياسية كافة. الشاهد على ذلك مثالان سياسيان حديثان كشفا عن محدودية العمل به؛ وهُمَا يتعلقان معا بالحق في التصويت (الانتخابي) وفي التمثيل:
ظل الحق في التصويت وفي الترشيح للبرلمانات، في الديمقراطيات الأوروبية والأمريكية حقا خاصا محصورا في الفئات الاجتماعية المالكة للثورة ووسائل الإنتاج، وليس حقا عموميا للمواطنين كافة، لفترة طويلة امتدت إلى أوائل القرن العشرين. وَقَع هذا الحيف تجاه غالبية طبقات المجتمع (عمال، فلاحون، حرفيون…) على الرغم من النص الدستوري – الدائم – على مبدأ المساواة.
وإذا كانت الدولة الحديثة قد تراجعت عنه، وأعادت – بالتالي- الاعتبار إلى مبدأ المساواة، فلم يكن ذلك مِنة من البرجوازيات الحاكمة، ولا ثمرة صحوة ضمير، بل لأن الحق ذاك انتُزِع بكفاحات النقابات ومنظمات المجتمع المدني؛ هذه التي أفلحت في نقل المساواة من حيز الاعتراف النظري القانوني إلى حيز الحق المادي الناجز.
على النحو عينه ظل الحق الانتخابي في الترشح والتصويت حقا ذكوريا حصريا، لمئات السنين، يُقصي النساء – نصف المجتمع – من التمتع به، على الرغم من أن دساتير الغرب وقوانينه ما كفت، يوما، عن أن تتحدث عن «المساواة الكاملة» بين الجنسين. وبدءا من أربعينيات القرن العشرين، فقط، بات يسع النساء ممارسة حقهن الدستوري في المشاركة في الانتخابات: تصويتا وترشحا وولاية، وتصحيح تلك الحال من العبث السياسي بمبدأ المساواة. ومرة أخرى كُن هن وحركاتهن النسائية من انتزعن ذلك الحق من مجتمع سياسي كان لا يزال يرزح تحت أحمال ثقافة ذكورية بغيضة.
في الحالتين المومأ إليهما أعيد تصويب حال من الخلل الفادح اعتورت منظومة المساواة في الدولة الوطنية الحديثة، ففرضت عليها أن تظل صورية في مناحي عدة من وجوه تطبيقها. ولقد مس التصحيح ذاك منظومة المواطنة نفسها؛ ذلك أن هذه لا تكتمل أركانها ويطابق واقعها المادي مفهومها النظري والقانوني إلا متى كانت مواطنة كاملة غير منقوصة، أي إلا متى قامت على مبدأ المساواة الكاملة بين المواطنين في حقوقهم المدنية والسياسية.
على أن مبدأ المساواة يظل محدود النتائج الاجتماعية على الرغم مما انطوى عليه من قيمة رفيعة في بناء صرح نظام المواطنة، وعلى ما أضفاه من مضمون ديمقراطي على الدولة الحديثة. ومأتى محدوديته من أنه منحصر في نطاق العلاقات السياسية والقانونية؛ فهو يسلم بتوزيع عادل للحقوق السياسية للمواطنين من غير حيف أو تشريع تفاوت. وهو مكتسب كبير للمواطنة، وصنيع عظيم الشأن للدولة الوطنية الحديثة، لكنه لا يكفي؛ فالمساواة بين المواطنين على صعيد حقوقهم السياسية حصرا، أما على صعيد حقوقهم الاجتماعية- الاقتصادية فالقانون الحاكم هو التفاوت لا المساواة؛ وهذا الواقع كان في أساس الكثير من النقد الذي وُجه إلى المنظومة الليبرالية منذ القرن التاسع عشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى