ما هو العلم؟
بقلم: خالص جلبي
ينقل عن العالم (سومرست موم) قوله عن العلم: (إن العلم كائن متقلب فهو ينفي اليوم ما أثبته بالأمس، وهو سيثبت غدا ربما ما نفاه اليوم، فهو لا يثبت على حالة واحدة، وعباده دوما في قلق مستمر).
هذه المقولة تمثل تيارا لا يقينيا في التعامل مع العلم، فهل العقل مهزلة كما وضع الكاتب علي الوردي هذا عنوان لأجمل كتبه (1)، أم المعرفة مستحيلة، أم أن العلم كائن هلامي يستحيل القبض على أي تماسك في محتوياته؟ ولكن ما هو العلم على وجه التحديد؟
عندما كنت طالبا في كلية الطب درسنا الإنسان في أربعة أبعاد، درسناه كجغرافيا وطوبوغرافيا وهو علم التشريح، ودرسناه كحركة وهو علم الفيزيولوجيا (علم الغرائز)، ودرسناه كتركيب وهو علم الأنسجة، ودرسناه كتاريخ وتغير وهو علم الأجنة والتطور الروحي ـ الحركي والباثولوجيا (علم الأمراض) وعلم النفس وأمراضها.
لفت نظري في علم (الفيزيولوجيا) في بحث أثر الماء في الحياة، أن المدرس (يومها شفيق البابا) استخدم نصف آية من القرآن (وجعلنا من الماء كل شيء حي) حركت عندي شهية البحث لمدة سبع سنوات كاملة. كانت الآية تفيد حقيقة علمية ثابتة، وكان استخداما موفقا وفي مكانه، ولكنه توقف عند نهايتها، والتي تمثل جدوى استخدام الآية وإلى أين تفضي؟ أو ما يعرف حاليا ب(الإبستمولوجيا EPISTEMOLOGY)(2)، أي فلسفة العلوم أو علم العلوم أو الدراسة النقدية للعلوم، وكانت نهاية الآية (أفلا يؤمنون).
العلم اضطر إلى تأسيس قاعدة صلبة له؛ فطور علما جديدا هو فلسفة العلوم، وهي طريقة الزاوية المفتوحة في فهم الوجود عند سقراط، حيث تشكل الإجابة عن سؤال الباب لسؤالين جديدين! ولا يزيد هذا إلا الإشباع المؤقت له لا أكثر، ليضع العقل من جديد سؤالا جديدا، وهكذا بلا نهاية، في قنص سلسلة من الحلول، وخرق فضاءات معرفية بدون توقف، وتأسيس وتوليد علوم جديدة، في حركة نهم ونمو معرفي، لا يعرف الحدود أو الاستقالة أو الإشباع.
أسئلة العلم الكبرى
منذ الطفولة ويقظة العقل الإنساني تتدافع كحمم البركان الذي يغلي داخل كيمياء الدماغ في طرح أسئلة كبرى، في تفسير الوجود المحيط بنا، في سباحة في اللحظة الواحدة بين قنص أطراف من الحقيقة، والارتماء من حين لآخر في مصائد ومطبات وشباك الخرافة.
العلم كحركة تأسيس معرفي تقترب من الصحة العقلية، والخرافة تنظم عملية اغتيال التفكير. العلم من حيث كونه نموا لطاقة العقل عند الإنسان، والخرافة التي تستلب إرادة الفهم عنده.
أسئلة العقل الكبرى تتزاحم وتتراكم وتضغط بحثا عن الأجوبة: هذا الكون المعقد المتشابك الذي يحيط بنا ما هو تكوينه؟ ما هي طبيعة حركته؟ لماذا يتغير بدون توقف؟ هل له طريقة في التعامل؟ هل يقوم على الفوضى واللاسننية، أم له قوانين تنتظم حركته؟ ثم ما هي طبيعة هذه القوانين إن كانت موجودة؟ هل يمكن فهم الكون، أم أن المعرفة مستحيلة؟ من أين جاء؟ هل له بداية؟ هل له غاية؟ هل هو مبرمج؟ وإذا كان مبرمجا فما هو برنامجه؟ ما هي طبيعة الصيرورة التي تغلف حركته؟ لماذا كان الجمال مركزيا في الكون في كل شيء ومكررا ومعادا؟ هل يقوم الكون على العبثية واللامعنى، أم له معنى؟ هل هو مرشح للديمومة والأزلية، أم أنه معرض للانهدام والفناء والانحلال والنهاية التي هي ضرورة منطقية لكل بداية؟ ما هي الحياة؟ لماذا اقترنت بالموت؟ لماذا تطمح النفس إلى الخلود والصحة والشباب؟
هذه الأسئلة وغيرها تمثل ضغطا ساحقا على العقل لا يستطيع التملص من قبضتها للإجابة عنها؟
مفاتيح العلم الخمسة الأساسية:
لعل القفزة الأولى أمام العقل هي فهمه لطبيعة الوجود وحركته، مم يتكون هذا الوجود؟ ما هي طبيعة الحركة فيه؟
يمسك العلم اليوم بمفاتيح أساسية للتعامل مع الوجود؛ فهو يرى الوجود من خلال خمس حقائق أساسية: المادة والطاقة، الزمان والمكان، والقوانين التي تنتظم حركته. أما القوى الأساسية في الوجود، فأمكن معرفتها وتصنيفها حتى الآن بخمس قوى أساسية أيضا: الكهرباء والمغناطيس، الجاذبية (وهي أضعفها)، قوى النواة الضعيفة والقوية. واستطاع مكسويل في القرن الفائت دمج الكهرباء بالمغناطيس، لتشكيل قوة موحدة بقانون موحد هي القوة الكهرطيسية، وذكر الفيزيائي البريطاني (ستيفن هوكينغ)عن محاولة العلماء اليوم الى الوصول إلى قانون (توحيدي) يضغط قوى الكون كلها في طاقة واحدة (3)، كما يحلم اليوم العلماء بدمج منظومات المعرفة الأساسية بين قوانين نيوتن وميكانيكا الكم والنسبية في منظومة معرفية واحدة، لفهم الكون بشكل توحيدي.
لا يعني الإمساك بهذه المفاتيح المعرفية وضع اليد على أقفال خزائن قارون الكونية المعرفية المطلقة، بل الخطوات المعرفية الأولى لفهم الوجود والتعامل معه؛ فالكون في حالة زيادة (يزيد في الخلق ما يشاء) والعلم لا يعرف التوقف، فطبيعته تقدمية ولا يمكن محاصرته.
عندما وضع العقل يده على مفتاح القانون (السنة) في فهم الكون، استطاع أن يصل إلى ثلاثة أمور جوهرية: أولا تحطيم الخرافة، ثانيا النمو العلمي من خلال التراكم المعرفي البطيء، أي إنه وضع قدمه في طريق ليست لها نهاية من الكمال الإنساني. وثالثا ولعلها الأهم التسخير، أي الخدمة المجانية؛ فطبيعة الكون ـ كمونيا ـ تسخيرية، والتسخير كما ذكرنا هو الخدمة المجانية، وهي متاحة ومعروضة لكل من يضع يده على سر القانون السرمدي في الوجود، ولا علاقة له بدين وثقافة.