بقلم: خالص جلبي
في العالم العربي مظاهرات، ولكن المواطن العربي لا يعرف معنى التظاهر. وكما يقول «بيير بوردو» في كتابه «العقلانية العملية»، فإن التظاهر هو إعلان تصور عن العالم. والمواطن العربي خالي الذهن عن أي تصور. ونزول كم كبير من الناس إلى الشارع قد يفضي إلى ما لا يحمد عقباه، وقد يعني إحراق المرافق العامة وتفريغ احتقان القمع الحكومي منذ قرون في كثير من الأقطار العربية. وهكذا فالجماهير عاجزة محبطة عمياء، تقابلها حكومات أعجز ينخر فيها الفساد، ومؤسسة على اعتقال الأمة في سجن جماعي. الشعوب عاجزة والحكومات أعجز، وكل في فلك واحد من العجز يسبحون.
الشعوب ترى الخلاص بالقوة في التخلص من حكومات مستبدة، وإذا نزلت إلى الشارع دمرت وكسرت، وإن تمكنت فتكت بخصومها الحكام. والحكومات ترى أن القوة هي مبرر وجودها، وكل حركة شعبية تحمل خطر إزالتها فهي تقمعها بكل سبيل. الكل يؤمن بالقوة والعنف وأن السيف أصدق أنباء من الفكر وأن الغدر سيد الأحكام، والكل لا يؤمن بالعقل والإنسان، وهو ما يفسر حالة الاستعصاء المطبقة في العالم العربي في إمكان عمل أي شيء أمام قضايا مصيرية.
هناك حلان، ولكن كل منهما يمثل استحالة، ولا يتقدم بالحل إلا بإلغاء كل حل. الأول أن تقف القيادة السياسية فتعترف في وقفة مصارحة بأنها غير شرعية، ثم تفسح المجال أمام انتخابات حرة نزيهة، وتؤسس تعددية فعلية، وتطلق صحافة حرة. لكن هذا يشبه دخول مسابقة مائة متر في سباق عالمي لإنسان معاق! ثم ماذا تفعل النخبة أمام إغراءات الامتيازات، بعد أن تحول الوطن إلى مزرعة عائلية، هل يمكن أن تتنازل عنها دفعة واحدة؟ إنها تشبه حالة اللص الذي نطلب منه أن يصبح نبيا. وأما الحل الثاني وهو مستحيل بدوره، عندما تطلب من أمة لا تعرف إلا الاستبداد في تاريخها، مثل إنسان أصيب بضمور عضلي متقدم، بعد استلقاء مديد ومرض مدنف، ونطلب منه ممارسة رياضة حمل الأثقال، إن فرض الكفر ليس كفرا. وإن الحل الأول على فرض تحققه وتحول الحكام إلى أنبياء، فإن عجز الأمة لا يسمح بتحققه.
بكلمة ثانية، إن وضع العالم العربي ميؤوس منه والخلاص فيه يخضع لمبدأ الضغط المتتالي والمحن ضمن وسطها الذهبي، كما فعل شارون يوما بتوحيد الفلسطينيين، وهو ما يذكر بقصة الجرذ والسنور. وعندما تجتمع قيادات عربية تتبادل العناق ونخب الصحة، في الوقت الذي تهيأ فيه الخناجر للطعن، فلا يمكن حلها بالكلمات المعسولة، إلا مثل معالجة سرطان الثدي بالمداواة بالأعشاب. تقول القصة إن جرذا كان يعيش في جوار سنور على خوف منه وحذر دائمين، حتى كان يوما وقع فيه السنور في شبكة صياد. فلما خرج الجرذ ورأى السنور عالقا في الحبال، انفرجت أساريره وقال في نفسه الحمد لله لقد تخلصت منه إلى الأبد. لكن فرحته لم تدم طويلا، إذ سرعان ما رأى فوق رأسه بوما يحوم يتربص به ريب المنون، وخلفه ابن آوى ينتظر فرصة للانقضاض عليه. فأحس بالخطر المحدق، فاقترب من السنور وقال له: يا صاحبي كما ترى فأنت في الحبال والصياد في طريقه إليك، وأنا فوق رأسي البوم وخلفي ابن آوى، فماذا تقول لو تعاونا على الخطر المشترك؟ فأنت تطرد عني خطر البوم وابن آوى، وأنا أقطع لك الحبال بأسناني، فتنجو من الصياد.
كان قلب السنور يدق بسرعة ينتظر موتة شنيعة، فعقد الاتفاق بسرعة، ثم هب يزمجر بشراسة في وجه البوم وابن آوى، حتى طردهما وكان الجرذ يقرض حبال الشبك، ولكنه ترك في النهاية ثلاث عقد تكفي للإمساك برجل السنور على نحو لا يتيح له الخلاص. التفت السنور إليه مذعورا، وقال: يا صاحبي هل تريد نكث العهد، ولم تمض سوى لحظات على اتفاقنا؟ قال الجرذ: لا ولكن أترك هذا أمانا لنفسي، وعند مجيء الصياد قرضت لك العقد الأخيرة، فنجوت وانشغلت بالصياد عني وفر كل منا في حال سبيله، فهذا أضمن لي ولك. وعندما جاء الصياد أسرع الجرذ، فقطع بقية الحبال وقفز السنور في وجه الصياد الذي كاد أن يسقط على الأرض، ونجا كل من الجرذ والسنور. في اليوم التالي، نادى السنور على الجرذ: هلم يا صاحبي إلي فنشرب ونأكل سوية، فقد أصبحنا صديقين. قال الجرذ: يا صاحبي لقد جمعتنا المحنة وعاد كل منا سيرته الأولى. إن شخصيات القصة يمكن استبدالها بسهولة برموز جديدة من الأنظمة العربية. والزعامات العربية اليوم عليها أن تستفيد من حكمة الجرذ والسنور، وتتعاون تحت هذا المبدأ للخلاص المشترك، أكثر من الأخلاقيات المزعومة والتاريخ المشترك وتعاليم الأنبياء. جاء في آخر سورة «التوبة»: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
نافذة:
الزعامات العربية اليوم عليها أن تستفيد من حكمة الجرذ والسنور وتتعاون تحت هذا المبدأ للخلاص المشترك أكثر من الأخلاقيات المزعومة والتاريخ المشترك